السبت 24 تموز (يوليو) 2021

عبدالناصر الذي أمامنا

السبت 24 تموز (يوليو) 2021 par د. عبد الحليم قنديل

عبدالناصر أمامنا وليس خلفنا، نعرف ويعرف الكل، أن جمال عبدالناصر رحل إلى جوار ربه قبل أكثر من خمسين سنة، لكن مشروع عبد الناصر القومي العربي، ومشروعه للنهوض المصري العربي، وقيمه وأفكاره ومعارك ثورته التأسيسية الكبرى، كلها تظل تعيش بيننا طويلا، نافذة بإلهامها الذي لا ينفد إلى أعماق الروح والضمائر الحية، في لحظة حيرة عربية شاملة، تشهد مصارع كل أفكار وتجارب المعادين لعبد الناصر، في حياته وبعد مماته، بينما «يعيش جمال عبد الناصر حتى في موته» على حد نص المقطع الموحي لشاعر العامية المصرية عبد الرحمن الأبنودي.

يعيش جمال عبد الناصر في ضمائر المصريين اليوم، وفي دعواتهم المباركة وأشواقهم الحارة، وهم يرون صورته ناطقة بملامح مصر، وتكاد تطابق جغرافيا البلد وتدفق الحياة فيها، والوقاية من غوائل العطش والجوع، والثقة والطمأنينة بقوة بلدهم المحمية المحروسة بإشارات السماء، وهي تجيء بفيضان النيل غامرا في العام تلو العام، ففي عام 2019، كان فيضان النيل هو الأعلى على مدى خمسين سنة قبلها، وفي عام 2020، كان الفيضان هو الأعظم على مدى مئة سنة سبقت.

ويجيء فيضان النيل هذا العام مرتفعا، ويعبر حواجز السد الإثيوبي مع إخفاقات الملء الثاني الكاريكاتيري، ويصل إلى ذروته في مصر كما كل سنة في شهر سبتمبر، الذي شهدت أواخره رحيل عبد الناصر، وصد سده العالي لكل خطر من الفيضان، وحجز أعلى مخزون مائي خلف السد في «بحيرة ناصر» وهي أكبر بحيرة صنعها الإنسان في الدنيا كلها، يبلغ طولها 500 كيلومترا، وأقصى عرضها 35 كيلومترا، ومساحتها 6216 كيلومترا مربعا، وبارتفاع 180 مترا، وبطاقة تخزين واصلة إلى 180 مليار متر مكعب من المياه، أي ما يزيد على ثلاثة أمثال نصيب مصر التاريخي المقرر من مياه النيل، والمقدر بنحو 55.5 مليار متر مكعب سنويا، فوق طاقات تخزين إضافية في مفيض توشكى وغيره، ترفع إمكانيات التخزين المصري بحوالي مئة مليار متر مكعب إضافية، توفر «بوليصة تأمين» شاملة للحياة المصرية، حتى في سنوات جفاف منابع النيل، كما جرى في ثماني سنوات عجاف بين عامي 1979 و1987، سرى فيها القحط والتصحر في إثيوبيا، بينما لم يحس أحد بخطر ولا تغير في الإيقاع المصري اليومي، فقد كان سد عبد الناصر العالي تطورا فاصلا في حياة المصريين عبر آلاف السنين، كان النيل يتحكم في حياة المصريين قبل السد، وصار المصريون مع السد سادة النيل، كان النيل قبل السد مصدرا لنعمة ونقمة، كان فيضان النيل يهب الحياة، وكان غضب الفيضان يغرق ويدمر، وكان جفاف النيل وغيضانه يؤدي لمهالك ومجاعات كبرى، قصفت أعمار أجيال وراء أجيال من المصريين، وعلى نحو ما تحدثنا عنه سير المآسي المصرية، كما جرى مثلا في «الشدة المستنصرية» في الزمن المملوكي، كان المصريون وقتها لا يجدون زادا، وأكلوا القطط والفئران، بل ولحوم إخوتهم من البشر، وكانت الزراعة مع الفيضان موسمية عابرة، وكان الفيضان يذهب بغالب إيراد النيل إلى البحر المتوسط، ولا يتبقى للمصريين سوى نحو خمسة مليارات متر مكعب سنويا، رغم جهد المصريين الدؤوب في شق الترع والقنوات وتنظيم الري في دولتهم الأقدم كونيا، وإقامة قناطر وخزانات في دولتهم الحديثة، كان أظهرها بناء «القناطر الخيرية» في عهد محمد علي عند نقطة تفرع النيل إلى «دمياط» وإلى «رشيد» وكان أفضلها «خزان أسوان» وتعلياته المتتابعة من أواخر القرن التاسع عشر حتى أواخر عشرينيات القرن العشرين، كان سدا صغيرا جدا بالقياس لحجم السد العالي، الذي كانت فكرته حلما راود مئات الأجيال من العلماء والوطنيين، كان أبرزهم عالم الرياضيات العربي الشهير الحسن بن الهيثم (المتوفى سنة 1029 ميلادية) وقام بتحديث الفكرة المهندس المصري من أصل يوناني أدريان دانينوس، وقدمها إلى قادة ثورة 23 يوليو 1952، التي نمر اليوم بذكراها التاسعة والستين، والتقط عبد الناصر فكرة السد الأعظم، وجرى تكليف شركة ألمانية بإعداد التصميمات الأولية عام 1954، في الوقت ذاته الذي بدأت فيه سيرة إقامة أول مصنع مصري وعربي للحديد والصلب بحلوان، ثم كان ما كان، مما تعرفه أجيال عاشت اللحظة وتلتها، من عقبات التمويل، وانسحاب أمريكا وبريطانيا من تمويل المشروع، ثم انسحاب «البنك الدولي» وإنهاء عرضه بتمويل ربع التكلفة، ورفض جمال عبد الناصر لفرض أي شروط على مراقبة الخزانة المصرية، أو عقد أي اتفاق تطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، أو التراجع عن خطة تنويع مصادر السلاح، في ملحمة صراع كبرى، بلغت ذراها بتأميم عبد الناصر لقناة السويس، والمقاومة الأسطورية لحرب العدوان الثلاثي (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي) وانتصار مصر الحاسم، الذي قطعت به ذيل الأسد الإمبراطوري البريطاني للأبد، وهزمت الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية بدعم حرب تحرير الجزائر، وأحبطت خطط «ملء الفراغ» الأمريكية، وأحلاف العداء لعبد الناصر وثورته، التي ارتدت كالعادة ثيابا دينية مزيفة، مع توالي قفزات التمصير والتأميم والتصنيع، التي جعلت مصر الأعلى في معدلات التنمية الحقيقية في العام الثالث وقتها، بما فيه «صين» ماوتسي تونغ وشو إين لاي، وفي قلب الفورة العظمى، كان حلم «السد العالي» يتحول من خاطر إلى احتمال، ثم إلى حقيقة لا خيالا، على حد ما نطقت به قصيدة عزيز أباظة بالفصحى، التي شدت بها أم كلثوم، و»قلنا حنبني/ وادي إحنا بنينا السد العالي» كما قال أعظم شعراء العامية المصرية صلاح جاهين، وإلى أن ارتفع البناء عاليا شاهقا في عشرية الستينيات، وجرى افتتاحه كاملا بمحطاته الكهربية في 15 يناير 1971، كان عبد الناصر قد غاب بجسده قبلها بشهور، رحل في عنفوان الرجولة في سن الثانية والخمسين، ولكن بعد أن ترك هرمه الباقي الحافظ لحياة المصريين بعد عناية الله، ترك سده الذي يزيد حجمه 18 مرة على أكبر أهرامات المصريين القدامى، مع فارق مرئي، أنه هرم لبعث الحياة لا لدفن الموتى.

نعم، السد العالي هو الإيحاء الرمزي الأعظم لميراث جمال عبد الناصر، الذي انتصر مرات، وهزم مرة ثقيلة في حرب 1967، لكن الشعب المصري الذي كان يدرك بالغريزة مغزى وجود عبد الناصر في حياته، رفض تنحي الرجل عن القيادة، بعد اعترافه بمسؤوليته عن الهزيمة، وأعاده إلى موقعه بفيضان جماهيري عارم في 9 و10 يونيو 1967، هو ذاته الفيضان، الذي اجتاح شوارع مصر وميادينها في انتفاضة يناير 1977، وفي ثورة الشعب في 25 يناير 2011، وفي موجتها الثانية الأعظم 30 يونيو 2013، وقد شهدتا أكبر معرض صور في التاريخ لشخص مفرد غائب بجسده منذ 28 سبتمبر 1970، كان رفع صور عبد الناصر تعبيرا عن الاستمساك بالحلم، الذي لم يفرط فيه عبد الناصر حتى آخر نفس، ولم يخذل شعبه ولا أمته أبدا، فقد راح بعد الهزيمة الثقيلة الكاسحة، يتعهد ويمهد لاكتساب قيمة الديمقراطية التعددية مع إزالة آثار العدوان، دعما وتعزيزا لقيم الاستقلال الوطني والثقافي، والتصنيع الشامل وأولوية العلم والتكنولوجيا، وكفاية الإنتاج وعدالة التوزيع، والتوحيد العربي، ويعيد بناء الجيش المصري من نقطة الصفر، ويخوض ملاحم حرب الاستنزاف ذات الألف يوم، ويشيد حائط الصواريخ العظيم، وكان ذلك آخر إنجاز في حياته القصيرة الخاطفة، وذروة الإعداد الأعظم للعبور المعجز إلى النصر في حرب أكتوبر 1973، كان جيش عبد الناصر هو الذي اقتحم المستحيل، وهو ذاته الجيش الذي جرى ويجري تطويره بجهد هائل يحسب للرئيس السيسي، وبعودة صحيحة إلى سياسة عبد الناصر ذاتها في تنويع مصادر السلاح وبعث الصناعات الحربية، وإلى أن صار أقوى تاسع جيش في العالم، يصد عن مصر غارات المتربصين الدوليين والإقليميين، ويدفع عنها دوائر عدوان متكاثرة، لعل أخطرها ما يجري من عبث عند منابع النيل بالسد الإثيوبي، بينما تشعر مصر اليوم وبثقة، بأنها قادرة على سحق الخطر بقوة جيشها العظيم، والتفاف شعبها على قلب رجل واحد، وبقدراتها المتفوقة في لحظة نهوض، تتوالى أماراته تباعا، بعد ركود وانهيارات متتابعة منذ الانقلاب على خط عبد الناصر وتجربته وسيرته أواسط السبعينيات، وتغول مصائب الفساد المتوحش، وطفح اليمين الديني، وكلاهما في خانة عداء مستحكم مع عبد الناصر اسما ورسما، ومع سد مصر العالي، ومع جيشها الحامي الحافظ لأمنها ومقدراتها واتصال وجودها الخالد إلى أن يرث الله الأرض.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2184585

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع مقالات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2184585 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40