السبت 16 تموز (يوليو) 2022

«الأخبار» : ملف غسان كنفاني ما تبقّى لنا....

السبت 16 تموز (يوليو) 2022

لا يرحل العظماء، تتبدّل مواقعهم فقط. الديباجة السابقة مطروقة في وصف الكبار، للتعبير عن مكانتهم. لكن غسان كنفاني، الراحل الذي غاب فقط، بقي في موقعه الذي رسمته فلسطين له. فلسطين التي ما إن كبر فيها، حتى هُجّر منها، هي ذاتها التي نضج على وعيها وحياتها، وإيمانه بتحريرها من الاحتلال وخلّانه، الذين تكاثروا على هوامش الحاضر والأمس والمستقبل. من قرأ غسان، من يقرأ غسان، سيقرأ القادم، إسرائيل المهزومة على أبواب فلسطين. من يقرأ غسان، سيقرأ فقط، فلسطين الحق والحقيقة.

غسان كنفاني يدعوكم إلى المقاطعة

كم من المواطنين العرب، خلال الأيام القليلة الماضية، ردّ إلى البائع زجاجة كوكاكولا ورفض، دون إلزام ولا جزاء، شربها؟
تقول القليل؟ أقول لك كلا!
كثيرون هم الذين فعلوا ذلك، أكثر بكثير ممّا تتصور: لقد تحققت من الأمر بنفسي، وقال لي أكثر من بائع إن أكثر من زبون في اليوم الواحد يرد له زجاجة الكولا، ويرفض أن يشربها...
بل أكثر من ذلك: رأيت بائعين وضعوا صناديق الكولا خارج محلاتهم وردوها إلى الموزّع كما استلموها...
تقدّم خطوة أخرى واسأل:
- أي نوع من الناس هذا الذي يرد زجاجة الكولا؟
وسوف يجيئك جواب واحد:
- الناس البسطاء، عمّال وطلاب ورجال ذوو ملابس متواضعة.
بكلمة أخرى: الشعب.
هناك أناس لا تعرفهم أنت، ليس بوسعك أن تتصورهم لأن مدى شاسعاً من الغربة يمتد بينك وبينهم، ولكنهم يستطيعون أن يكونوا، دون أن نعلم، بشراً أكثر إخلاصاً لأنفسهم منك، بل أيضاً أكثر إخلاصاً للوطن الذي أخذت منه أنت أكثر ممّا أعطاهم.
أولئك، أمامك ووراءك وفوقك، ينطقون ضمير هذا الوطن في غيابك

... ويرفضون حين يقفون أمام أنفسهم أن يضعوا على أفواههم زجاجة الدم الداكن.. نعم، بينهم وبين أنفسهم، بوحي هذه العلاقة العريقة، الراسخة، التي تستعصي على الارتشاء، القائمة في أعماقهم قبل أن تولد أنت، والتي ستظل بعد أن تمضي.. بينهم وبين شيء اسمه: قضية.
نعم، بلا إلزام ولا جزاء.. لأن الضمير الوطني الذي تحكي عنه زوراً يعيشونه، وهم يعرفون أكثر ممّا تعرف أن هذا الضمير فوق الإلزام، ولكنه أيضاً أكبر من الجزاء.
وبوسعك أن تشرب أنت ما شئت، وبوسع غيرك أن ينام على بيع الدم الداكن في زجاجات، ولكنهم هم الذين سيرفضون، وهم الذين سيزيدون يوماً بعد يوم وهم أخيراً الذين سينتصرون على الزجاجة الكريهة...
تلك التي تشج جبين العرب الآن..
..يا صديقي!

(غ. ك)

أيهم السهلي: الطريق إلى فلسطين مفتوحة

مقلقة الكتابة عن غسان كنفاني، وتشغل البال، فعن من سأكتب، ولمن؟ عن هذا الرجل الذي أعجب أشد الإعجاب بمنجزه ربطاً بسيرة حياته التي تتقاطع مع معظم الفلسطينيين في تلك المرحلة.

فهذا الشعب كان مكلوماً بأرضه، مصاباً بالبحث عن جدوى من البقاء، وإذ به يقوم من بين الخيام ليعلن ولادته الجديدة نحو ثورة فلسطينية ستغيّر، بعد وقت وفي أواسط الستينيات من القرن الماضي، حياة الفلسطينيين، وتحولهم من لاجئين إلى ثوار وفدائيين يقاتلون من أجل العودة إلى أرضهم.
ثورة جمعت الجميع، والتفّت حولها الجموع في العالم، فنالت حصتها من التضامن والنضال، فخاض غمار هذه الثورة رجال من البلاد العربية، كما من اليابان والصين وباكستان وغيرها من دول العالم الحرة.

علم هؤلاء جميعهم، أن ثورة يقودها أبناء قرى ومدن مهجرين، لا يملكون أي شيء سوى الخيمة التي صار هدم عمدانها والعيش في العراء أهون من استمرار الانكسار.
كان غسان كنفاني واحداً من هؤلاء الذين هدموا الخيمة وخرج في العراء ليرتدي طريقه نحو فلسطين التي لم يعد إليها بجسده، إنما محمولاً على الأكف نحو مقبرة شهداء فلسطين في بيروت وفي كل مكان.

هدم غسان للخيمة، كان بالتمرد وتسلق الجبال، كان يكتب عن فلسطين، ويكتب عن الضياع، فأمّ سعد اللاجئة في مخيم برج البراجنة، بطلة روايته الشهيرة، هي بطلة في حياته الشخصية وحياة عائلته الصغيرة والكبيرة التي تحمل دمه حتى اليوم. ومثلها حامد في «ما تبقّى لكم» وحتى زكريا السيّئ.

في قراءة غسان كنفاني، ليس هناك متّسع للاستمتاع بالأدب وحرفته فقط، فالكتابة لديه، بقدر ما هي موثّقة للأحداث ومجترحة لها، هي أيضاً أداة للانتصار على الهزائم الداخلية والخارجية لدى الفلسطيني والعربي المكسور منذ النكبة وحتى اليوم. فالدم وحده لن ينتصر، والكتابة وحدها لن تنتصر، ولا حتى الرموز وتقديسها، والاستعانة بمهاراتها في النضال، فالنصر الذي جرّب غسان أن يمدّنا به، مدلوله ثابت، التكامل في العمل، أن نناضل، ليس بما أوتينا من قوة، بل أن يكون نضالنا سلوك حياة، أن يكتب الكاتب، ويلحّن الموسيقي، ويرسم الفنان، ويعالج الطبيب، ويبني المهندس، ويدافع المحامي، وينظف جامع القمامة، والجميع الجميع، يقاتل في اللحظة التي ستأتي في وجه المستعمر، وفي وجه الفاسد وفي وجه المطبّع وفي وجه من أدخلوا قضيتنا في حالة عطالة مميتة.

في قراءة غسان كنفاني، ليس هناك متّسع للاستمتاع بالأدب وحرفته فقط، فالكتابة لديه، بقدر ما هي موثّقة للأحداث ومجترحة لها، هي أيضاً أداة للانتصار

هؤلاء، لم يقبل بهم غسان، ولم يقبل بهم الشهداء، فاغتالهم الاحتلال، لأنهم عنوان مستقبل حتمي بالنصر، لذا لجأ للجم حياتهم الجسدية، ليدفع بغيرهم نحو الواجهة الأمامية، فصاروا واجهة الاستسلام والهزيمة، وواجهة متقدّمة لتعليم شعب تحت الاحتلال أن ينكسر. لكنّ الاحتلال، وإن برع في التخطيط والقتل، إلا أنه فشل تماماً في وقف تمدّد الشعب الفلسطيني نحو الحرية، وحتى وإن كان بعض هذا الشعب اليوم في حالة كمون كما هو ظاهر، إلا أن الصرخات تعلو رويداً رويداً، وما محاولة تضييق العيش على الشعب الفلسطيني إلا محاولة الخاسر البائس، حين يظن أو يقتنع بأن تجويع شعب أو إذلاله يمكن له أن ينهيه.
غسان كنفاني، لم ينبه إلى هذه الأيام، غسان كتب ماضينا وحاضره، لكن جدوى الكلام لديه، كان حصارنا في المعنى الفلسطيني لوجودنا، وحريتنا استناداً إلى مفعولنا اليومي في الحركة والحرية التي ندفع ثمنها كأبناء لهذه البقعة من العالم التي يقول البعض، هناك من لم يسمع بها في العالم. هذا صحيح، هناك من لم يسمع بنا في العالم، لكننا نواجه عدواً يعرفه العالم تماماً، لذا، فإن إنصاف التاريخ يوماً، سيكتب أن شعباً من بلد يقع كجسر للأرض، قاتل حتى الأبد وانتصر.

سيكتب التاريخ ما يشاء، وقد لا ينصفنا، سيكتبه الأقوياء حتماً، وقد نكون نحن في حقيقتنا الضعفاء، إلا أن الحق الذي هو نحن بالنسبة إلى قضيتنا، سيهزم الحقيقة ويكسرها، ويغلق عليها أبواباً شرّعتها الأنظمة والسلطات التائهة أمام أبناء فلسطين في المخيمات وفي الداخل، ولعل ما حصل في مناقشة رسالة الماجستير للأسير زكريا زبيدي في جامعة بيرزيت، هو طريقي التي اتّبعتها لكتابة هذه المادة عن غسان كنفاني، فالأسير المغيّب خلف معتقلات الاحتلال، حضر، والشهداء النائمون في مقابر الشهداء، يحضرون كل يوم في يومياتنا، لنتأكد أن الطريق إلى فلسطين مفتوحة.

واصل حميدة : غسان فلسطين في دمشق وبيروت

منذ نصف قرن، حدثت الفاجعة، «حملت رأساً وبعضاً من صدر ويداً واحدة لصديقي ومعلمي غسان كنفاني، كدت أسقط أرضاً لولا مسارعة بعض الرفاق إلى مساندتي للصعود بذلك الحمل على الدرج». بهذه الكلمات يسترجع الصحافي المناضل عدنان بدر الحلو، ابن قرية مشتى الحلو السورية، مشهد استشهاد غسان كنفاني، معبّراً عن رمزية ثقل الإرث والمسيرة التي تركها غسان له وللأجيال التي ستكملها وصولاً إلى فلسطين... حلم غسان. يصف عدنان تلك اللحظات بالقاتلة، ويضيف لـ«الأخبار»: «متأكد أنني لم أكن بكامل وعيي، لا أعرف كيف ارتميت على أحد مقاعد الصالون، ولا من أخذ بقية غسان من بين يديَّ... كل ما أعرفه أنها كانت اللحظات الأصعب في حياتي».

لعل تلك المشهدية، التي تحاكي في دراميتها أعتى أساطير الإنسانية، هي أقرب وأوضح تجسيد للواقع، بعيداً من الصور، بعيداً من أي تشكيل أو تجريد، فكم نعيش اليوم بنصف صدر ويد واحدة مثقلين برؤوسنا. هبّت بيروت يومها؛ أكثر من 40 ألف شخص تزاحموا في شوارع المدينة لتشييع ابن الـ 36 عاماً، في جنازة ضمّت لاجئين فلسطينيين ومواطنين لبنانيين، ومثقفين وقادة سياسيين، ووُصفت في حينها بأنها إحدى أكبر التظاهرات السياسية التي حدثت في العالم العربي حينها.

- عبروا الجبال تهريباً لتشييع ولدهم الشهيد

لم تع ريم كنفاني، ابنة شقيق غسان، تلك الحقبة، حين استشهد عمّها وهي لم تبلغ عامها الأوّل، لكنّ روايات ذاك اليوم المتناقلة أثقلت ذاكرتها وذاكرة أجيال، ليس ذاك اليوم فقط، فهو نتيجة المقاومة من أجل استعادة الأرض. لم يكن سهلاً على أفراد عائلة غسان، حتى وهم يحاولون توديع ما تبقّى من جسده، أن يصلوا إلى بيروت. تروي ريم كنفاني من بيت العائلة في دمشق لـ«الأخبار»: «جدي المحامي محمد فائز كنفاني كان يقضي العطلة في منطقة كفرون إحدى المصايف السورية القريبة من الحدود اللبنانية، سمع خبر استشهاد غسان من الراديو، وكان الفلسطيني يومها ممنوعاً من الدخول إلى لبنان كما جرت العادة! لذا هرع عبر الجبال ليصل إلى بيروت تهريباً بمساعدة أهل كفرون الذين يحفظون تلك الأراضي ببراعة أكبر من حدود وأسلاك مصطنعة».
تخبرنا ريم أن معظم أفراد العائلة اجتمعوا يومها في بيروت، فوالدها عدنان أيضاً كان بعمله في دمشق عندما علم بخبر استشهاد شقيقه، لينطلق سالكاً طرق التهريب الجبلية وصولاً إلى بيروت: «التشييع المهيب الذي خرج له في بيروت لم ينته في مقبرة الشهداء هناك، بل امتد لسنوات في كل العواصم العربية والعالمية، وبالطبع دمشق كانت في مقدمة العواصم، وكيف لا وهي التي حفظ غسان صورة وجهها ورسم بين حاراتها ذكريات الشباب الأولى».

- دمشق وغسان
عام 1948، خرج غسان كنفاني برفقة عائلته من فلسطين في سيارة شحن إلى لبنان وكان يبلغ من العمر 12 عاماً، وبعد يومين من الانتظار استأجروا بيتاً قديماً في بلدة الغازية قرب صيدا جنوب لبنان، بعدها بمدة صغيرة، انتقلوا بالقطار مع آخرين إلى حلب (نزلوا في حمص بناءً على إصرار والده)، ثم إلى الزبداني فدمشق. تقول ريم: «سكنت عائلة جدي في حي الميدان، ثم انتقلوا إلى منطقة زقاق الجن في البرامكة، طبعاً كانت البيوت التي سكنوها بالإيجار، إلى أن استقروا أخيراً في منطقة المجتهد وسط دمشق».
كل تلك الأماكن لم تكن تفصيلاً بسيطاً في حياة وشخصية غسان كنفاني، يقول صديقه عدنان الحلو: «كان لغسان شغف كبير ببعض الأماكن التي تترك لديه انطباعات خاصة. هل ثمّة رابط بين هذا الشغف وبين حرمانه من وطنه فلسطين؟ لا أستطيع الجزم وإن كنت أميل إلى وجود رابط ما».
ريم كنفاني لا تختلف مع مقولة صديق عمّها: «كان انتماء غسان إلى الأماكن كبيراً، بدءاً من المكان الذي ولد فيه وبقي مطبوعاً في ذاكرته، حارات يافا وعكا التي ترعرع فيها في فلسطين كانت حاضرة بكل قصصه، كان يتميّز بالوصف الدقيق للأماكن التي عاش فيها، كما أثّرت فيه فترة وجوده في دمشق مثل بقية الأماكن التي سكنها، إلا أنها كانت فترة تعب له على صعيده الشخصي». «دمشق كانت قاسية على غسان مثلما كانت كل المدن العربية قاسية على أبناء الشعب الفلسطيني الذي تشرّد من بلاده، إلا أنهم أحبوا تلك البلاد التي أغنت تجربتهم الإنسانية».

كل تلك الأماكن لم تكن تفصيلاً بسيطاً في حياة غسان كنفاني وشخصيته

عام 1949، كان اليوم الأوّل الذي يخرج فيه غسّان ابن الـ 13 عاماً برفقة شقيقه غازي للعمل «عرضحالجي» أي كاتب استدعاءات على آلة كاتبة مستأجرة أمام بناء العابد (مجمّع المحاكم سابقاً في دمشق) وفي عام 1954 (حسب ما قال في حوار نشرته «شؤون فلسطينية» بعد استشهاده) وبينما كان غسّان في رحلة إلى جبل قاسيون مع رفاقه، سقط وكُسرت ساقه اليسرى كسراً مضاعفاً أقعده في البيت أكثر من ثلاثة أشهر، كتب خلالها بعض الحلقات التمثيلية التي قُدّمت في الإذاعة السورية في ما بعد، والكثير من القصص القصيرة، ورسم العديد من اللوحات، كما أنه قرأ الكثير من الكتب باللغة العربية، كما قال في أحد الحوارات الصحافية، ليقوّي من لغته.

في العاصمة السورية، أكمل غسان تعليمه الإعدادي في مدرسة الكلّية العلمية الوطنية بدمشق، ومنها انتقل إلى مدرسة الثانوية الأهلية، ثم بدأ دراسة الأدب العربي في جامعة دمشق، بالتزامن مع بدئه العمل في مدارس «الأونروا» كمعلم لمادة الفنون.
كان عام 1953 محورياً في حياته، حيث التقى فيه بالأستاذ محمود فلّاحة الذي عرّفه إلى الدكتور جورج حبش (الحكيم) أحد مؤسسي حركة القوميين العرب، والذي عمل لاحقاً على ضم غسان إلى صفوف الحركة.

خلال إقامته في سوريا، أسند إلى كنفاني تنظيم جناح فلسطين في معرض دمشق الدولي بدورته الأولى، وكان معظم ما عُرِض فيه من جهده الشخصي، كما عمل في جريدة «الأيام» الدمشقية، وعمل مصححاً ومحرراً في بعض الصحف، كما اشترك ببرنامج «فلسطين» وبرنامج «الطلبة» عبر أثير إذاعة دمشق، ولم تخل تلك الفترة من انخراطه في العمل نصرةً لأي قضية محقّة، حيث اعتصم مع رفاق له في مكاتب جريدة «الأيام» وأضربوا عن الطعام من صباح الإثنين 25/4/1955 وحتى مساء الأحد 1/5/1955، لتحقيق مطالب تتعلق بالمعلمين.

- في بيروت: تترك المدن فينا كما نترك فيها

جاء الوقت الذي عاش فيه غسان في بيروت التي عمل فيها صحافياً، وأنتج رواياته الشهيرة فيها، ربطته بهذه المدينة علاقة خاصة، يتحدّث عنها صديق الشهيد عدنان الحلو: «لفهم ما تعنيه العاصمة اللبنانية في حياة غسان ينبغي التوقف أمام محور رئيسي في معظم رواياته، هو نظرته السلبية إلى الهجرة الفلسطينية بعيداً عن محيط فلسطين، لقد كان يحاول في جميع هذه الكتابات أن يشير إلى الطريق المعاكسة، طريق التوجه نحو فلسطين، لا بعيداً عنها، وهكذا كانت بيروت بالنسبة إليه محطة هامة جداً (جغرافياً ونضالياً) على طريق العودة إلى فلسطين. نعم كانت بيروت منطلقه في كل نشاطاته من أجل خدمة القضية أدبياً وسياسياً وإعلامياً ونضالياً بكل ما تحمله كلمة نضال من معان تُوجت باستشهاده».
وعن المناطق اللبنانية التي أحبّها كنفاني وتردّد إليها كثيراً، يقول الحلو لـ«الأخبار»: «غسان كان مدمناً على زيارة بعض الأماكن الريفية في جبال لبنان الساحرة، وكان يدأب على أخذنا معه في نهاية أسبوع العمل إلى بعض هذه الأماكن، ومنها مقهى الصخرة في بلدة شملان الذي كان يتردد عليه قبل سنوات للانفراد والاستغراق في كتابة بعض رواياته، إضافة طبعاً إلى بعض المقاهي البيروتية كـ شاليه سويس، الدولشي فيتا، والهورس شو».

- ما بعد الرحيل

مع أفول دخان التفجير الذي ضرب الحازمية وأسفر عن استشهاد غسان ولميس ابنة شقيقته فايزة، أدرك الفلسطينيون والعالم العربي هول الفاجعة التي ألمّت بقضيتهم، يقول عدنان الحلو: «المعروف أن القادة الإسرائيليين الذين اتخذوا قرارهم بتصفية غسان كنفاني قد علّلوا ذلك بالدور السياسي والإعلامي والنضالي الذي كان يمارسه غسان، هذا الدور الذي امتدّ على مساحة العالم وبشكل خاص في أوروبا، حيث كان لنشاطه الإعلامي في الدول الإسكندنافية، خاصة بمساعدة زوجته آني الدنماركية، أصداء واسعة جداً، ومع ذلك أعتقد، وهذا ما كتبته مراراً، أنهم كانوا يعون تماماً حجم الدور القيادي الذي كان غسان مؤهلاً للعبه في المراحل القادمة، لا على صعيد الجبهة الشعبية فقط بل على الصعيد الوطني الفلسطيني بشكل عام، وكان غسان يقول دائماً نحن الآن لسنا الثورة، نحن نهيّئ للثورة».
يعتبر الحلو أن استشهاد غسان خسارة للقضية الفلسطينية «غير أنها ظلت وستبقى إلى زمن طويل تتغذى من عطاء غسان وحضوره المستمر... وكنت قد كتبت بعيد استشهاده، وصدّقتني الأيام والسنوات، أن لجميع الذين يغادروننا دويّاً... وهذا الدوي سرعان ما يتضاءل مع مرور الزمن، إلا مع غسان كنفاني الذي يزداد حضوراً عاماً بعد عام، وهذا ما يحصل بالفعل، ففي كل عام، ومع كل ذكرى نفاجأ بحضور لغسان كنفاني أكبر منه في الأعوام السابقة».

حنين رباح : أطفالك يكبرون

أطفال غسان كنفاني في رواياته يجوعون ويكدحون ويتعفّفون، يكبرون سريعاً ويصبحون رجالاً في العاشرة من أعمارهم. لا ينصاعون إلى الشكوى فيخفون أحزانهم وشقاءهم ويزمّون الشفاه ولا يشتكون. هذا ما رآه المعلّم في قصة «كعك على الرصيف» وهو يحاول فهم تلميذه حميد: «لقد بدأت مشكلة حميد تدخل شيئاً فشيئاً في ما بعد، إلى حياتي. كنت لا أستطيع على الإطلاق أن أكون عاجزاً في حياته، متفرجّاً إلى مأساته». ما كتبه كنفاني في القصص التخيّلية ليس منفصلاً عن الواقع، وهو ما كرره مراراً في مقابلاته الصحافية، فتلاميذه ينامون في الصف لأنهم يعملون في الليل ببيع الحلوى في دور السينما.

صورة الطفل لدى كنفاني في رواياته «ورقة من الرملة»، و«أرض البرتقال الحزين»، و«البومة في غرفة بعيدة»، تشاركها مع زوجته آني هوفا، دنماركية الأصل التي عاشت حياتها في سبيل القضية. فبعد استشهاد غسان كنفاني، عملت على التعمق في تاريخ فلسطين والقضية وحققت جزءاً من مخططاتهما معاً؛ إنشاء مكانٍ آمنٍ لأطفال المخيمات. تقول آني إن أحاديث طويلة جمعتها به عن إنشاء مؤسسة أو مركز للأطفال اللاجئين. كَثر هذا الحديث قبل استشهاده بسنة واحدة. وقد كان يؤمن بأن «الكفاح طويل وأنه لن يعيش ليعود إلى وطنه، لكنه آمن بأن أطفال فلسطين سيحققون حلم العودة». من هنا انطلقت فكرة «مؤسسة غسان كنفاني الثقافية» التي أنشئت كجمعية لبنانية في الذكرى الثانية لاستشهاده عام 1974، والتي تهتم بالأطفال بشكل خاص.

بدأ التجهيز لإطلاق لجنة لجمع ونشر كتب غسان كنفاني الأدبية من روايات وقصص قصيرة ومسرحيات وأطروحات. كان لرفيق دربه الراحل فاروق غندور الأثر البالغ في تنظيم إنتاجات الشهيد والمحافظة عليها، بدأ سريعاً بجمع قصاصات الورق الصغيرة قبل المجلّدات لحفظها وأنشأ مع زوجة غسان وعدد من الأصدقاء مجموعة «التخليد» لحفظ إرثه ونشره. تحولت بعد سنتين تقريباً إلى «مؤسسة غسان كنفاني الثقافية». تفاصيل ترويها لـ«الأخبار» ابنته الفنانة ليلى كنفاني: «اختارت آني أن تكمل نهج غسان، فلم تملك موهبة الكتابة، ذهبت إلى حيث التقيا وخطّطا معاً، تعليم واحتضان الأطفال قبل المدرسة»، فـ«الأونروا» لا تستقبل أطفال الحضانة. بالإضافة إلى نشر أعمال غسان كنفاني، كان هدف المؤسسة هو العمل من أجل الأطفال، بدءاً بالأطفال بين ثلاث وست سنوات، وتستقبلهم في الروضات، ثم الأطفال الأكبر سناً الذين أنشأت لهم المكتبات وأندية القراءة والتمثيل والفنون. ذهبت المؤسسة بعيداً إلى الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة والمكفوفين خاصة، بدأت ببرامج دمجهم منذ عام 1995 رغم أنها كانت تفتقر إلى الخبرات والمهارات، إلا أنها كانت تستقبل الأطفال بكل احتياجاتهم. تقول ليلى، وهي عضو الهيئة الإدارية للمؤسسة: «أطفال غسان كنفاني اليوم اشتد عودهم، نالوا شهادات عليا ومنهم المكفوفون، ويتكافلون ويدعمون هذه المؤسسة». بعضهم عاد إليها أساتذة بعدما خرّجت المؤسسة أكثر من 10 آلاف طفل منذ انطلاقها.

خرّجت المؤسسة أكثر من 10 آلاف طفل منذ انطلاقها

لم تدعم مؤسسة غسان كنفاني المرأة من خلال توفير فرص عمل لها وحسب، بل كان هدف التركيز على الأطفال في عمر ما قبل المدرسة هو لإتاحة فرصة للنساء في مخيمات اللجوء الفلسطيني لإكمال تعليمهنّ أو عملهنّ بعد الإنجاب. هي مساحة آمنة للأم والطفل. امتدت في ستة مخيمات بدءاً من مخيم برج البراجنة في بيروت، لم تقتصر فقط على روضات الأطفال ومراكز التأهيل، بل بدأت المؤسسة تتوسع وتمّ إنشاء أول مكتبة عام 1996 في مخيم عين الحلوة، لتتوالى في مخيم نهر البارد والبداوي والرشيدية. هذه المكتبات تنشر بالدرجة الأولى قصص غسان كنفاني وكتاباته إلى جانب مروحة واسعة أمام الطلاب والباحثين. وبذلك تصل المؤسسة لتستهدف الأطفال، وصولاً إلى عمر الـ 18 عاماً من خلال الروضات والأندية والمكتبات.

أراد غسان كنفاني لأطفال فلسطين ألّا يستسلموا وألّا يتوقفوا عن المحاولة، أراد لهم ألّا يتخلّوا عن أحلامهم. كتب لهم قصة «القنديل الصغير» حتى يُدركوا أن الجدران التي نبنيها من حولنا والسجن الذي نضع أحلامنا وأفكارنا داخله لن يرينا الشمس مهما حاولنا. وهذا ما أرادته «مؤسسة غسان كنفاني الثقافية» لأطفال المخيمات بعد رحيله. بالإضافة إلى كونها تفتح أبوابها لجميع الأطفال، فـ«ترى لدينا العديد من الجنسيات، بعضهم سوداني، والآخر سوري وأيضاً يأتي إلينا الأطفال اللبنانيون وخاصة في منطقة بيروت»، تقول ليلى. لكن من المهم أن «يدرك الطفل الفلسطيني هويته الفلسطينية»، ومن أين أتى، «ندلّهم على الخريطة» ويردّدون أسماء المدن التي هجّروا منها. المؤسسة تعطي دروساً عملية لا تقتصر على الدروس النظرية التلقينية لتطوير مهارات الأطفال واكتشاف هويتهم.

مشوار المؤسسة مليء بالكفاح، فبعد 48 سنة من تأسيسها تجد صعوبة في التمويل. لا مشاريع إنتاجية أو تجارية تقوم عليها هذه المؤسسة، فقط تبرعات الأصدقاء والمحبين إلى جانب تلقّيها تمويلاً خارجياً من خلال إطلاق المؤتمرات والنشاطات. فتكلفة التسجيل رمزية جداً ولا تغطي 10% من المصاريف، وُضعت لتشعر الآباء والأمهات بنوع من «التعفف والكرامة» والمسؤولية، وبعض الأطفال يسجلون مجاناً. وبحسب ليلى، فإن «مبادئ المؤسسة صعّبت تأمين المال اللازم لتسيير المركز، فالتمويل يمر بمرحلة تصفية كبيرة، مع العلم بأننا لا نتعاطى في المجال السياسي للفصائل، ونرفض ذلك، لكن لا يمكن أن نكون بعيدين عن أفكار المقاومة والوطن والعودة التي هي أصل أهدافنا».
غذّى كنفاني الصغير في داخله، هو الذي خسر طفولته باكراً، لم يتخلّ عن الأطفال وحقهم، زرع لهم أشجار البرتقال والزيتون وزرع فيهم الطفل إلى الأبد. حثّهم على الخروج من غرفهم الضيقة وأرشدهم إلى الشمس. الطفل الفلسطيني لدى غسان هو الحكاية التي بدأت خارج الوطن، لكن نهايتها مع عائلاتهم على أرض واحدة في بيت واحد، وينسجون أحلامهم الصغيرة من دون خوف.

زاهر أبو حمدة: كنفاني لم يكن «كنافياً»!

صباحاً، قبل الضحى بقليل. تعرّق أطفالٌ لم تتجاوز سنّهم العاشرة بسبب الاستمرار في «الطلوع» بـ«طلعة جبل الحليب» في مخيم عين الحلوة. المقصد كان روضة الشهيد غسان كنفاني، وموقعها في أقصى جنبات المخيم. أحد الأطفال، تأتأ لزملائه عند الوصول وقراءة اليافطة المقوّسة المُعرّفة بالمكان: «غسان كنفاني... الفطور كنافة على هيك». تلقائياً، حذف الاسم الأوّل واهتم بالصفة. يبدو أنه كان جائعاً. استقبلت آنسة الأطفال المتعبين، وأدخلتهم إلى غرفة تملأها ألعاب كثيرة وطبلية مستديرة توسّطتها وتحلّقت حولها كراسيّ صغيرة. جلسوا، وإذ بالطفل نفسه يهمهم: «الكنافة جاي... ولا ليش قعدونا». تدخل سيدة تسأل عن الأسماء وأماكن السكن. لتعود الآنسة الأولى وتبادر بتوزيع قرطاسية ودفاتر للرسم. فهموا أن لا كنافة في الطريق، إنما حصة تلوين ورسم.

انتهت الحصة الأولى من اليوم الأوّل للنشاطات الصيفية المجانية. كان ذلك في منتصف التسعينيات، وبعد اتفاق أوسلو مباشرة. أثناء الحصة الثانية، وهي نشاطات رياضية، انشغل الجميع باللعب في باحة الروضة. أمّا ذاك الطفل فذهب يفتش عن الكنافة الموعودة. دخل المطبخ: «وين الكنافة؟». وبّخته امرأة وهي تغلي ركوة قهوة، فعاد منزعجاً إلى رفاقه. وفي خلال الحصة الثالثة، دخلوا إلى المكتبة، ورُكن على الرف مجموعة قصصية باسم «أطفال غسان كنفاني» وفي وسط الحائط خُطّت عبارة «الأطفال هم مستقبلنا»، تحتها قائلها، أي غسان. تخيّل الولد الشقي أن للرجل الكنفاني أبناء يطعمهم يومياً الكنافة، فحسدهم في باله المشغول منذ قدومه بطبق أو ساندويش يُمطر منه القطر. قطعت الآنسة خياله بسؤال عام: «بتعرفوا غسان كنفاني؟». تبلّدوا جميعاً إلا هو: «لا ما بعرفو بس بدي آكل كنافته». ابتسمت الآنسة واسترسلت في الشرح والربط بين أحداث حصلت وأخرى تحدث، وعن شخص تحوّل في قادم الأيام إلى رفيق درب وليل برواياته ومقالاته للطفل ذاته.

كيف لهذه الإنجازات أن تحصل في عمر قصير؟ ربما هي خليط من الإبداع الفوضوي المُرتب بإتقان، كما «سدر الكنافة»

صحيح أن للإنسان نصيباً من اسمه، أو هكذا الظن، إلا أن الأسماء بتشعّباتها تزول إذا ما اقترنت بفعل ربما تتحوّل إلى صفة تلازمه. وهكذا لم يعرف الطفل سوى الصفة من الاسم. وإذا عدنا إلى أصل الكنية فنجدها تمتد إلى الكنافة أو صانعها في دمشق الصغرى، أي نابلس، أو دمشق العاصمة حيث صُنعت للمرة الأولى للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان حين أقام في الشام. أمّا الخيار الآخر، فهو يعود لأصل كلمة كنافة المُشتقة من الكلمة العربية كَنَف وتعني الإحاطة. وبالتالي صانع الكنافة وبائعها هو الكنفاني، أمّا غسان فكان صانع الأمل وبائع التحدي عبر أعماله. فعاش اسمه وسبقه فعله.
يفاخر الفلسطينيون بإنتاجهم الثوري وفي مقدمة ذلك ما تركه غسان من مؤلفات تؤرخ لهم وتقصّ حكاياتهم وتدعوهم للاستمرار. كتب الحكايات وأسرّ بالخفايا حتى تحوّل إلى حكاية قائمة بسيناريو وحبكة تشبه حالهم منذ ما قبل النكبة حتى حلم التحرير. لذلك تجده مؤثراً على الرغم من غيابه، وأمثاله قلة. والسؤال يظل يراود الطفل حين كبر: كيف استطاع هذا الكائن أن يكون بهذه الهيئة الممتدة لأكثر من 50 عاماً، وبهذا الإنتاج في سياق مكتظّ بالعمل السياسي والإعلامي والأدبي وهو استشهد في عمر الـ36؟ وإذا اعتبرنا أن أعوام المراهقة مُلغاة من الحسابات، فاستطاع في 20 ربيعاً أن يتحوّل إلى مثقف تغييري، مناضل عضوي، قائد مفكّر، عاشق رومانسي، وأب غير تقليدي. كيف لهذه الإنجازات أن تحصل في عمر قصير؟ ربما هي خليط من الإبداع الفوضوي المُرتب بإتقان، كما «سدر الكنافة». مقادير عديدة مُزجت في مزاج أديب ليكون السياسي أو الصحافي في قمة كتاباته فكان الإنسان. ولهذا الإنسان سر من أسرار الآلهة المتبعة في أرض كنعان في سالف الأزمان. ولو لم يكن كذلك لتكرّر شخصه أو تجربته ببدن آخر أو على هيئة سيرة ذاتية تأتي كل قرن مرة وفي مكان مختلف.

غسان كنفاني: كنافة فلسطين الأدبية والسياسية ولها خلطتها وسرّها ونكهتها المميزة. ولعله لا يوجد فلسطيني يكره الكنافة، كذلك غسان. لن تجد أحداً لا يحبه أو لم يتأثر به. هو أصل البداية لأطفال فلسطين، كنتُ أحدهم. ولطالما تذكّرت غسان عند حضور الكنافة، وما نسيت الكنافة إلا لاستحضار غسان.

نضال خلف: كيف نحمي غسان كنفاني؟

في الحروب الاستعمارية، تُعدّ عمليّة تشكيل الرموز وتقديمها للجمهور معركةً جوهرية في حرب صناعة الوعي، وإن كانت آثارها لا تظهر بوضوحٍ في الحاضر. ولعلّ أبرز الأمثلة على هذه المعارك كانت صورة جيفارا في حروب تحرير أميركا اللاتينية. فقد شكّلت شخصية إرنستو جيفارا نموذجاً فردياً يختصر الروح الثورية لشعوبٍ تقاتل لكسب حريّتها من الهيمنة الأميركية. ومع إدراك الإمبراطورية الأميركية لعجزها عن تحطيم صورة جيفارا، تمّ تحويل هذه الصورة إلى سلعة استهلاكية لحرفها عن معانيها الثورية وتجييرها في خدمة سياسات اقتصادية وثقافية مناقضة لمبادئ جيفارا نفسه وما يمثّل.

وفي سياقنا العربي، لا تزال حرب تحرير الرموز العربية من أسر محتكري التاريخ في أوجها، بما تشمل من تعميةٍ على أبطال منسيّين مقابل اختلاق أساطير وهميّة مهمّتها العبث بحدود الوطنية والخيانة في العقل العربي.
وفي هذا السياق، تمرّ الذكرى الخمسون لاغتيال الشهيد غسّان كنفاني، حيث تزدحم الصفحات والمواقع باستذكار سيرة غسان وأقواله وأبرز انتاجاته. ومن العجائب التي لم تعد تبعث على الاستغراب، أن يُحتفى بغسّان كنفاني على منصّات تطبيعية وأخرى ليبرالية، فيما ترتفع أصواتٌ لتحيي ذكرى غسان وهي في صلب المشروع المُعادي تحت مظلّة قواعده العسكرية. من هنا، يطرح السؤال نفسه: أي غسّان كنفاني نحيي ذكراه اليوم؟ وكيف نحمي غسّان الذي نعرف؟
لقد شكّلت حياة غسّان كنفاني مادة مكثّفة للقرّاء والمتابعين والمحللين بعد استشهاده. لكنّ تلقّي غسان لم يكن مستقلاً عن السياقات السياسية للمتلقّين، مما أنتج عدّة «نسخ» من غسّان كنفاني، نستعرض في ما يلي بعضها.

غسان كنفاني: الأديب (فقط)؟
النسخة الأكثر انتشاراً لغسان كنفاني هي نسخة «الأديب» الذي كان يكتب قصصاً ومسرحيّات وينقل الواقع الفلسطيني. وقد يبرّر انتشار هذه النسخة كون المنتوجات الأدبية لغسّان هي الأكثر انتشاراً بين الناس، وهي التي ساهمت في نشر اسمه بشكل كبير.

إن حصر غسّان كنفاني في خانة «الأدب» ليس بالفعل البريء دوماً، وفي جانبٍ من جوانبه اختزالٌ متعمّد للعمل السياسي لغسّان كنفاني. فغسّان كان مسؤولاً في التعبئة والإعلام وجزءاً من دائرة القرار السياسي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» منذ كانت في إطار حركة القوميين العرب، وقد ظلّ على ذلك حتى استشهاده. كما أن الإنتاج الأدبي لغسّان لم يأتِ يوماً على حساب موقعه السياسي، ولا في أيّ لحظةٍ من مسيرته. أمّا على صعيد الإنتاج، فإنّ الدراسات والأبحاث السياسية، إضافة إلى المقالات والعمل الصحافي التحريري، لا تقلّ في غزارتها وأهميّتها عن المنتوجات القصصية والمسرحية. وحتى الأخيرة لم تكن منفصلة عن السياق السياسي، بل كان السرد إطاراً يطرح من خلاله غسّان فكره السياسي والاجتماعي وحتى الفلسفي. من هنا، تسقط صورة غسّان «الأديب المنخرط في السياسة» لتحلّ محلّها حقيقة غسّان-السياسي الذي طوّع الأدب في خدمة قضية سياسية.
خطورة هذا الاختزال المتعمّد تكمن في فتح الباب على تكوين صورة «مشذّبة» لغسّان كنفاني تصدّر للجمهور من قبل صفحات ومنصّات ليبرالية (وحتى مطبّعة) لتكسب رصيداً باسم غسّان.

يتطرّق كنفاني إلى معضلة أساسية تثقل واقعنا السياسي حتى اليوم، هي أزمة «أولوية التغيير الداخلي على التحرير»

وبذلك، يتحوّل الاختزال إلى تشويه متعمّد يجعل من اسم غسّان كنفاني «عسلاً» يدسّ في سمّ الأفكار الانعزالية والليبرالية والمعادية لكلّ مقاومة على أرضنا تحت شعارات الحرية والتحرر. وإلا، كيف نفهم احتفاء منصات ليبرالية ومؤثرو قاعدة العيديد بغسان كنفاني؟

غسان كنفاني: الفلسطيني (فقط)؟
ومن الاختزالات المُجحفة بحقّ غسان كنفاني حصر شخصه وإنتاجاته بـ«فلسطين» المرسّمة بقلم الاستعمار. ومجدّداً، بالإمكان إيجاد عذرٍ لهذا الاختزال لكون فلسطين هي البُعد الأوّل لهويّة كنفاني السياسية والأدبية، وأيضاً بسبب ارتباط تجربة غسّان ومسيرته بالتجربة الفلسطينية العامة من حربٍ وتهجيرٍ قسريّ وشتات وصراع للعودة.
يذهب البعض بعيداً في التركيز على فلسطينية غسّان بما يغطّي على بُعده العربي الذي لم يخفه يوماً. في الواقع، إنّ قراءة الدراسات السياسية لغسان كنفاني تكشف لنا حقيقة غسّان كمفكّر قومي عربي، اجتهد وعمل وناضل في سبيل تطوير إطارات عمليّة للنظرية الثورية العربية.
ويبرز ذلك بوضوح في دراسته المعمّقة بعنوان «القضيّة العربيّة في عهد الجمهوريّة العربيّة المتحدة» التي يطرح من خلالها جوهر الحرب المفروضة على منطقتنا، إضافة إلى تحديد معسكري الأعداء والأصدقاء، وصولاً إلى تعريف الهدف الرئيسي في الحرب، ألا وهو التحرير كشرط للوحدة والنهضة. ويستكمل غسان استنتاجات هذه الدراسة بدراسة أخرى بعنوان «التطبيقات الثورية للقومية العربية» الصادرة عام 1959، والتي يفصّل فيها بإتقان مفهوم الوحدة العربية وأدوات تطبيقها عمليّاً.

ويذهب غسّان كنفاني أبعد من ذلك إلى اعتبار مواجهة الفكر الانعزالي (الإقليمي) ضرورةً ثورية، إذ يصف «الانعزالية» بأمرٍ «يتناقض وطبيعة تكوين المجتمعات». والانعزالية أو «الإقليمية» هي نزعات مضادة للوحدة تقوم على تحديد مصالح المجتمعات انطلاقاً من الحدود الاستعمارية، عبر اعتبار كلّ دولة عربية «مستقلّة» بذاتها كما شاء لها سايكس وبيكو.
ويتطرّق كنفاني إلى معضلة أساسية تثقل واقعنا السياسي حتى اليوم، هي أزمة «أولوية التغيير الداخلي على التحرير». ولن نجد في الإجابة على هذا السؤال صياغةً أفضل ممّا كتبه غسّان حين اعتبر بأنّ «طرح مفهوم [التركيز على النهوض الداخلي أولاً] هو استبعادٌ متعمّد للمدّ الشعبي المتّجه إلى الوحدة بصلابة، وتحويله إلى معارك جانبية وإقليمية يسهل حرفها (ما دامت كل دولة عربية ليست -قومياً- في مستوى تحرّري كامل جدير بالبناء الاجتماعي السليم)». ويختم غسّان طرحه بأنّ «الوحدة شرطٌ من شروط النهضة...حتى الإقليمية منها».
نذكر هذه الأفكار كنماذج من فكر غسان كنفاني القومي العربي، والذي كان بجوهره مناهضاً بقوّة ووضوح للانعزالية وللإسقاطات المعلّبة للماركسية وسواها. بالتالي، فإنّ احتفاء أصحاب هذه الأفكار بغسّان يشير إلى استغلال هؤلاء لرصيد غسان (من جهتهم) وإلى خللٍ كبير في حماية غسّان (من جهة المؤمنين بأفكاره).

كيف إذاً نحمي غسان كنفاني؟

البداية تكمن في تعريف أنفسنا. فهل نحن مؤمنون بطرح غسّان كنفاني ورؤيته للصراع الدائر على أرضنا وعلى حساب دمنا وأرواحنا ومصائرنا؟ إن كان الأمر كذلك، فواجبنا الأول هو استعادة غسّان كنفاني من حلقات الاستهلاك المبتذل، وتعريفه للجمهور بحقيقته التي لا غبار عليها: مناضلٌ قوميٌّ عربي صاحب الإسهامات الأكبر في النظرية الثورية العربية الحديثة.
كما ومن مسؤولياتنا أيضاً، استعادة روح العمل الحزبي، الذي كان غسّان رائداً فيه، وتصحيح الأطر الحزبية العربية لاستيعاب الطاقات المهدورة في سجون النشاط الافتراضي، وفي أروقة «المنظمات غير الحكومية» ومتاهات التيئيس والتثبيط.
يقتضي واجبنا اتجاه غسّان كنفاني بأن ندرك واقعنا وشروطه، وأن نحدّد أهدافنا بوضوح، منطلقين من إيمانٍ عميق بدورنا الحضاري كأمّة، وبأنّ تحرير الأرض خطوةٌ على طريق الوحدة، وبأنّ الوحدة شرط النهضة التي بدورها ترفعنا إلى مقامنا الحضاريّ بين الأمم.
والختام أيضاً مع جزءٍ من وصيّةٍ مستمرّة لغسان كنفاني:
«إنّ الإنسان الذي لا يعمّر في المتوسط أكثر من ستين عاماً لن يجد متّسعاً ليعيش بسكون، بل سوف يحمل الأزمة منذ يولد... وسيعطيها لأبنائه ساعة يموت، وستكون نتائج هذا النضال لجيلٍ لا نعرف متى سيأتي وإن كنّا نتفاءل بمشاهدة أوائله في أواخر عمرنا... وقد يكون جزاؤنا الوحيد هو أن يغبطنا الجيل القادم، الجيل السعيد الذي سيتمتع بانتصاراتنا، على أننا أحرزنا شرف الحياة في عصر الصراع من أجل الحياة. وهذا يكفينا مؤقتاً».

ستيفن سلايطة: الثوري الناقد: عن «في الأدب الصهيوني»

ترجمة لمقتطفات من مقدّمة الطبعة الإنكليزية الأولى لمؤلَّف غسان كنفاني «في الأدب الصهيوني» منشورات «Ebb Books» بالتعاون مع موقع «Liberated Texts» بمناسبة الذكرى الخمسين لاغتيال الشهيد على يد العدو الإسرائيلي

من الصعب تصنيف شخصية كغسان كنفاني، فهو معروف بين الفلسطينيين ولكل المهتمّين بالقضية الفلسطينية كشخصية متعدّدة الأبعاد. فقد كان ثورياً ماركسياً ومتحدّثاً رسمياً باسم حزب، لكنه أيضاً روائي ومنظّر سياسي، إضافة إلى كونه معلّم مدرسة وفناناً ومحرّراً صحافياً وأممياً ملتزماً. كل هذه الأبعاد المتفاوتة من شخصية كنفاني تتناسب مع طبيعة حياته، ولذلك كان متمكّناً في جميعها، بيد أنه كان أقل شهرة من ناحية براعته في النقد الأدبي.

قام غسان، خلال حياته القصيرة، بمراجعة وتحليل أنواع مختلفة من الكتابات الإبداعية، إذ كان طالباً في كلية الآداب بجامعة دمشق، حيث التقى بمعلّمه جورج حبش مؤسّس «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». إضافة إلى «الأدب الصهيوني»، قام كنفاني بتأليف كتابين نقديين للأدب الفلسطيني، وخلافاً لأعماله الروائية والقصصية، لم تتم ترجمة أعماله النقدية إلى اللغة الإنكليزية.

يبيّن كتاب «في الأدب الصهيوني» كيف كان كنفاني ناقداً لاذعاً وصارماً، ولكنه وفي الآن ذاته كريمٌ في فهمه للعاطفة والشكل، وإن كان قاسياً في تقييمه لكل من السياسة والأساطير. ولا يمكننا أن نفهم نقده الأدبي بشكل كافٍ من دون الخوض أيضاً في البعد السياسي الذي أضفاه على العملية النقدية، بل إن نمط نقده يساعد أيضاً في كشف القيود التي تعتري منهجية النقد الأدبي بشكل عام.
جرت العادة ألّا يتم تسييس عملية النقد الأدبي، وهذا ما قد يبدو، بحد ذاته، أمراً سخيفاً، فهذه القيود والمحاذير على التسييس ليست بديهية بقدر ما هي نوع من الاحتكار الإيديولوجي، إذ إن الهدف منها هو الحفاظ وتعزيز عقيدة فكرية واقتصادية معيّنة. وهنا يتم تصنيف النقد «السياسي» في مرتبة أدنى من المجهود والعمل الثقافي، فالذين يتبنّون المعايير الأكاديمية والفنية يمنعون الفكر الثوري من الدخول إلى أطرهم المؤسساتية. وعليه، يكتسب أي نقد يهدّد مراكز القوى وصفَ «السياسي»، وهو وصف ذو حمولة سلبية، بالضرورة، له ولصاحبه. ولذلك، ومن جهة أخرى، تكتسب إيديولوجية مراكز القوى صفةَ «اللاسياسي؛، وفي بيئة كهذه لا مكان لنقّاد من أمثال كنفاني.
بالنسبة إلى كنفاني، لم يشكّل التناقض مع هذه البنى والعادات البرجوازية معضلة، فقد كانت غاية مقاربته النقدية إثراء ورفد النضال من أجل التحرّر الوطني الفلسطيني. ولم تكن من منطلقات اعتباطية، بل تندرج في سياق أطروحته التي تنص على أن الأدب الصهيوني، بحد ذاته، سياسي إلى حد كبير. كما يبيّن غسان، عملَ قادة الصهاينة على «مخطط ضخم» لتجنيد مجموعة واسعة من الأعمال الفنية لخدمة مشروعهم الاستعماري. وقد حشد قائمة طويلة من الأمثلة لإثبات ذلك، من مؤلف يائيل دايان «الغيرة من الخائفين»، إلى مقالات آحاد هعام عن الصهيونية واليهودية، وصولاً إلى مؤلف ليون أوريس «الخروج» (Exodus)، بالإضافة إلى مجموعة متنوّعة من المواد الإبداعية والتاريخية الأخرى.

لم يقتصر نقد كنفاني على النصوص نفسها، بل قام بدراسة عمل دور النشر والمؤسسات الثقافية المرتبطة بها باعتبارها مؤسسات تمثّل سياسة الإمبراطورية؛ ينتقد لجنة تحكيم جائزة نوبل على وجه الخصوص، وبشكل قاسٍ، حيث تساءل: «لماذا كافأت لجنة جائزة نوبل كاتباً رجعياً وشوفينياً (شموئيل يوسف عجنون) عام 1966، في حين أن كتاباته تفتقر إلى جميع المعايير الأدبية المطلوبة لمثل هذه الجائزة؟». بالنسبة إليه، لم يكن المشهد الأدبي الغربي يمثّل منتدى مفتوحاً قائماً على الجدارة والاستحقاق، إنما كان سوقاً خاضعة لسيطرة محكمة تهدف إلى إرضاء ميول الطبقة الحاكمة.

لم يقتصر نقد كنفاني على النصوص نفسها، بل قام بدراسة عمل دور النشر والمؤسسات الثقافية المرتبطة بها

وعليه، ولفهم الأدب الصهيوني، يجب على الناقد تحليل العملية العسيرة، والمتناقضة في كثير من الأحيان، لأصل الفكرة الصهيونية القائمة على اصطناع قومية تجمع شمل مجتمعات مختلفة ومتباينة. هنا، لم تكن الصهيونية لتحقق أهدافها الفجّة دونما سطوتها على الخيال الغربي عبر البراعة الأدبية وغيرها من مجمل وسائل الإعلام الإبداعية الأخرى. لقد كانت عمليات إعادة صياغة النصوص، وكذلك المراجعات، سمة محورية في استراتيجية الصهاينة والإمبريالية للهيمنة والسيطرة على فلسطين. شرع قادة الحركة الصهيونية في التنقيب بالماضي من أجل خلق ذريعة قابلة للتطبيق لاستيطانهم في بلاد الشام. وهنا، وجدوا غايتهم في الإنجيل للحصول على هكذا مصدر، وهو ما ألهم قدراً كبيراً من المنح الدراسية. لكنّ كنفاني أظهر أن مجمل الأعمال المحورية لهذا الاختلاق تمّت عبر أدواتٍ ثقافية، أحد أعمدتها الأساس الكتابة الإبداعية، التي رفدت المشروع الصهيوني، بشكل مباشر، أو أنه قد تم تجنيدها في خدمة الصهيونية من قبل إيديولوجيين أو مختلف صانعي الأذواق البرجوازيين.

ومن بين المؤلِّفين، الذين تم حشدهم من أجل هذا الهدف، شخصيات فكتورية معروفة، مثل بنيامين دزرائيلي وجورج إليوت. ومن المقتطفات العديدة المذهلة، التي أبرزها كنفاني وهو يحلّل التطور المبكر للاستعارات الصهيونية، مقتطفٌ يدعو صراحة فيه دانيال ديروندا، وهو إحدى شخصيات رواية إليوت، إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، قبل أكثر من سبعين عاماً من أن يصبح ذلك حقيقة على أرض الواقع.
بشكل ما، يُنبئ نهج كنفاني بظهور الدراسات الثقافية في العقد الذي يلي استشهاده، حيث بدأ النقاد باستشعار أنهم أقل تقييداً بادّعاءات «الموضوعية»، وبدأوا مقاربة الأدب كسلعة إيديولوجية، ولا سيما استخداماته في الحملات الدعائية والبروباغندا ضد الشيوعية. ومن المرجّح أن أي أحد يؤمن بوجود سوق ثقافية محايدة سيواجه مشكلة مع «في الأدب الصهيوني»، الذي يعامل أي مواقف ضمن هذا النهج على أنها سخيفة وغير جادة، إذ إن السوق الثقافية موقعُ تراكم، مثل أي صناعة رأسمالية أخرى، إلا أن الفارق يكمن في أن منتجات هذه السوق تدخل في الاقتصاد بصورة مجرّدة، وهذه السوق هي العماد الجمالي لصناعة الهيمنة.
على هذا الأساس، يقترح كنفاني أن الإيمان بالصهيونية يحول دون حقيقة إدراك واستيعاب الأدب الصهيوني. والمفارقة الكبرى هنا أنه لا يمكن قراءة الأدب الصهيوني سوى من خلال رفض الصهيونية، إذ إنه، وفي حالة الأدب الصهيوني، ولكي يصل هذا الأدب إلى غرضه وغايته السياسية، عليه أن يبدو بلا هدف، وهذا التشفير الإيديلوجي هو ما قضى كنفاني الكثير من وقته لتفكيكه وكشفه. والأدب هو مقدّمة وملحق للمشروع الاستعماري، والمشروع الاستعماري يختلق أدبه، وكذلك الأدب يساهم في خلق المشروع الاستعماري، ولذلك عليك أن تفهم كليهما من أجل فهم أيّ منهما.

والسؤال هنا، إلى أين يمكن أن يقودنا نهج كنفاني من ناحية العمل الفكري والسياسي؟ ربما سيظل هذا التساؤل في ذهن القارئ أثناء تصفّح الكتاب. لم يترك كنفاني لنا أي خيار سوى التفكير في مسائل التحرير، فلا يسمح إلحاح نبرته، وتضخيمها في بعض الأحيان، باللامبالاة أو التردّد. ولا تفضي منهجيته إلى أي نوع من التخلي وعدم الانخراط في العمل الثوري، وهو موقف كان سيجده كنفاني غريباً، بالنظر إلى المزاج الثوري بين الفلسطينيين والعرب بشكل عام في أعقاب حرب 1967، إذ كان الفلسطينيون ينقلون ألم الهزيمة إلى أشكال جديدة وأكثر إلحاحاً على المقاومة، فقد كانت «الجبهة الشعبية» على بعد أشهر فقط من تأسيسها الرسمي، وكان كنفاني، البالغ من العمر 31 عاماً فقط، يزخر بالحيوية التي تكاد تشعّ من صفحات الكتاب. ومنذ انطلاقتها، اهتمّت «الجبهة» بالإنتاج الفكري، ولديها أرشيف حي وثري بالنظريّات الثورية. وفي الوقت ذاته، حافظت على وجودها العسكري النشط ضمن المقاومة الفلسطينية حتى يومنا هذا، بما يجسّد، إلى حد كبير، تقاليد ونهج كل من فرانز فانون وأميلكار كابرال. وتبنّي العنف ليس وسيلة لتحقيق السيادة على الأرض، وعلى مستوى العمل السياسي، وحسب، بل كذلك يحضّر سايكولوجياً للتحرير. من هذا المنطلق، تستحيل عملية فصل إنتاج غسان الأدبي عن السياسي، بل من المباح القول إن تقييم كنفاني للأدب الصهيوني هو في الأساس منطلق للتأكيد على مستقبل فلسطين، فـ«في الأدب الصهيوني» نقد أدبي سياسي، وذلك تحديداً من خلال التزام كنفاني القاطع برفض الفصل بين كل من الثقافة والإمبريالية.

تغريد عبدالعال: الألم الذي يمشي في المقدّمة

كيف يستطيع الألم أن يمسك بالأشياء من أطرافها الحادّة؟ أو كيف يستطيع أن يعطي معنى آخر للأشياء التافهة؟ خطرت لي هذه الأسئلة قبل يومين وأنا أقلّب كتابك: «موت سرير رقم 12»، فوجدت قصة «القط»، القصة التي قرأتها وأنا صبية وعلقت في ذاكرتي. ربما باتت الآن تذكّرني بالألم الذي فجأة يحول أنظارنا نحو المعنى، معنى أن نكون في هذا العالم وأن يكون الألم رفيق كل الأسئلة. قرأت مرة لشاعر إسباني اسمه أنطونيو بوركيا شذرة تقول: «الألم لا يتبعنا، إنه يسير في المقدّمة». شعرت عندها أنه الإلهام الحقيقي لنتابع السير وتذكّرت قصتك.

في القصة يذهب البطل إلى سميرة، ولكنه يسأل نفسه على الطريق، هل يذهب إليها لأنه ليس هناك مكان آخر يذهب إليه؟ هل هو الفراغ؟ ربما كانت وطأة تلك الأسئلة أخفّ، وكان إحساسه بالتفوق قد بدأ يتلاشى حين شاهد القط، ولاحظ أنه لا يتحرك. يجلس في زاوية في الزقاق ولا يحرك ساكناً. حين اقترب منه رأى ساقيْه مهروستين بالدم، فراوده سؤال لم يفارقه: من فعل ذلك بالقط؟ ذهب إلى سميرة لكنّ هذا السؤال لم يفارقه أبداً. ربما دهست سيارة مسرعة ساقَي القط وهو يقطع الشارع. لكن قوة السؤال قد جعلته غير قادر على إكمال يومه كما اعتاد وتحولت زيارته لسميرة إلى جلسة أسئلة عن هذا القط. أقرأ القصة وأنا أتساءل معك بصوت عالٍ: كيف استطاع هذا المشهد أن يغطّي المشاهد الأخرى لأنه كان حقيقياً. هكذا يكون الألم من يقودنا إذاً لنتساءل عن معنى الأشياء من حولنا بطريقة أخرى. هكذا أقلّب معنى هذه القصة وأنا أتأمّل أشياء تحدث معي، فأقول في داخلي: أي رسالة يحملها هذا الألم وأي سؤال مبطن داخله؟

عزيزي،
تأخذني قصصك الشعرية لحفر خندق في الروح، لأتذكر «القميص المسروق»، قصة أبي العبد الذي كان يودّ أن يحفر خندقاً قرب خيمته، لكي يسرق الطحين من وكالة الغوث، لكنه اكتشف أن العامل هناك قد تآمر هو والعامل الأميركي لبيع أكياس الطحين مقابل مبلغ من المال. فيقرر أن لا يشترك في اللعبة القذرة ويعود إلى خيمته باكياً لأنه لا يستطيع أن يشتري لابنه قميصاً جديداً. وهنا أيضاً يكون للألم صفحة أخرى في حياة أبي العبد كلاجئ في المخيم. شعرت وأنا أقرأها مرة ثانية أن حفر الخندق ليس فقط من أجل سرقة الطحين، إنما البحث عن حياة في مكان مظلم هو المخيم، لكنّ قصتك أيضاً تحفر في سؤال آخر: ماذا نفعل في مكان يحوّلنا إلى باحثين عن أنفسنا؟

لا أنسى أيضاً تلك القصة التي تحدثت عنها في رسالتي الأولى إليك «البومة في غرفة بعيدة»، هل تعلم أنني أخبّئ صورة البومة التي رسمتها وعلّقتها في غرفتي. قبل أربع سنوات كنت في مكان آخر وكانت البومة من شجرتك التي خبّأت تحتها الأسلحة لتذكرني بالخوف، ذلك الذي نظرت في عينيه لتقول له بأنّك ستتابع الطريق رغماً عنه. وفلسطين اليوم ليست في مكان بعيد، هكذا أتلمّس صورتها في الأشياء الصغيرة التي كنت تقرأها بروحك، والمعاني الخفية التي كنت تلتقطها في طريقك إليها.

إنها ليست مناسبة أو طقساً أن أعيد زيارة قصصك في ذكرى موتك، فأنا أذهب إليك لألتقي بأشياء صادفتها في طفولتي

إنها ليست مناسبة أو طقساً أن أعيد زيارة قصصك في ذكرى موتك، فأنا أذهب إليك لألتقي بأشياء صادفتها في طفولتي، ودائماً تظهر مرة أخرى أثناء زيارتي لقصصك، فأكتب إليك من بيروت مدينتك الجميلة وأنا أفكر بقصتك «موت سرير رقم 12» حين تحوّل اسم محمد علي أكبر إلى سرير رقم 12. لكنه كان يصر على امتلاك اسمه الكامل، وكان يخبّئ قرب سريره صندوقاً كبيراً، كنت أتساءل وأنا أقرأ القصة ماذا يخبّئ في الصندوق؟ ربما ثروة كبيرة، لكن الأهم أن هناك قصة مختبئة داخل الصندوق وداخل حياته. هل نخفي داخل صناديق الروح قصصنا الشخصية؟ أسألك وأنا متأكدة أن داخل صندوق قصصك أسماء وحكايات وتواريخ وآلام بشر مرّوا دون أن نتبع أثرهم. أتذكر أنني حين كنت أقرأ إحدى روايات أبي، بكيت لأن هناك شخصية أعرفها جيداً لبطل ترك دفتر مذكّراته وهو يسرد كل ما حدث معه من قصص وتفاصيل وحوادث وذكريات، تخيّلت أن هذا الدفتر هو اسمه وصندوق حياته. أعطاه لأبي وحوّله أبي إلى رواية. لم أكن أعلم أن الرواية ستتغير هكذا، لكنني أحببت أن روح هذا الشخص كاسمه بقي موجوداً وكان اسمه أبو أحمد الزعتر في رواية أبي «الزعتر الأخير».

عزيزي غسان،
سأقول لك شيئاً خاصاً لم أقله لأحد، الطريق من المخيم إلى بيروت، لا تشبه أي طريق، ربما كانت محفوفة بأسئلة كثيرة، أعبرها أحياناً حين لا أجيب عليها. وأحياناً أصطدم بها، فتخرج على شكل قلب يتسع لها. هنا تعاتبني الروح وهناك ترسم لي لوحة أخرى. ما زالت ألوانها مثل لوحة حصانك المعلق داخل البيت. لم أتعب أبداً من الذهاب المستمر مع شخصياتك الطفولية في كتابك «أطفال غسان كنفاني» إلى المخيّم، فهناك حكاية أخرى يكتبونها في الأزقة. شكراً غسان لأن طفولتي لا تزال تعرفك جيداً ولا تزال صديقاً أحدّثه كلما أردت ذلك.

روان الباش: «ما تبقّى لكم»

أنهيت للتوّ قراءتي لرواية «ما تبقّى لكم» لغسان كنفاني، ما إن فرغت من القراءة، حتى انتبهت إلى العلاقة التي نشأت مع شخصيات الرواية، شعرت بحضورهم، وحضور حامد وشقيقته معي في غرفتي الصغيرة.

حملت بعضاً مني وخرجت لمشاهدة بعض العروض التي اعتادت برشلونة، مكان إقامتي، أن تمنحها لقاطنيها وزوارها في ساحاتها العامة، وخاصة في ساحة الكاتدرال القابعة خلف منزلي، توقفت لمتابعة عرض تقدّمه فتاة تحمل طوقاً حديدياً، وترقص معه، كانت فتاة الطوق تدور معه معلّقة أطرافها فيه، متقلّبة بصحن مستدير يكاد أن يصطدم بالأرض، كان الجميع مذهولاً بأدائها، وحين أتت لحظة ارتطامها بالأرض، أخذ الجميع أنفاسه، لكنها بحركة بهلوانية وقفت منتصبة، معلنة براعتها وتفوّقها على الطوق.
فجأة انتبهت إلى أن حامد، بطل الرواية، يقف بين الجموع، وكنت أظن بأنه عاد إلى صفحات الرواية ليتابع حكايته، سمعت صوت أجراس الكاتدرال تقرع معلنة تمام الساعة، وخيّل إليّ أنّي أسمع صوت ساعة حامد في داخلي. هذا ما يستطيع غسان كنفاني أن يفعله بقارئه، إنه يغوص بك حتى يسكنك، فتغرق بين دفّتَي روايته وتشدّك شخصياته من يدك حتى تظن أنك أحدها، فيجعلك تغضب وتهدأ، تعلو وتهبط مع كل شخصية من شخصياته.

أنهت أجراس الكاتدرال عزفها لإعلان تمام الساعة، والراقصة أنهت لوحتها، فدخل الجميع في حمّى التصفيق إلا حامد ظل واقفاً زاهداً بالجميع، متأهّباً للوصول إلى الطرف الآخر من الصحراء، كان أمامي، رأيته يتفحص أعينهم بنظرات ثابتة، جميع من حضر كانت نظراته حائرة إلا هو، فقط هو من كان يعي تماماً إلى أين سيذهب.
في جانب آخر من الساحة، انتبهت إلى غسان كنفاني يقف أيضاً ويشاهد ما الذي يحصل. اقتربت منه، فأخبرني كم كان حامد تائهاً في عتمة السماء وأحشاء الصحراء، حين كتبه، كم كان رغم تيهه في المكان، يمتلك الثبات في موقفه والإصرار من أجل ما عزم عليه؛ قاطع الحديث شاب ثلاثيني ذو لحية شقراء وعينين زرقاوين بسؤاله، هل تتكلمين الإنكليزية؟ أجبته بنعم، ثم سأل هل أنت من برشلونة؟ أجبته: أنا أعيش هنا، في هذا الحي، لكني لست من هنا. هل ضللتَ طريقك؟
أخبرني بأنه يحتاج إلى من يدلّه أين تقع ساحة كاتالونيا، أجبته ثم سألته، من أين أنت؟ فأجابني، لا يمكنك أن تحزري من أين، أنا من دولة في الطرف الآخر للبحر المتوسط محشوة بين صحراء ونهر وبحر، فيها أقدم مدن العالم على الإطلاق، صغيرة وخضراء نزرع فيها الزيتون والبرتقال، ونصنع فيها أنواعاً شهية من الحلويات وأهم طبق نقدمه هو الفلافل، هل عرفت اسمها؟
عرفتُ من صيغة سؤاله بأني أمام عدوّي، وأن معركة ما ستبدأ الآن، فتأهّبت لها ورسمت ابتسامة ساخرة وأجبته بنبرة العارف المتحدّي، إنها فلسطين، وابتسامتي الساخرة ونظرتي المتكبرة أحاطتا به فارتبك وانتفض قائلاً: لا، ليست فلسطين، أنت لا تعرفين التاريخ، كم أنت جاهلة، إنها إسرائيل. عاد حامد وظهر من جديد، رأيته يطرحه أرضاً ويثبت جسده ليحشر نصله في خاصرته، كما فعل بالجندي الإسرائيلي الذي ظهر له في غياهب الصحراء داخل صفحات الرواية.

عادت الأجراس تقرع مجدداً، وسمعت حامد يقول: «إنها قصة مسافة ليس غير، وربما زمن أيضاً»، تدفق الكلام من فمي، هذه التي تحدثت عنها، اسمها فلسطين، ولا يمكن أن تعرفها أكثر مني، إنها بلدي وموطني، يا لوقاحتكم، تسرقون البلاد، وتشبعون الناس برواياتكم وادعاءاتكم الكاذبة. بلدك هذه التي تسمّيها إسرائيل لا يتجاوز عمرها الـ 75 عاماً، أمّا فلسطين، أمّا الحقيقة، فهي من قدم التاريخ، أقدم مدينة في التاريخ اسمها أريحا وتقع في فلسطين.
كانت نظراتي حادة وصوتي ثابتاً، اقترب حامد مني، وهمس هواجسه في أذني «الأمور هنا نسبية تماماً وهي لمصلحتي أيضاً وهذا شيء غريب، فقبل دقائق فقط، كان كل شيء في هذا الكون ضدّي تماماً، وكانت الأمور كلها في غزة والأردن تعمل في غير مصلحتي وكنت أقف هنا تماماً في رقعة محاطة بالخسائر من كل جانب».
تجمّد الرجل في مكانه، وبان في عينيه التيه، لقد صعقته إجابتي فأدرك أنه في حضرة جيش من الغضب، فعرف مدى خسارته وتسلّق وجهه الذعر، كجنديّ وحيد وجد نفسه أمام جيش عدوّه عارياً.
عادت الأجراس تقرع فرأيت مريم، أخت حامد، تقوم بغرز نصلها بالرجل، كما غرزته في أحشاء زكريا لتسكت ضجيجه وتثأر لحامد الذي ابتلعته الصحراء مع الجندي الإسرائيلي، تحوّلت أنظار الجموع نحوي ونحو الإسرائيلي الذي انهار أمام نظراتنا أنا ومريم. فتقدّمت مني حسناء إسبانية، وسألتني، ما باله، فأجبتها، لا شيء، هذا ما تبقّى لكم.


info portfolio


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 129 / 2184581

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع بعد الطبع   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2184581 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40