السبت 31 تموز (يوليو) 2021

خطة قيس سعيّد

السبت 31 تموز (يوليو) 2021 par د. عبد الحليم قنديل

ما جرى ويجري في تونس ليس انقلابا، اللهم إلا إذا كانت جماعة بذاتها، تعتبر أن وجودها في الحكم ثورة، وأن خروجها منه انقلاب، وفي ذلك ما فيه من مجافاة وازدراء للحقائق الصلبة، فالرئيس قيس سعيّد المتهم جزافا بتنفيذ انقلاب، هو الأعظم شعبية بما لايقاس لغيره فى تونس اليوم، وقد حصل في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019 على نحو عشرة أمثال المصوتين لغريمته حركة «النهضة» ذات الجذور الإخوانية.

والمعنى ببساطة، أن الشعب التونسي أراد قيس سعيّد بأكثر مما أراد اختيار أي طرف آخر، برغم أن سعيّد كما هو معروف، أستاذ قانون دستوري، لم ينضم في حياته إلى حزب ولا جماعة، وبدا في صورة التونسي العادي، المختلف في حديثه على الدوام باللغة العربية الفصحى، النزيه إلى أبعد الحدود، فقير الإمكانيات المالية إلى حافة الكفاف. وكان طلابه هم قادة حملته الانتخابية، أداروها من شقة مستأجرة متواضعة، ورفض الرجل تلقي المنحة المالية المقررة من الدولة لمرشحي الرئاسة. وكان يمشي على قدميه بين الناس في الشوارع والأسواق، ولم يعقد مؤتمرا انتخابيا واحدا، ومع ذلك فاز بالمركز الأول في انتخابات الرئاسة، وأقصى «عبد الفتاح مورو» مرشح حركة النهضة، الذي حل ثالثا بعد رجل الأعمال نبيل القروي، في حين حل الرئيس الأسبق «المنصف المرزوقى» في ذيل القائمة، وبنسبة أقل من نصف في المئة. وفي الجولة الثانية كانت المواجهة الحاسمة بين سعيّد الفقير و»القروي» الذي هو من أغنى أغنياء تونس، والمتهم لا يزال بوقائع فساد متراكمة، وكانت المفاجأة الانتخابية التي لم تكن مفاجئة، فقد كانت نسبة التصويت هي الأعلى فيما شهدته تونس، وفاز سعيّد بأكثر من ثلاثة ملايين صوت انتخابي، وحصد ما فاق ثلاثة أرباع إجمالي الأصوات، فقد حملته موجة شعبية هادرة حالمة بتغيير ثوري حقيقي، وقد وصفت الرجل فيما كتبت وقتها بأنه «قيس تونس»، ربما في إحالة رمزية إلى دراما «قيس وليلى» المشهورة في التراث العربي القديم، وهي واحدة من قصص الحب الأسطورية، التي لا تتوج أبدا بخاتمة زواج. ووجه الشبه، أن قيس سعيّد الأكثر شعبية ومحبة في أوساط التونسيين، قد لا تمكنه صلاحياته المحدودة في الدستور، أن ينفذ حلمه وأحلام الذين انتخبوه، وربما كانت هذه هي المحنة، التي حاول سعيّد الخروج من أسرها بقراراته الأخيرة فى 25 يوليو/تموز 2021، من نوع إقالة الحكومة وتجميد البرلمان ورفع حصانات النواب، التي يحلو لبعضهم وصفها بالانقلاب على الدستور.

ومن حق الشعب التونسي وحده أن يحسم رأيه في قرارات قيس سعيّد، وقد اتخذها بعد وقت طويل من الصبر، ومن شلل عمل المؤسسات، ومن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومن مآس مضافة، بانتشار مريع لجائحة كورونا، ومن تضاعف أرقام البطالة، وتراكم ديون تونس إلى ما يجاوز إجمالي ناتجها القومي، ومن انكماش الاقتصاد بنسبة 8.6% في العام الأخير وحده، ومن تفشي الفساد بغيرردع ولا حساب، والعجز المفزع لبرلمان معلق مشتت، لا يحظى فيه حزب بأغلبية مطلقة، وتجري فيه المساومات والصفقات على نحو لا يعرف طعما للمبادئ المعلنة، ويجمع حزب النهضة (الإسلامي) مع حزب نبيل القروي الموصوم بالفساد في تحالف وثيق، وبما انتهى بتونس إلى حال خطر داهم، رأى معه الرئيس، أن يطبق نص المادة (80) من الدستور، وبتفسيره المختلف عليه مع آخرين، فى غياب «محكمة دستورية» كان يمكن اللجوء إليها. ولم تقم إلى الآن بعد سبع سنوات من إقرار دستور 2014، وكان يتعين إقامتها في غضون عام من سريان الدستور، ولم يقم الرئيس سعيّد بحل البرلمان، بل جمده لمدة شهر واحد، ومن دون أن يعني ذلك نهاية القصة، فمن حق الرئيس طبقا للدستور، أن يحل البرلمان في حالة وحيدة، إذا أخفق البرلمان في منح الثقة للحكومة، وهو ما يبدو واردا إذا ما امتنع البرلمان عن منح الثقة اللازمة لحكومة جديدة، يشكلها الرئيس بنفسه حسب قراراته، أو إذا ما تطور الموقف إلى أسوأ، ولجأت أطراف بعينها إلى إثارة عنف اعتراضي، قد يضطر الرئيس إلى الرد عليه، استنادا إلى قوة الجيش والأجهزة الأمنية، وإلى أغلبية شعبية ظاهرة متحمسة لقرارات الرئيس الأخيرة، تضم أغلب النقابات ومنظمات المجتمع المدني النشيطة، وبينها «اتحاد الشغل» أكبر منظمة نقابية اجتماعية مؤثرة في تونس.
ومفارقة الرئيس قيس سعيّد تبدو ظاهرة، فهو الرجل الذى استخف به السياسيون المحترفون، وظنوا أنه سيكون رئيسا بروتوكوليا، يكتفي باستقبال الضيوف في «قصر قرطاج»، ويوقع ما يصله من قوانين ومراسيم. لكن الرجل خالف مؤدى الظنون المسبقة، ورفض الترويض، وتوسع في تفسير كل صلاحية منحها له الدستور، وتمسك باختصاصات الأمن القومي والدفاع والعلاقات الخارجية، واستثمر عجز «حركة النهضة»، أكبر الأحزاب تمثيلا نسبيا في البرلمان، عن تشكيل حكومة وتعيين رئيس وزراء من جهتها، وسقوط مرشحها الأول «الحبيب الجملي» في امتحان الثقة البرلمانية، لتتشكل بعدها حكومتا إلياس الفخفاخ ثم هشام المشيشى، الذي تورط في صدام مع الرئيس بدفع من حركة النهضة وحلفائها، وإلى أن أطاح الرئيس بالجانبين معا، مستفيدا من المزاج الشعبي العام، الذي ينظر بازدراء للبرلمان الفوضوي، ولحكومات عشر تعاقبت بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011، ومن دون أن تفهم الجانب الجوهري في مغزى الثورة، التي تحققت بعدها لتونس كثير من مظاهر الحريات المدنية والسياسية، ولكن مع تدهور اقتصادي واجتماعي فادح، فاقم آلام أغلب التونسيين. فقد قامت الثورة بشعلة «محمد البوعزيزي»، الشاب الجامعي الذي اضطر للعمل كبائع متجول، وصادروا عربته اليدوية بما عليها من فواكه وخضروات، فأشعل النار في جسده بعد صفعة إهانة شرطية، وإلى أن صعدت روحه إلى بارئها قبل عشرة أيام من انتصار الثورة الشعبية، وهروب الدكتاتور «زين العابدين بن علي». كان المغزى فيما جرى، أن التنمية الاقتصادية الإنتاجية والحقوق الاجتماعية لها الأولوية المطلقة عند الملايين، وهو ما لم يكن واردا في حساب الطبقة السياسية التي تشكلت بعد الثورة، وفي حلف مرئي مع طبقة سياسة «بن علي»، وهو ما بدا فاقعا في تحالف «راشد الغنوشي» زعيم النهضة مع حزب «نداء تونس» لمؤسسه المخضرم «الباجي قايد السبسي»، وقد كان الأخير من أكبر أعوان بن علي، واستثمر السخط الشعبي على حكومات النهضة و»الترويكا» الت أعقبت ثورة 2011، وكون حزبه من موارد شتى مختلفة، واستطاع خطف المركز الأول في برلمان 2014، وجعل «النهضة» حليفا أصغر، اكتفى بتمكين أعضائه وأنصاره في مؤسسات ووظائف الدولة، فقد جرى عبر سنوات تعيين 150 ألف موظف إضافي في دولاب الدولة، ومن دون أن يفيد تفكك حزب «نداء تونس» فيما بعد، وحتى قبل وفاة السبسي الذي شغل منصب الرئيس، ولم يفد تفكك حزب النداء فى صحوة شعبية لحركة النهضة، التي جاهد الغنوشي لنفي صفة «الإخوانية» عنها. الغنوشي الذي بدأ حياته السياسية ناصريا، ثم تحول إلى «الإخوانية» في سبعينيات القرن العشرين، وأنشأ «الجماعة الإسلامية»، التي تبدل اسمها فيما بعد إلى حركة «الاتجاه الإسلامي»، ثم إلى حركة النهضة، التي وصفها قبل سنوات بغير الإخوانية، وأنها صارت بعيدة عن حركات الإسلام السياسي بعامة، ربما في محاولة للإفلات من مصائر محتومة، عاد ليواجهها اليوم، بعد التدني المتواصل لشعبية حزبه عبر السنوات العشر الأخيرة. وكان حزب «النهضة» قد فاز بنحو المليون ونصف المليون صوت في أول انتخابات بعد الثورة، تراجعت إلى أقل من الثلث في انتخابات أواخر 2019، وهو ما يدرك مغزاه الرئيس الذي يبني حزامه السياسي من أصوات مؤيديه السائلة، ومن حيازته لتأييد أحزاب أهمها «التيار الديمقراطي» و»حركة الشعب» الناصرية، تجعل سعيّد راغبا في دفع التطورات التونسية إلى انتخابات مبكرة، بعد تنظيم محاكمات لأمراء الفساد، وبعد إجراء استفتاء على تعديلات دستورية، تعزز مكانة وصلاحيات الرئيس في النظام السياسي. وهذا فيما نظن، هو رهان الرئيس، الذي قد لا يسعى متعجلا إلى إصدار قرارات من نوع حل «حركة النهضة»، بل يريد العودة للشعب، ويترك القرار للمصوتين التونسيين. وفى سياق ما تحدثنا عنه مبكرا قبل نحو سنتين، قلنا وقتها وبالعامية المصرية أن «تونس هتعيد السنة»، أي أنها ستعود لثورة جديدة بحثا عن تصحيح ممكن، وها هي تونس تفعلها.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2184625

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2184625 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 20


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40