الأحد 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023

نهاية نتنياهو ... نهاية آخر المحافظين الجدد

الأحد 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023

لا تزال رحى الحرب دائرة في غزة بين المقاومين الفلسطينيين من جهة والاحتلال الإسرائيلي من جهة أخرى، وسط مجازر يرتكبها هذا الاحتلال للتغطية على عجزه عن تحقيق إنجاز ميداني يقدّمه على أنه انتصار يجعله يصل إلى وقف لإطلاق النار من موقع قوة.
نتائج أولية لمعركة غزة

على الرغم من أن الحرب لم تنتهِ إلا أنه يمكن استخلاص بعض نتائجها من الآن. فالهجوم الذي قادته حركة المقاومة الإسلامية حماس في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر2023، وما تلاه من مواجهات مع قوات الاحتلال، وجّه ضربة للعقيدة الأمنية الصهيونية القائمة على نقل المعركة إلى أرض الخصم، كما وجّه ضربة قاصمة لعقيدة الأمن القومي الصهيوني القائمة على تأمين ملاذ آمن لليهود في العالم.

فالمقاومة نقلت المعركة إلى العمق الصهيوني لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، كما أنها أظهرت أن لا مكان آمناً على كامل التراب الفلسطيني، ما جعل الصهاينة يحتشدون للمغادرة في المطارات ومن ضمنهم أعلام إسرائيليون مثل إيهود باراك.

إضافة الى ذلك فإن المقاومة وجّهت ضربة قاصمة للمشروع الشرق أوسطي القائم على إعطاء الدور الريادي في المنطقة لـ “إسرائيل”، وتهميش القوى العربية والإسلامية التي كان لها دور ريادي في التاريخ العربي الإسلامي بالاستناد إلى قواها الكامنة. وبعد عشرين عاماً من الحروب التي أطلقتها الولايات المتحدة في المنطقة، فإنها ظنت أنه يمكنها أن تفتتح هذا النظام الشرق أوسطي الجديد عبر إطلاق الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي.

وقد استند هذا المشروع إلى شراكة بين أوروبا الواقعة تحت الهيمنة الأميركية، والهند المحكومة من حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي المعادي للمسلمين، والتي تجنح أكثر فأكثر نحو الشراكة مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين.

وقد أعطي الدور لـ “إسرائيل” لتكون صلة الوصل بين أوروبا والهند، وذلك بإقامة شراكة بينها وبين دول عربية متحالفة مع الولايات المتحدة مثل الأردن والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على أن يهمّش هذا المشروع القوى العربية والإسلامية التي كان لها دور ريادي مستند إلى قواها الذاتية مثل مصر وسوريا والعراق وتركيا وإيران.
المحافظون الجدد

هذا يعيدنا إلى المحافظين الجدد ورؤيتهم في فرض نظام أحادي القطبية في العالم بزعامة الولايات المتحدة مع عرقلة صعود الصين وروسيا كقوى عظمى. والمحافظون الجدد هم جزء من حركة سياسية بدأت في الولايات المتحدة خلال الستينيات خلال حرب فيتنام، بين صقور السياسة الخارجية الذين أصبحوا محبطين من سياسات الحزب الديمقراطي التي تجنح إلى عدم المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى غضبهم من تنامي تيار اليسار الجديد الذي كان يتنامى في العالم وفي الولايات المتحدة. وقد دفع هؤلاء إلى اعتماد سياسات مواجهة مع الاتحاد السوفياتي ومع كل من يتعارض مع سياسات الولايات المتحدة.

وقد طوّروا أجندة تنادي بالترويج الأحادي للديمقراطية والتدخّل في الشؤون الدولية، استناداً إلى الفلسفة العسكرية المتمثّلة في “السلام من خلال القوة”.

أصبح العديد من أتباع المحافظين الجدد مؤثّرين سياسياً خلال الإدارات الرئاسية الجمهورية في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبلغ نفوذهم ذروته خلال إدارة جورج دبليو بوش، عندما أدّوا دوراً رئيسياً في الترويج والتخطيط لغزو أفغانستان في العام 2002 والعراق في العام 2003. وكان من بين المحافظين الجدد البارزين في إدارة جورج دبليو بوش بول وولفويتز، وإليوت أبرامز، وريتشارد بيرل، وبول بريمر.

وعلى الرغم من أنّ نائب رئيس الولايات المتحدة ديك تشيني ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد لم يعرّفا نفسيهما بأنهما من المحافظين الجدد، إلا أنهما عملا بشكل وثيق جنباً إلى جنب مع مسؤولين من المحافظين الجدد في تصميم الجوانب الرئيسية لسياسة جورج دبليو بوش الخارجية. خاصة في دعمهم لـ “إسرائيل” وتعزيز النفوذ الأميركي في العالم العربي.

وقد تأثّرت سياسات إدارة بوش الداخلية والخارجية بشدة بأيديولوجيين رئيسيين مرتبطين بالمحافظة الجديدة، مثل برنارد لويس، ولولو شوارتز، ودانيال بايبس، وديفيد هورويتز، وروبرت كاجان، وصامويل هنتنغتون وغيرهم.
العلاقة مع نتنياهو

شكّل العام 1995 نقطة الانطلاقة لمشروع المحافظين الجدد للهيمنة على العالم حين عقدوا مؤتمراً أصدروا فيه مذكّرة تلخّص الخطوط الرئيسية لسياساتهم. وكان جزء من هذه السياسات هو إعادة رسم الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط مع اعتماد “إسرائيل” كقاعدة للنظام الشرق أوسطي الجديد. لذلك فهم أصدروا وثيقة خاصة بالنسبة لسياساتهم في المنطقة العربية تدعو إلى عرقلة عملية السلام التي كانت قد انطلقت في العام 1991.

وقد عنونت الوثيقة بـ “كلين بريك” أو الانفصال التام، ودعت إلى تحوّل استراتيجي كبير في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وتشجيع الولايات المتحدة على اتباع نهج أكثر حزماً تجاه دول الشرق الأوسط لتعزيز المصالح الأميركية. وكان أحد المبادئ الأساسية لسياسة “الانفصال النظيف” هو الدعوة إلى إزالة نظام صدام حسين في العراق، وإقامة قواعد أميركية في المنطقة، وإطلاق ديناميات جديدة في الشرق الأوسط تحت مسمّى الفوضى الخلّاقة. إضافة إلى ذلك، اقترح مفهوم “الانفصال النظيف” زيادة الدعم لـ “إسرائيل” وتعزيز التحالف بين “إسرائيل” والولايات المتحدة.

وقد وجد المحافظون الجدد ضالتهم في “إسرائيل” ببنيامين نتنياهو الذي كان قد انتخب زعيماً لحزب الليكود في العام 1993، والذي تزعّم المعارضة الإسرائيلية لعملية السلام وما نتج عنها من اتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993 والأردن في العام 1994. وقد تصاعدت قوة نتنياهو السياسية في العام 1995 بما جعله يعرقل التقدّم على مسار السلام مع سوريا.

وبعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين في خريف العام 1995 تصاعد نفوذ اليمين بقيادة الليكود ونتنياهو وصولاً إلى انتخابه رئيساً للوزراء في ربيع العام 1996.

وفور وصوله إلى السلطة قام نتنياهو بتجميد مفاعيل عملية السلام حتى العام 1999 حين خسر الانتخابات في مواجهة حزب العمل بقيادة إيهود باراك. بين العامين 2000 و2006 وجد المحافظون ضالتهم في أرييل شارون الذي تزعّم حزب الليكود وأدّى اقتحامه للمسجد الأقصى في أيلول/سبتمبر 2000 إلى إشعال الانتفاضة الثانية، وفاز على باراك بالانتخابات في العام 2002، وكان له يد في اغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في العام 2004.
تطبيق أجندة المحافظين الجدد

وقد ترافقت هذه السنوات الست مع وصول جورج دبليو بوش إلى السلطة في الولايات المتحدة في العام 2001 ما أتاح للمحافظين الجدد تطبيق أجندتهم. ففي خريف العام 2001 بدأ الأميركيون باجتياح أفغانستان بذريعة الرد على اعتداءات الـ 11 من أيلول/سبتمبر، وفي العام 2003 اجتاحوا العراق على أمل أن يؤدي هذا إلى فوضى خلّاقة تعيد خلط الأمور في الشرق الأوسط. وقد حاولوا إسقاط الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ووجّهوا تهديدات إلى سوريا وصولاً إلى دعمهم انقلاباً سياسياً في لبنان في العام 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ما أدى إلى خروج سوريا بعد ثلاثين عاماً من دخول قواتها لهذا البلد. وتلا ذلك دعم واشنطن لعدوان تموز/يوليو 2006 على لبنان.

لكنّ الأجندة الأميركية تعرقلت عند فشل “إسرائيل” في القضاء على حزب الله في العام 2006، وعند فشل واشنطن في السيطرة على العراق نتيجة نضال المقاومة العراقية. هذا أدى إلى أن تكون حربَا أفغانستان والعراق مكلفتين بشكل كبير بالنسبة للولايات المتحدة، ما ساهم في اندلاع أزمة اقتصادية فيها في العام 2008.

هذا شكّل أول انتكاسة كبرى في مشاريع المحافظين الجدد، إلا أنهم وجدوا ضالتهم في باراك أوباما الذي تبنّى أجندتهم لكنه أراد تطبيقها عبر الوسائل الناعمة. وهذا جعله يرعى “الربيع العربي” الذي اندلع بعد عامين من عهده الأول الذي قضاه في التحضير لهذا “الربيع العربي” والذي ساهم في إطلاق ديناميات فوضى خلّاقة أدت الى الإطاحة بعدد من الأنظمة في الشرق الأوسط، من ضمنها تونس وليبيا ومصر واليمن. إلا أن هذه الأجندة وجدت نفسها عاجزة أمام صمود سوريا.

وبعد نهاية ولاية أوباما الثانية، ونتيجة عرقلة مشاريع المحافظين الجدد، واجهت الطبقة السياسية الأميركية أزمة ترجمت بوصول رئيس من خارج النخب التقليدية وهو دونالد ترامب.

وقد حاول المحافظون الجدد احتواءه عبر تطعيم فريقه بعدد من أركانهم، من ضمنهم جون بولتون الذي عيّن مستشاراً للأمن القومي. لكن هذا الرئيس وعلى الرغم من دعمه لـ “إسرائيل”، إلا أنه كان ينطلق من أجندة محلية أميركية لا من مشروع إمبراطوري للهيمنة الأميركية في العالم. هذا جعله لا يتجاوب مع المحافظين الجدد وصولاً إلى طرد بولتون من إدارته.
نهاية نتنياهو

لا شك أنّ الأزمة التي واجهها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة انعكست سلباً على “إسرائيل”. والجدير ذكره أن نتنياهو عاد إلى السلطة في العام 2009 ليرافق مرحلة تطبيق أجندة المحافظين الجدد في المنطقة العربية عبر “الربيع العربي”. وحتى العام 2019 بقي نتنياهو أقوى زعيم صهيوني في “إسرائيل” من دون منازع. إلا أن أزمته بدأت في العام 2019 تحت عنوان ملاحقته بتهم فساد.

وليس غريباً أن يترافق دخول نتنياهو في طور الأزمة مع إفلاس مشروع المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وحول العالم، وأيضاً في المنطقة العربية. هذا جعله يدخل الكيان الصهيوني في طور الأزمة التي ترجمت بإجراء خمسة انتخابات في خمس سنوات أنتجت حكومات هزيلة وساهمت باللا استقرار السياسي والأمني.

وقد توّجت هذه الأزمة الإسرائيلية بطوفان الأقصى الذي هاجمت فيه حماس ومعها الفصائل الفلسطينية الإسرائيليين رداً على اعتداءاتهم على المسجد الأقصى، وهو ما كان سمح به نتنياهو لإرضاء اليمين الصهيوني المتطرّف من أجل إقناعه بدعمه انتخابياً. هذا جعل نتنياهو مسؤولاً عن الفشل العسكري والأمني والسياسي الذي أدى إلى الفشل في مواجهة “الجيش” الإسرائيلي في مواجهة هجوم الفصائل الفلسطينية، عدا عن فشل “الجيش” في تحقيق نتائج ميدانية باستثناء مجازره ضد المدنيين.

من هنا إن عملية طوفان الأقصى ستعلن الوفاة السياسية لنتنياهو كآخر المحافظين الجدد، نتيجة فشل مشروع المحافظين الجدد الأميركيين، وهو من رافق انطلاق مشروعهم في العام 1995، وهو من سيشكّل عنوان دفن مشروعهم.

- جمال واكيم
أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2184110

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2184110 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40