الأحد 11 تموز (يوليو) 2021

أزمة السد الإثيوبي: من معنا... ومن ضدنا؟

عبدالله السناوي
الأحد 11 تموز (يوليو) 2021 par عبدالله السناوي

لا توجد آمال كبيرة معلقة على اجتماع مجلس الأمن الدولي، الذي يعقد اليوم للنظر في التداعيات المحتملة لأزمة السد الإثيوبي على الأمن والسلم الدوليين.

إذا أردنا أن نصارح أنفسنا بالحقائق، فإنه لا يوجد اعتقاد راسخ لدى عدد كبير من الدول الكبرى بأن هناك تهديداً جدياً للأمن والسلم الدوليين عند منابع نهر النيل يؤثر بالضرورة على القرن الأفريقي كله، ويضرب في استراتيجية البحر الأحمر ويتمدد إلى المنطقة كلها.
هذه مسؤوليتنا قبل أن تكون مسؤولية الآخرين.
إذا لم تعرض القضية على نحوها الصحيح، من دون تلعثم في معنى أو تردد في رسالة، فإنه يصعب أن تلوم الآخرين إذا لم يدركوا أن الأزمة المستحكمة قد تفلت نيرانها عند الحد الفاصل بين الموت والحياة لأكثر من مئة وخمسين مليون مصري وسوداني يعتمدون بصورة شبه كاملة على مياه نهر النيل في تدبير متطلبات الوجود والبقاء.
هكذا كان ممكناً لرئيس الدورة الحالية لمجلس الآمن، ممثل فرنسا الدولة الصديقة المفترضة، أن يصادر ما يمكن أن يصدر عن الجلسة المنتظرة قبل أن تبدأ، فالعالم مليء بأزمات المياه والمجلس ليس لديه ما يفعله سوى دعوة الأطراف المعنيين للعودة إلى موائد التفاوض مجدداً تحت رعاية الاتحاد الأفريقي!
قبل انعقاد مجلس الأمن مباشرة، أقدمت إثيوبيا على خطوتين لافتتين:
أولاهما، التعهدات الشفهية، التي أطلقها رئيس وزرائها “آبي أحمد” بعدم الإضرار بمصالح البلدين وأمنهما المائي، فإذا ما كان الأمر كذلك فإنه لا داعي للقلق، أو الذهاب أصلاً إلى مجلس الأمن، أو تدخل الجامعة العربية في ملف ليس من شأنها – بحسب تصريحات إثيوبية أخرى.
وثانيتهما، إبلاغ مصر والسودان ببدء الملء الثاني للسد، كما لو أنه التزام بإعلان المبادئ، الذي وقّع عام (2015)، فإذا ما كانت إثيوبيا ملتزمة بتبادل المعلومات، فإنه لا داعي لتصعيد لغة الخطاب؛ فأيّ اختلافات يمكن حلها في إطار الاتحاد الأفريقي.
كانت تلك مناورة في الوقت بدل الضائع لإجهاض أي تحركات دبلوماسية مصرية سودانية تستهدف طرح الأزمة باعتبارها تهديداً للأمن والسلم الدوليين، كما اكتساب وقت إضافي للانتهاء من الملء الثاني لخزان السد وإيجاد أمر واقع، تتمكن إثيوبيا بعده من إملاء كامل شروطها على دولتي المصب.
بصراحة كاملة: الكلام المتلعثم بين التشدد والرخاوة يشجّع إثيوبيا على المضيّ قدماً في إجراءاتها الانفرادية والاستخفاف بوجودنا الإنساني نفسه.
بأيّ قراءة موضوعية، فإن إثيوبيا ليست في موقع قوة عسكرية ودبلوماسية تؤهلها لممارسة عنجهية مفرطة على دولتي المصب، فجيشها تلقّى هزيمة مذلة في إقليم “تيغراي” اضطرته إلى الانسحاب ووقف إطلاق النار من طرف واحد، والانقسامات العرقية الداخلية وصلت إلى حدود تهدد وحدة الدولة ومستقبلها كما لم يحدث من قبل، ودبلوماسيتها استنزفت طاقتها على المراوغة والتهرب من توقيع اتفاق قانوني ملزم، لكنها ما زالت تراهن على وضع الجميع أمام الأمر الواقع بعد الملء الثاني لخزان السد.
إذا لم تكن هناك أزمة كبرى تهدد الأمن والسلم الدوليين، بالفعل لا بالإيحاء، فإن أحداً في العالم لن يحارب معركة وجودنا بالنيابة.
الرضوخ للأمر الواقع هو المستحيل بعينه، فإذا ما نضبت مياه النيل وبارت ملايين الأراضي الزراعية وانتشرت المجاعات، فسوف يتقوّض كل شيء، الشرعية والدولة والمجتمع نفسه.
هكذا تطرح الحسابات الحرجة نفسها على صانع القرار، وتلقي بظلالها الكئيبة على رأي عام يستبد به القلق وهو يتوقع الأسوأ في مقبل الأيام.
باليقين فإن التعاون الإقليمي بين دول حوض النيل هو الخيار الأفضل، غير أنه شبه مستبعد حالياً أمام الإصرار الإثيوبي المقصود على تحويل نهر دولي إلى بحيرة تتحكم فيها وحدها، تحدّد الأنصبة المائية وفق المصالح المتغيرة والضغوط الممكنة من أطراف معلنين وشبه معلنين -إسرائيل في مقدمتهم.
الحرب احتمال مرجّح لكنه قد لا يكون حتمياً إذا ما اقتنع المجتمع الدولي بأن أخطارها سوف تضرب مصالحه في الصميم.
بنظرة سريعة إلى خرائط التحالفات والمواقف الماثلة والمحتملة، فإن العالم العربي تأخر في المثول بالمشهد المأزوم، غير أن حضوره لعب دوراً لا يستهان به في إضفاء قوة إضافية على الموقف المصري والسوداني قبل اجتماع مجلس الأمن.
المواقف العربية تراوح بين دولة وأخرى، بين الدعم الدبلوماسي النشط، و“سد العتب” بإصدار بيانات تؤيد من دون أي تحركات دبلوماسية أو غير دبلوماسية، وشبهات تواطؤ نصف معلنة على المصالح المصرية العليا تحتاج إلى وقفات جادة، حتى تستبين المواقف الأخيرة في المعركة الوجودية الضاغطة.
الخريطة الأفريقية أكثر التباسا ًحيث تسود درجة من التفهم لدواعي القلق المصري والسوداني، لكنه لا ينعكس في مواقف لها تأثيرها على مجريات الحوادث.
هناك اقتناع إثيوبي بأن القارة معها، وأن أحداً فيه لن يناهضها في العلن خشية أن يتهم بالعمل على منع الحق في الكهرباء والتنمية عن الأفريقي الأسود الفقير القابع في قراها.
ثم إنها تستثمر سياسياً في وجود مقر الاتحاد الأفريقي في عاصمتها أديس أبابا على حساب مصر، التي أسّسته في ستينيات القرن الماضي باسم “منظمة الوحدة الأفريقية”، إثر قيادتها لحركة تحرير القارة.
فيما بعد انسحبت مصر من القارة وأخلت مواقعها القيادية وتراجعت مكانتها بصورة فادحة تدفع أثمانها الآن.
الأكثر مأساوية أن دولة مثل جنوب أفريقيا، التي لعبت مصر أكبر الأدوار في تحريرها من ربقة “الأبارتهايد”، أكثر ميلا إلى إثيوبيا التي لم تفعل شيئاً تقريباً في معركة إنسانيتها المهدرة.
بالقدر المأساوي ذاته، فإن الصين الشعبية وروسيا بدرجة أو أخرى أكثر تفهماً بحسابات المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للسد الإثيوبي، من دون اعتبار كبير لما قد يحيق بمصر، التي لعبت دوراً جوهرياً في خمسينيات القرن الماضي في فك الحصار الغربي عن الصين، كما كانت صداقتها للاتحاد السوفياتي السابق مثالاً يضرب في العلاقات الثنائية.
لتغيرات العصور حسابها وللمصالح كلمتها في تقرير مواقف الدول.
هذا ما يجب أن ندركه باعتبارات الحاضر لا بإرث التاريخ، فمصر بالموقع الجغرافي دولة محورية في إقليمها وقارتها، تحتاج إليها الصين الطموحة إلى لعب أدوار أكبر في النظام الدولي الذي يوشك أن يولد من تحت أنقاض جائحة “كورونا”، كما تحتاج إليها روسيا المنخرطة في أزمات الشرق الأوسط.
كلتا الدولتين، الصين وروسيا، تتحركان في المناطق الرمادية، لا معنا ولا ضدنا، تميلان إلى إثيوبيا لكنهما غير مستعدتين لمعاداة مصر.
أميركا نفسها، شأن الدول الأوروبية، تتحرك في مناطق رمادية مماثلة، تبدي تفهّماً لدواعي القلق المصري والسوداني، وتخشى من انفلات الأزمة عن حدودها الحالية، من دون أن تقدم على أي مواقف تؤثر في مجرى الحوادث وتوقف تدهورها.
قضيتنا عادلة، لكن الأداء العام يحتاج إلى إعادة صياغة وضبط ومراجعة وتصحيح.
مصر تحتاج إلى أن تزمجر حتى تدرك المراكز الدولية الكبرى أن الأمن والسلم الدوليين مهددان حقاً بما يستلزم التدخل لوقف العنجهية الإثيوبية، وإلا فإنها الحرب، أياً ما كانت أخطارها وتضحياتها.
عندما يعلو صوت مصر بالغضب، فإن خرائط المواقف والتحالفات سوف تتضح من دون التباس، أو وقوف في المساحات الرمادية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2184493

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2184493 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40