الأحد 6 حزيران (يونيو) 2021

المعركة بدأت للتو

عوض عبدالفتاح
الأحد 6 حزيران (يونيو) 2021

قبل دخول فصائل المقاومة في قطاع غزة على خط المواجهة الأخيرة، في وقت كانت المواجهة الشعبية التي انطلقت من القدس ومن ثم إلى فلسطينيي الأرض المحتلة عام 1948، وبدت كبداية لانتفاضة شعبية شبيهة بانتفاضة 1987؛ سادت مخاوف حقيقية لدى الكثيرين من المناضلين والشخصيات الأكاديمية والمثقفة الملتزمة بهموم شعبها، من نتائج غير محسوبة تترتب على إقدام حركة حماس على هذه الخطوة.

وكان الخوف نابعًا من الاعتبارات التالية:

الأول؛ أن قطاع غزة المنكوب الخاضع لحصار إجرامي وسط سكوت وتواطؤ أنظمة عربية، فضلاً عما يسمى المجتمع الدولي، لم يعد سكانه يحتملون نكبات إنسانية مهولة إضافية في حالة عدوان عسكري إسرائيلي. وأنه آن الأوان ليتحمل باقي التجمعات الفلسطينية، كالضفة الغربية وفلسطينيي 48، عبء وواجب الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وعن سكان القطاع ورفع الحصار الوحشي عنهم.

الثاني؛ الخوف من وقف أو تقويض الهبة الشعبية التي اندلعت من القدس بمشاركة فلسطينيي 48، وحققت نجاحات هامة في قضية حي الشيخ جراح وباب العامود، واضطرت حكومة نتنياهو إلى تغيير مسار “مسيرة الأعلام” الصهيونية في يوم ما يسمى “توحيد” مدينة القدس إسرائيليًا، وذلك خوفا من توسع الهبة الشعبية، ومن تهديدات حركة حماس بالدخول إلى المواجهة للدفاع عن المسجد الأقصى. وكانت الرغبة عند المتخوفين والمتحفظين أن تُمنح الهبة الشعبية التي بدت واعدة وقتًا كافيًا لتتسع وتترسخ، وتتشكل منها قيادات محلية ومناطقية وقطاعية وغيرها، التي تحميها من الانحسار. وهذه الرغبة في الدفع بالحراك الشعبي إلى الأمام تنسجم مع توسع القناعات في السنوات الاخيرة عند فصائل المقاومة بأهمية المقاومة الشعبية، وجرى التعبير عن ذلك في اتفاقيات المصالحة العديدة، التي للأسف لم تخرج إلى النور.

الثالث؛ أن الجولات الثلاث السابقة من العدوان والمواجهة (2008، 2012، 2014) ورغم الصمود الأسطوري والملحمي للمقاومة وأهل قطاع غزة، لم تغير من واقع الحصار ولا الأحوال الإنسانية في القطاع. فقد افتقد هذا الصمود إلى أي دعم من قوى عربية أو دولية. والأنكى من ذلك والأشد مرارةً، أن سلطة أوسلو ظلت متفرجة في جميع جولات العدوان، وحالت سياساتها التدميرية والقمعية دون مشاركة الضفة الغربية في حراكات شعبية عارمة. أي أن هذا الجزء من شعبنا المحبوس في غيتو يُدك بأحدث صواريخ القتل والتدمير من قبل عدو متوحش منفلت، ومحمي من أنظمة الدول الكبرى، دون أن تتحرك بقية أعضاء الجسم الفلسطيني.

من الصعب التكهّن كيف كانت ستسير الأمور بخصوص مسار المقاومة الشعبية، لو لم تنضم حركات المقاومة في قطاع غزة إلى معركة الناس في القدس والداخل. هل كانت ستستمر بزخم أكبر وتتحول إلى انتفاضة شعبية شاملة كما كان يتوق ويتوقع الكثيرون، أم كانت ستتوقف بشكلها الحراكي كما هو الحال هذه الأيام بعد التوصل إلى وقف إطلاق النار؛ وهل كانت ستحقق النتائج نفسها.

ولكن هل يجوز تقييم الوضع وهذه المعركة، إيجابًا أو سلبًا، بناء على توقف الحراك الشعبي وعودة إسرائيل إلى ممارسة سياساتها القمعية الانتقامية في القدس وضد فلسطينيي 48؟ أم أنه يجب أن ننظر إلى المعركة بناء على نتائجها، وخصوصًا المتصل بالبعد الإستراتيجي والأخلاقي، وما تحقق من إنجازات سياسية غير متوقعة؟

كما كان متوقعًا، لقد خسرنا أرواحًا غالية، وأبادت إسرائيل بوحشيتها المعهودة عائلات كاملة، ولكن ما لم يكن متوقعًا أن يُحدث ويثمر التكامل في المعركة التي دارت على أرض فلسطين التاريخية، هذا الإنجاز السياسي والإستراتيجي والمتمثل في عدة نتائج أهمها:

النتيجة الأولى؛ عودة الوعي الشامل بفلسطين الواحدة، وبالشعب الواحد. أي أن ما فشلت به اتفاقيات المصالحة الفصائلية والانتخابات الفلسطينية المجهضة، فعله الشعب على الأرض في مواجهة مباشرة وجسورة مع نظام الأبرتهايد الكولونيالي؛ وهذا هو الإنجاز الأكبر والأهم، لأن معادلة الاستعمار تمثلت في تجزئة هذا الشعب ووكيّ وعيه، كسياسات منهجية مارسه المستعمر على مدار عقود، واستثمر به موارد هائلة في الداخل والخارج.

النتيجة الثانية؛ تمكن المقاومة في غزة من إسقاط المخطط الإسرائيلي المُعتمَد منذ الانسحاب عام 2005، والقاضي بفصل غزة عن قضية فلسطين والقدس، وهذا ما شكل الصدمة الكبرى للقيادة الإسرائيلية.

النتيجة الثالثة؛ إعادة تشكيل وعي العالم بشأن الصراع الاستعماري في فلسطين. تجلى ذلك على المستوى الشعبي من خلال المظاهرات الحاشدة، والتغطية الإعلامية في وسائل الإعلام التقليدية في الولايات المتحدة والعديد من دول الغرب. أما على المستوى الرسمي، فقد سارعت الحكومات الغربية والعربية للتدخل إنقاذًا لمصالحها. فقد قلبت هذه المعركة ومن خلال جحافل جيش الشباب الإلكتروني الفلسطيني، الصورة العالمية ضد المستعمر الإسرائيلي. والحقيقة أن الحراك المدني العالمي ليس جديدًا، فحركة المقاطعة فاعلة منذ حوالي 15 عامًا، ولكنه تصاعد واتسع بصورة لافتة ومبهرة.

النتيجة الرابعة؛ زعزعة ثقة المجتمع الاستيطاني الصهيوني بقدرة كيانهم وجيشه على توفير الأمن الشخصي والجماعي. وهذا يترافق مع ظهور تقارير إسرائيلية حقوقية، وأخرى دولية، تُفكك الاساطير الصهيونية وتعيد تعريف إسرائيل كنظام فصل عنصري (أبرتهايد)، ما يساهم في صيرورة تقويض شرعية هذا المشروع العدواني.

النتيجة الخامسة؛ تعرية السلطة في الضفة الغربية، فقد ظهرت مكشوفة ومتجردة من أي مقوم أو مبرر لبقائها السياسي والوطني، فهي التي كانت تتحدث عن عبثية المقاومة المسلحة وتنادي بالمقاومة الشعبية، أثبتت أنه عندما اندلعت النضالات الشعبية اضطرت اضطرارًا وتحت ضغط المخلصين في حركة فتح، إلى التغاضي عن المقاومة الشعبية ولكن دون أن تتبناها. أما وبعد أن جرى وقف إطلاق النار، فقد عادت لتمارس دور الاستعمار، أي اعتقال النشطاء في المقاومة الشعبية، مستعينة بشرعية خارجية وبأجهزتها المشكلة والمدربة من الولايات المتحدة.

النتيجة السادسة؛ لجم نزعة التطبيع ومحاصرة أنظمة التحالف الأمني مع إسرائيل والمشروع الصهيوني، وإعادة قضية فلسطين بقوة إلى الوجدان الشعبي العربي.

إلى أين الآن؟

انتهت المعركة العسكرية وتوقفت جرائم القتل والتدمير الإسرائيلية، ولكنّ المعركة السياسية التي بدأت مباشرة لا تقل تعقيدًا وخطورةً؛ فالأطراف الدولية والعربية المتدخلة لها أجنداتها الخاصة، ولا تتوقف نتائج هذه المعركة السياسية بناء على رغبات المقاومة، بل أيضًا على الشروط الموضوعية القائمة. وهنا تأتي نباهة ومسؤولية قيادة المقاومة في كيفية تحقيق انجازات عينية، مادية ملحة وسياسية مهمة في الظروف الصعبة، على طريق النضال الطويل من أجل تحقيق الحقوق الفلسطينية المشروعة؛ العودة والتحرير والعدالة والسلام. كما من المفترض أن توضع مهمة تحقيق الوحدة الوطنية، القائمة على مبدأ التحرر والحرية، على رأس سلم الأولويات. ليس الشعب الفلسطيني حركة حماس، بل أن هذا الشعب من النهر إلى البحر وفي أماكن اللجوء والشتات، هو أكبر من أي فصيل مهما علا شأنه ومساهمته في معركة العدالة الفلسطينية. إن ما قدمه المقاومون من دماء وأرواح وتضحيات لا حدود لها، هي جزء من مسيرة تحررية إنسانية عادلة، أطلقها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من قرن.

“لقد فتحت هذه المعركة أفقًا واسعًا... وسجل الشعب الفلسطيني نقطة أولى في مسار تغيير ميزان القوة، بيننا وبين المستعمِر، وتتمثل في استعادة الوعي بكوننا شعب واحد. وعيٌ تجاوز الجدران والحواجز وتقسيمات المستعمر”

إن النضالات الشعبية البطولية التي اجترحها أنباء وبنات الشعب الفلسطيني بصدورهم العارية في مدينة القدس وفي أحيائها وداخل المسجد الأقصى، وفي اللد ويافا وحيفا وعكا وغيرها، والتي امتدت إلى الضفة الغربية، تشكل نموذجًا مؤثرًا في سيرورة التحرر والبناء، والشكل الأجمل للفعل الثوري. وهذه النضالات الشعبية المكثفة هي التي حفزت في انخراط الجزء المحاصر في قطاع غزة في المعركة، والتي ساهمت في تحويل صورة الصراع في قطاع غزة، من الادعاء بأنه صراع إسرائيلي مع حركة “إرهابية” تهدد إسرائيل إلى الصورة الحقيقية، أي أن فصائل المقاومة في غزة هي جزء عضوي من حركة الشعب الفلسطيني كله ضد نظام أبرتهايد كولونيالي. كل ذلك يلقي على عاتق قيادات حركة المقاومة الفلسطينية مسؤوليات تخص مهمة إعادة صياغة المشروع الفلسطيني التحرري بمفاهيم ديمقراطية وإنسانية، تشمل الكل الفلسطيني، ويكون مرتبطًا بالمشروع التحرري العربي. إن شعب فلسطين يستطيع أن يمثل النموذج التحرري الشامل للأمة العربية، الذي يجب أن يظهر حساسية عالية تجاه معاناة المواطن وعذاباته العربي تحت أنظمة القهر والفتك ووطأة التحالف مع المستعمر. يجوز لحركات المقاومة أن تناور وتستفيد مما تُتيحه الأنظمة العربية والدولية، ولكن لا يجوز التخلي عن أخلاقيات التحرر الأساسية.

لقد فتحت هذه المعركة أفقًا واسعًا للتمرد والنضال والبناء، وسجل الشعب الفلسطيني نقطة أولى في مسار تغيير ميزان القوة، بيننا وبين المستعمِر، وتتمثل في استعادة الوعي بكوننا شعب واحد. وعيٌ تجاوز الجدران والحواجز وتقسيمات المستعمر. أما نقاط القوة الأخرى المطلوب تحقيقها، فهي تفعيل المجتمع كله في هذا المسار. والمقاومة ليست شكلاً واحداً فحسب، بل هي صيرورة من العمل الشعبي والبناء والتنظيم، والإنتاج الفكري والثقافي والفني، وتوطيد النسيج الاجتماعي والتضامن الداخلي. ومن المهم التأكيد على أن النضال الشعبي ليس موجهًا للخارج، بل إلى الداخل، إلى داخل مجتمعنا وشعبنا، لأنه يتيح لكل فرد في المجتمع المساهمة في عملية التحرر من خلال الوسائل المدنية، وهو يصب في عملية إعادة تنظيم المجتمع وتحصينه.

ويقف الآن أمام القوى الشعبية وشرائح المثقفين الثوريين، الكبار والشباب خصوصًا الذين ينشطون خارج البنى القيادية الرسمية والفصائلية والحزبية في كل فلسطين وفي الشتات، تحديات كبرى أهمها الإجابة عن ومواجهة السؤال: كيف وإلى أين نذهب من هنا؟

إنها مرحلة استثمار ما تحقق في عملية تـأطير تنظيمي وشعبي دائم، يرافق ذلك العمل على تجسيد هذا الوعي الجديد برؤية سياسية تحررية وطنية وديمقراطية، تنشد العدالة والمساواة في فلسطين التاريخية.

آن أوان العمل، وحانت ساعة الفعل الثوري التراكمي، المثابر، وطويل النفس.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2184654

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184654 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40