السبت 3 تموز (يوليو) 2021

اغتيال نزار بنات والخطاب الهزيل

ياسر أبو شقرة
السبت 3 تموز (يوليو) 2021

بعدما تعاطف معه كثيرٌ من السوريين ونعوه في صفحات التواصل الاجتماعي، اتضح لهم أن الناشط الفلسطيني نزار بنات، الذي قتلته السلطة الفلسطينية تحت التعذيب، كان يؤيد قاتلهم وحلفاءه، ويقف إلى جانب النظام السوري، فاضطر البعض إلى حذف المنشورات التي حزنوا بها على موته، واستبدلوها بمنشورات تعتبر ما حصل له جزاء ما تمناه لهم. وإن كان أي موقف سياسي، مهما كان، لا يمكن أن يُستخدم لتبرير الاغتيال، كما أن مراجعة المواقف السياسية بعد الاغتيال تحيل المراجعين مساوين لظالميهم ومفتقدين للمسطرة الأخلاقية إن هم شمتوا في واقعة الموت تحت التعذيب... فإن الخطاب نفسه جدير بالتأمل.

فالانتقال السريع الذي شهده الخطاب السابق من الضد إلى الضد، لم يتطلب سوى مشاهدة مقطع فيديو مدته ثوان معدودة لبنات، يسخر فيه من الثوار السوريين، أو قراءة إحدى تغريداته التي تصف فريق “الخوذ البيضاء” بالقتلة، أو التي تكذّب ارتكاب النظام السوري لمجازر الكيماوي بنعتها بـ“مسرحيات الكيماوي”، أو السخرية من السوريين الذين استخدموا وسم #الغوطة_تحترق، ووعده لهم بأن “عواءهم سيصل للسماء” عبر وسم #إدلب_تحترق.

تغريدة واحدة لم تتجاوز بضع أسطر، كانت كافية لإشعال الغضب داخل كثير من المتعاطفين، إذ لم يكن المغدور من أنصار الأسد وحلفائه فقط، بل كان يتهكم على آلام السوريين، وعليه انتقل بنات من خانة “الشهيد تحت التعذيب” إلى خانة “مجرم كقاتليه”.

الأبرز هنا كان الانتقال من النقاش السياسي/ القانوني إلى النقاش الأخلاقي، والانتقال من اتهام السلطة الفلسطينية بسفك دم رجل لم يقم بجريمة، إنما عبر عن رأيه فقط، إلى مساواة الجلاد والضحية، والابتعاد عن أي نقاش يذهب خطوة أبعد من إلقاء الآراء السريعة، تلك الممارسة التي تحرض عليها مواقع التواصل الاجتماعي، لتثار في النهاية زوبعة من الشتائم والتفريغ العاطفي، تضع رواد هذه المواقع في موضع الجلادين الشامتين في وقت تربح فيه السلطة الفلسطينية من خلال تشتيت الانتباه عن جريمتها، حيث يتلاشى النقاش السياسي/ القانوني الهادف لمحاكمة القتلة. ويبرهن النقاش الأخلاقي أن الجميع متساوٍ مع السلطة الفلسطينية في تشريع القتل تحت التعذيب، وبذلك تخرج السلطة بأجهزتها المجرمة من دائرة النقاش، ويصبح الموضوع هو بنات ومواقفه السياسية.

للأسف فإن أكثر ما نجحت فيه الأنظمة في المشرق العربي، ومن ضمنها السلطة الفلسطينية خلال السنوات الفائتة، هو حرمان الشعوب من التمسك بالمطالب التي قامت الثورات لأجلها، وفي معظمها مطالب محقّة بالمعايير كافة، كحق المواطن في أن يعبّر عن رأيه بوضوح، هذا المطلب الذي لم تختبره شعوب المنطقة بعد، وما زالت لا تجيد التعامل معه كما يظهر اليوم.

وفيما يعاني المواطن في سورية ولبنان وفلسطين والعراق، ويلات الحياة اليومية والحرب، يسأل نفسه: إلى أي حد يمكنني تحمّل الرأي الآخر؟ هل مَن يريد قتلي، ويشمت فيه، ويحرض عليه في منصات التواصل الاجتماعي، مجرد رأي آخر؟ أم أنه شريك قاتلي، متنكرًا في زي الناشط السياسي؟ وبذلك تتراكم جرائم السلطات الحاكمة في هذه البلدان وتنتقل من القتل المباشر تحت التعذيب، كحالة بنات، إلى جريمة تدمير شعوب المنطقة بأسرها، وجعلها عدوة بعضها البعض.

لكن من ناحية أخرى، ومع ردّ فعل الكثير من السوريين تجاه الجريمة، ينفتح السؤال: ألم يخطئ بنات في اتخاذه مواقف شامتة وساخرة منهم، ومن ثورتهم ضد النظام السوري، في حين كان يحاول أن يشعل هو ثورة ضد السلطة الفلسطينية؟ لقد غرق بنات في تفاصيل صراعه مع السلطة الفلسطينية، ولم يطلق هذا الصراع خارج الحدود ليربطه بما يجري في دول الجوار، وكأن ما قبل 2011 كما بعدها، وكأن صراع الفلسطينيين مع “السلطة” يختلف جوهريًا عن صراع اللبنانيين مع نظامهم، والعراقيين، والسوريين.

لقد فات بنات، وهو الناشط السياسي، أن العالم العربي سبقه من حيث الخطاب قبل أكثر من عشرة أعوام، عندما خرجت تظاهرات في سورية واليمن تحت عنوان واحد في أحد أيام الجمعة مع بداية الربيع العربي “اللهم أنصر شامنا ويمَننا”، وأن الثائر في بيروت نزل إلى الشارع من أجل ثوار المنامة، وأن أول احتكاك مباشر مع الأمن السوري حدث عندما نزل بعض المتظاهرين قبل بدء الثورة السورية ليتضامنوا مع الليبيين أمام السفارة الليبية في دمشق. وبالتالي، فإن بنات للأسف لا يمكن أن يكون حرًا هنا، ونصيرًا للطغيان هناك، لقد انتهى هذا الخطاب في العام 2010 أي قبل 11 عامًا.

أمام هذا المشهد الهزيل أخلاقيًا، حيث يشمت ثوار في مقتل شخص تحت التعذيب، والهزيل سياسيًا حيث باتت السلطة الفلسطينية “اليافعة” كسلطة، تسلك سلوك أنظمة ديكتاتورية موغلة في القدم من دون حسيب أو رقيب، لا بد من التساؤل: لماذا لم تترسخ أفكار الربيع العربي وتتحول إلى مبادئ واضحة؟ وإلى أي درجة أُنهك المواطن المسحوق في هذه الدول حتى انتقل من ثائر حالم بالحرية والعدالة وحكم القانون، إلى بائس يجر خلفه صراخه فقط؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2184620

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184620 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40