الأربعاء 13 كانون الأول (ديسمبر) 2023

مسارات عمل المقاومة: منهجيّة القتال غير المُتناظِر

ورود كاسوحة*
الأربعاء 13 كانون الأول (ديسمبر) 2023

المراوَحة التي أصابت انتقال الجيش الإسرائيلي، برّياً، من شمال غزّة إلى جنوبها، هي نتاج مجموعة عوامل متداخِلة، سياسية وعسكرية، أفضَت، مع كلّ التدمير الحاصل في القطاع، إلى عجزٍ كامل عن قطف ثمار التغطية الأميركية الكاملة لاستمرار الحرب. التفويض الأميركي المُعطى لـ«إسرائيل» بهذا المعنى، لم تطرأ عليه تعديلات كبيرة بعد الهدنة، سوى في جعل تدفُّق الإمدادات الإنسانية والإغاثية إلى القطاع «أكثر استدامة». أي تطعيم الحرب، بعد معاودة استئنافها، معدّلةً، بغطاء مدني وإنساني، حتى يَسهُل الفصل، نظرياً، أثناء الاستهداف، من الجوّ والبرّ والبحر، بين العسكريين والمدنيين في غزّة. هذا لا يعقِّد الأعمال القتالية للصهاينة كما قد يبدو للوهلة الأولى، بل يسهّلها ويهيّئ لها الأرضية، لتسريع إنجاز المهمّة المطلوبة في مواجهة «حماس». بمعنى جعل يد «إسرائيل» طليقة أكثر، في تحقيق الأهداف التي وضعتها لحربها، لجهة تدمير البنية التحتية، السياسية والعسكرية، للحركة. غير أنّ ذلك لم يجعل الأداء العسكري الصهيوني أفضَل، لأنّ محاولة ضبط إيقاع المعركة أميركياً، بحيث تصبح متناسبة مع المعايير الخاصّة بـ«تفادي استهداف المدنيين»، سيظلّ يصطدم، قبل الهدنة وبعدها، ومع كلِّ انتقالٍ إلى مرحلة جديدة في الحرب، بالافتقار إلى خطّة واضحة في مواجهة المقاومة.

تعذُّر الإمساك بالشمال
الإخفاق لم ينتظر اكتمال مرحلة الانتقال برّياً إلى الجنوب حتى يظهر. إذ لا يزال التدخّل، في الشمال نفسِه، يواجه صعوبات، مع استمرار فاعلية المقاومة وقدرتها على الإشغال الناري، حتى وهي تخسر أجزاء متزايدة من الأرض لمصلحة الصهاينة. «الإمساك بشمال القطاع» يصبح في هذه الحالة محضَ دعايةٍ سياسية وعسكرية، أكثر منه واقعاً ميدانياً، لأنّ نقل القوّات إلى الجنوب لم يحصل بسبب اكتمال التدخّل البرّي هناك، بقدر ما كان نتاج حاجة عملياتيّة للجيش الصهيوني للتفلّت من مهمّة الإمساك الكامل للشمال، في ظلّ حالة الاستنزاف التي تتعرّض لها قوّاته جرّاء أعمال القنص والالتحام التي لا تزال تقودها المقاومة في مفاصل معيّنة من شمال القطاع.
«السيطرة»، بهذا المعنى، حصلت من دون إلحاق هزيمة تُذكر بالمقاومة هناك لجهة البنية العسكرية والقدرة على شلّ القوّة النارية التي لا تزال قادرة على الوصول إلى المستوطنات القريبة والبعيدة. الفشل هنا هو في العمى الكامل عن تتبُّع مصادر إطلاق النيران، وبالتالي الوصول إلى مواقع القيادة والسيطرة الفعلية التي تدير المعركة وتحافظ على استمراريّتها وزخمها، حتى في الشمال. وهذا ما يفسّر الحاجة الصهيونية إلى التعويض عن هذا العجز، عبر استعراض القوّة في مواجهة السلطة الرمزية التي عُلِّق دورها، عملياً، إبّان اندلاع الحرب. عَجْز الجيش الصهيوني عن الحسم هو الذي ينقل مشهدية «الانتصار» إلى الحقل المدني، حيث التهجير من الشمال إلى الجنوب وتدمير المؤسّسات الحكومية هما المعادل الوحيد لغياب النصر العسكري، بما يعنيه من إمساكٍ كاملٍ للأرض، من تحت ومن فوق، مع وجود كلّ هذه الأنفاق التي تستخدمها المقاومة في عملياتها على امتداد مساحة القطاع.

الأنفاق كمحور للعمل القتالي
في حالةٍ كهذه، لا تعود رموز السلطة المدنية هي المدار الفعلي للمواجهة. فهذه المؤسّسات كانت تدير القطاع كما تفعل أي سلطة سياسية في أوقات السلم، لكن بمجرّد الانتقال إلى حالة الحرب، ولا سيّما في شكلها الدفاعي الحالي، تتعطّل هذه الوظيفة، تلقائياً، وتنتقل الشرعية بالتالي إلى الذراع العسكرية التي تقود المواجهة، من موقعها في الأنفاق والتحصينات القائمة تحت الأرض. والحال أنّ القدرة على مجابهة هذه القوّة المحصّنة هي الغائب الأكبر عن استراتيجية الصهاينة، سواء في الشمال أو في الجنوب. إذ ليس ثمّة أرقام أو تقارير تثبت تضرُّر البنية العسكرية الصلبة للمقاومة، بدليل استمرارها في الإشغال الناري النَشِط لقوّات الاحتلال، حتى في الشمال الذي تدّعي القيادة الصهيونية للحرب الإمساك به.
عدم المساس جدّياً بهذه القدرة، بعد مضيِّ شهرين على الحرب، وانقضاء مرحلتها الأولى، يعني أنّ سردية الإمساك بالشمال، حتى وإن كانت صحيحة جزئياً لجهة تهجير المدنيين إلى الجنوب وتدمير رموز السلطة السياسية، ليست هي المحدّد الفعلي لحصيلة المواجهة. لنقل كذلك إنّ المقاومة الفلسطينية، ومنذ انتقالها إلى وضعية الدفاع بعد الانتهاء من المرحلة الأولى للحرب، وهي تدير «حرب أنفاق» بالمعنى الفعلي للكلمة. وهذا ما يضع كلّ «إنجازات» الجيش الصهيوني، العسكرية، ليس موضعَ تساؤلٍ فحسب، بل أساساً خارج المنطق الذي يقود هذه الحرب.
ليس ثمّة ندّية هنا أو حتى تناظُر بين القوّتين، لأنّ الحرب في غزّة غير متناظِرة بطبيعتها، ويستحيل قياسُ نتائجها بالوسائل والأدوات الخاصّة بالحروب التقليدية بين الجيوش النظامية. فالنصر في هذا الشكل من الحرب لا يعني سحق الخصم، بل مواجهته بأساليب قتالية غير معهودة، بحيث لا يعود ممكناً له تسجيل انتصار سهل، كما تفعل الجيوش النظامية المدجّجة بالتكنولوجيا العالية، عادةً، ضدّ خصمٍ ضعيف. وفي الحالة التي تمثّلها هذه الحرب، فإنّ المعادل لهذا التوازن بين القوّتين هو وجود الأنفاق التي يتمحور قتال المقاومة حولها وانطلاقاً منها، باعتبارها درعَها المطلَق في مواجهة الجيش الإسرائيلي، الذي يتحرّك في مصفحات ومدرّعات، ويأتي من الجوّ والبحر، ليقصف ويدمّر، ويُحيل القطاع خراباً.
حين يواجه المقاتِل الذي ينتمي إلى مقاومة مسلّحة أو حركة تحرّر وطني جيشاً كهذا، فإنّ شكل قتاله كلّه يختلف. ومع هذا التغيُّر تتغيّر طبيعة الأهداف بدورها، ويصبح اصطياد الهدف أو قنصُه انطلاقاً من «الدرع» الذي تمثّله الأنفاق هو محور العملية القتالية. القتال الفعلي هنا لا يجري خارج الأنفاق أو بعيداً عنها كثيراً، إلى درجة يبدو معها جَسَد المقاتل الفلسطيني، من «كتائب القسام» أو «سرايا القدس»، وكأنه ملتحِمٌ بالنفق. لا يخرج منه إلا ليعود إليه، بعد أن يكون قد أنجز مهمّته في تفخيخ المدرّعة الإسرائيلية أو الالتحام بالقوات الإسرائيلية الراجلة أو المدرّعة، من المسافة صفر.

ملحمية الأداء ورمزيّته
ثمّة بُعدٌ ملحميّ في هذا الشكل من القتال، لم تَلحَظه حتى السرديات المناصِرة للمقاومة. وهو ذاتُه الذي أضفى فاعلية كبيرة على نشاطات لم تكن في صلب فعل القتال، لكن تأثيرها كان مساوياً للعمليات العسكرية نفسِها. الأداء الإعلامي أثناء عملية التبادل كان أكبرَ مثالٍ على ذلك، حيث توقَّفَ العمل العسكري بجوار الأنفاق وداخلَها لبرهة، وخرَجَ المقاتلون الذين قادوا الأعمال القتالية أو شاركوا فيها، ليشرفوا على عملية تبادل الأسرى والمحتجزين، مع طواقِم الصليب الأحمر الدولي. الانضباط الذي شَهِدته العملية، حتى في التعامل مع المحتَجزين الإسرائيليين، كان امتداداً للتفوّق وعدم التناظُر في الأداء العسكري، حيث الأخطاء قليلة ونادرة، والمهارة في التعامل مع المشهد تتجاوز وظيفة التبادُل نفسِه، إلى تقديم صورة عن النشاط المدني أو «التواصلي» للمقاتلين، لا تقلُّ أهميّةً، في دلالاتها ورمزيّتها، عن الفعل القتالي نفسِه.

وهي أتت لتؤكّد، في سياق الصراع، ليس فقط على أهميّة «البعد الثقافي»، كعامل مجابهة إضافي، بل أيضاً على محورية تفكيك المقارَبة الصهيونية للعلاقة مع المقاتِل الفلسطيني الذي لا يجب أن يظهر، وفقاً لها، إلا كمخرّب أو مغتصِب أو قاتل أطفال ونساء. وهي بوصفها سردية مهيمنة ومضلِّلة إلى أبعد الحدود، تبدو بمثابة استكمال أو امتداد لحرب الإبادة التي تُشَنّ على الفلسطينيين، في غزّة، ما يجعل مواجَهتها أو تفكيكها، امتداداً أيضاً للمقاومة العسكرية نفسِها. والحال أنّ الاستفادة من هذا التقاطع بين نشاطات المقاومة المختلفة والمتجاوِرة، كان ليكون أفضل لو استمرّت مفاعيل الهدنة لوقتٍ أطول. ذلك أنّ الاستثمار في هذا الجهد، بحيث يصبح مكمّلاً للعمل القتالي، بحاجة إلى تذخيرٍ أكبر للنشاط المدني وجعله مستداماً، وهذا غير ممكنٍ أو حتى مُتاح، في أوقات الحرب.

خاتمة
على أنّ ما أُتيح للمقاومة أن تفعله في الأسبوع الذي شَهِدَ تطبيق الهدنة، كان كافياً لتظهير المدى الذي يمكنها الوصول إليه، مدنياً وشعبياً، في حال إيقاف الحرب، عبر الهُدَن أو وقف إطلاق النار، لمُدَد أطول، مستقبلاً. الشرعية التي أمْكَن الحصول عليها، في الوقت القصير نسبياً الذي استغرقته الهدنة، لا يمكن انتزاعها على المدى البعيد، حتى لو تضرّرت البنية العسكرية للمقاومة على نحو جدّي. الاستراتيجية المتّبعة حالياً، في تنويع أشكال العمل، بين القتال عبر المحاور المختلفة أثناء الحرب، وتكثيف النشاط الإعلامي والتواصلي خلال الهُدَن، لا يضاعِف من شرعية المقاومة فحسب، بل يُثبِت كذلك أهليّتها لإدارة الوضع بعد الانتهاء من الحرب.
ثمّة ضرورة لعدم ترك هذه المهمّة التي لا يجري بحثها حالياً بالشكل الكافي، فلسطينياً وعربياً، لاقتراحات الغرب. إذ يتّضح من كلّ المقاربات التي تم تسريبها عبر الصحافة الغربية، أنّ الهمّ الأكبر لدى الإدارة الأميركية، ومعها إسرائيل، وحتى الاتحاد الأوروبي، هو في جعل نتائج الحرب متناسبة مع «البدائل» التي يجري تحضيرها لإدارة القطاع بعد الانتهاء من التدخّل البرّي الإسرائيلي. المُقترَحات جميعها لا تَلْحَظ وجوداً للمقاومة أو حركة «حماس» في غزّة بعد الحرب، سواء كسلطة سياسية أو كتنظيم عسكري، وهو ما يتعارض مع مسار الحرب لغاية الآن. لنقل هنا إنّ الحسم لمصلحة «إسرائيل»، والذي تبني عليه هذه الأطروحات، ليس غير قائمٍ فحسب، بل هو أيضاً غيرُ ممكن، أقلّه، حتى يدرك هؤلاء أنّ ثمّة معضلة اسمها الأنفاق، والانتهاء منها بالطريقة المقترَحة حالياً شبه متعذّر، إن لم يكن مستحيلاً.
حتى ذلك الوقت، ستظلّ هذه المقترحات بمثابة أُطُر نظرية، لحل «مشكلة غزّة»، على ضوء عدم وجود تصوُّر لدى الصهاينة لليوم التالي للحرب، ما عدا حديث نتنياهو، الغارق في أزمته السياسية الداخلية وفي الخلافات مع مجلس الحرب، عن «الإمساك بها أمنياً». وهو ما يُقلِق الإدارة الأميركية أكثر من الأداء العسكري الإسرائيلي نفسه، ويدفعها إلى التعجيل في وضع تصوُّراتٍ لا تبدو واقعية كثيراً في ظلّ ميزان القوى الذي لا يزال يحفظ للمقاومة موقعاً متقدّماً، ليس في المعركة فحسب، بل أيضاً في الإدارة المستقبلية للقطاع بعد الانتهاء من الحرب.

* كاتب سوري



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2183677

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

28 من الزوار الآن

2183677 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 30


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40