الأحد 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

لخضر بورقعة رحمه الله: مناضل حتى الممات

عبد الرزاق مقري*
الأحد 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

المجاهد لخضر بورقعة من قادة الجهاد الذين استحقوا التقدير كاملا لجهادهم ضد الاستعمار الفرنسي، وفرضوا علينا احترامهم لثباتهم ونضالهم وتضحياتهم بعد الاستقلال في مواجهة لا شرعية النظام السياسي الذي أسس له جيش الحدود بسطوته على السلطة بالقوة وفرض نظام الحزب الواحد والاستمرار في التسلط والهيمنة إلى غاية الحراك الشعبي. لقد اعتقد سي لخضر أن الحراك هو القدر المبرور الذي لحقه في آخر عمره ليرى الشرعية تتجسد في نظام الحكم قبل مماته، فإذا به يجد نفسه في السجن ظلما ليبدأ مشوارا جديدا من النضال لم يقو عليه جسدُه المنهك بجراح الكفاح المسلح وأثقال مقاومته السياسية الطويلة وشدائد الأمراض والأسقام.

لطالما نظر رفقاء الكفاح وجيل الاستقلال إلى بورقعة كبطل من أبطال الثورة التحريرية، وهكذا هي صورته دوما في مخيال من عرفه، كرجل التحق بالثورة في بداياتها سنة 1956 فارا من الخدمة العسكرية الإجبارية، ليصبح أحد الجنود الأشاوس، حيث أظهر قدراته القتالية في قيادته لكتيبة الزبيرية المشهورة بعملياتها الناجحة ضد الاستعمار في نواحي المدية، ثم تدرج في الرتب والمهام إلى أن أصبح قائد ناحية في الولاية الرابعة، ثم نقيبا فرائدا في جيش التحرير يقدّره الجميع بسبب شجاعته وكفاءته العسكرية وأخلاقه وتعففه، وممن تأثرَ بهم في الجهاد رحمه الله رمز الولاية الرابعة الأشهر الشهيد أحمد بوقرة “سي امحمد” الذي يعتبره فقيدنا مُعلّمه وقدوته. ولمكانته وشهرته عند رفقائه في السلاح لم يتخل عنه هؤلاء حين ظُلم في تاريخه من التلفزيون الرسمي الجزائري واعتقاله أيام الحراك الشعبي فكتبوا عريضة أمضاها عنهم آخر قائد للولاية الرابعة يوسف الخطيب “سي حسان” يُعلون من شأنه ويشهدون عن جهاده المبكر والثابت شهادة الحق.

لقد سمعت بسي لخضر قبل أن ألقاه في بداية التسعينيات من خلال مذكراته التي صدرت تحت عنوان “شاهد على اغتيال الثورة” التي عرف الكثيرون من خلالها مكانته وحضوره الفاعل وسعة اطلاعه على أحداث الثورة، سواء ما تعلق بجرائم الاستعمار ومكره وكيف واجهه قادة الجهاد وهزموه، أو ما يتعلق بالتناقضات والصراعات بين القادة التي يعتبرها في مؤلفه السبب الذي مكّن ديغول من اختراق الثورة، خاصة في ما فصّل فيه بشأن الصراع بين زعماء الخارج والداخل وبعد فشل لقاء العقداء واستشهاد القادة الكبار.

لقد كان كان بورقعة عليه رحمة الله من أكثر من شرح بوضوح للأجيال مخطط الاختراقات التي توصل بها “ضباط فرنسا” وعناصرها إلى مراكز التأثير، ثم التحكم بعد الاستقلال في المسارات الإدارية واللغوية والاقتصادية. ومما جعل له مكانة خاصة عند الأجيال، خصوصا عند القوى التي عارضت الحزب الواحد، عدم قبوله للأمر الواقع وصدعه بالرفض الدائم للانقلاب الذي قام به جيش الحدود بزعامة بومدين وتحالفه مع بن بلة، واستماتته في المواجهة والعمل مع كل من يعارض النظام فكان مع كريم بلقاسم في محاولة تأسيس حزبه، ثم كان مع جبهة القوى الاشتراكية بقيادة آيت أحمد، ثم تورط، دون قناعة كبيرة كما يقول، مع الطاهر الزبيري في مواجهته المسلحة ضد بومدين، ودفع في سبيل ذلك الإصرار الثمن غاليا، حيث ألقي عليه القبض وعذب وسجن قرابة سبع سنوات. وبعد خروجه من السجن بقي معارضا للنظام السياسي الذي بقي يعتبره غير شرعي إلى أن توفاه الله.

لقد كانت فرصة التعرف على سي لخضر عن قرب بمناسبةٍ مُؤثّرة في حياتنا السياسية كمناضلين ومسؤولين في حركة مجتمع السلم حين مُنع الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله من الترشح في الانتخابات الرئاسية سنة 1999 بسبب عدم حصوله على وثيقة إثبات مشاركته في الثورة التحريرية. لقد كانت هذه المؤامرة مُحكمةً ضد الشيخ محفوظ منذ صياغة دستور 1996 بعد ظهور قوته الشعبية في انتخابات الرئاسة سنة 1995. أعد الشيخ محفوظ رحمه الله ملفا كاملا لنيل الوثيقة بشهادة كبار قادة الجهاد في منطقة البليدة في الولاية الرابعة فأُوعِز للجنة الوزارية ألا تجتمع لقوة ونوعية وكثافة الشهادات التي قدمت لصالح الشيخ محفوظ. كان المرحوم سي لخضر ممن زكوا الشهادات التي قدمت وصدع هو وسي يوسف الخطيب بالحق رفضا لذلك التصرف السياسي الظالم والمَهين ضد الشيخ محفوظ. منذ ذلك الوقت أصبح سي لخضر بورقعة صديقا مقربا ومن الجلساء المفضلين لفهم تفاصيل تاريخ الثورة، ومن الضيوف الدائمين عندنا في الحركة في مختلف المناسبات.

وفي ظل ذلك التقارب اكتشفنا في المجاهد بورقعة خصلة أخرى عظيمة وهي ارتباطه اللامحدود بالقضية الفلسطينية، فوفر للناشطين حضنا جامعا يلتقون عنده لمناصرة هذه القضية المقدسة ومختلف قضايا الأمة على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم، فكان هو الرئيس الدائم للعديد من اللجان الشعبية لفك الحصار عن غزة ومناضهة التمدد الصهيوني.

ومن دلائل قدراته الاستيعابية قدرته على التملص من محاولات استيعابه من أطراف متناقضة واستعماله في الصراعات بينهم، فرأيت مثلا كيف حاول التيار القومي العروبي اليساري استعماله ضدنا، خصوصا في فترة الربيع العربي وبعده، وكيف حاول استعماله ضدنا تيار علماني مناهض لعروبة الجزائر وانتمائها الحضاري، خصوصا في أواخر الحراك الشعبي. وفي كل تلك الظروف العصيبة حافظ سيدنا لخضر بورقعة على علاقته الطيبة معنا ولم ينس أبدا الود بيننا، يفرح لفرحنا ويحزن لحالنا. حين يظن الخطأ في موقفنا يتصل بنا للنصيحة، وحين يعتقد الصواب يأتي مسرعا إلينا يشجعنا، ولا أنسى ذلك اليوم الذي زارني في مكتبي يشكرني بعبارات التقدير الكبيرة حين انسحبت من الترشح للانتخابات الرئاسية بعد ما تأكد ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة قبل اندلاع الحراك، وفهمت جيدا من خلال حديثه في تلك الجلسة خارطته الذهنية وموقفه الحقيقي من كل مكونات الساحة. وكم كانت غبطتي كبيرة كذلك لحزنه واهتمامه بي أثناء إصابتي بداء كورونا ولوم قيادات الحركة الذين التقى بهم أثناء مرضي عن عدم الاحتياط لحفظي من الداء، معتبرا بأن فيروس كورونا قد يكون سلاحا في يد بعض المجرمين لتصفية الحسابات وفق ما قال، وسؤاله المتكرر عني إلى أن شفيت بفضل الله وبفضل دعائه ودعاء أمثاله.

شاء الله أن يبقى سي لخضر مقاوما سياسيا لا تلين له قناة ولا ينكسر رمحه، فحرّك فيه الحراك الشعبي آمال التغيير التي حلم بها واشتغل لها طيلة ثمان وخمسين سنة منذ الاستقلال بلا هوادة، فخاب ظنه مرة أخرى حين رأى سيناريوهات الانقلاب على إرادة الشعب المعبر عنها بالملايين في الشوارع توشك أن تتكرر. وحين ذكّر بقصص الانقلابات على الشرعية اتُّهم في أعز ما يملك وما من أجله سخّر عمره، وهو نضاله وتاريخه، ثم أدخِل السجن فكانت مفاجأة كبيرة لجيلنا من مختلف التيارات لم نكن نتوقعها، إذ كيف يسجن مجاهد نزيه ويوضع في الزنزانة مع من فضحهم الحراك بعد أن قضى حياته يناضل ضدهم وضد أمثالهم. لم نتأخر في التنديد بهذا الموقف وصدعنا بلا مواربة من اللحظة الأولى ننتصر لهذا المجاهد ولنضاله ونزاهته ولرد الجميل لهذا الشجاع الذي وقف مع الشيخ محفوظ حين ظلم سنة 1999. وحين خرج من السجن فرحنا بذلك فرحا كبيرا واتجهنا لبيته نزوره فوجدناه شاحبا شارد الذهن قليل الكلام فأدركنا يومها بأن القومَ آذوه في معنوياته في عمق وجدانه.

كان آخر لقاء مع سي لخضر رحمه الله رفقة الشيخ أحمد الإبراهيمي في بيته بدعوة منه ليستشيرني في مشروع عرضته عليه السلطات، طلبت منه التوسط بشأنه مع مكونات المعارضة حسب ما علمت منه. حكى لي في تلك الزيارة عن تغيير أسلوب التعامل معه من قبل السلطات المدنية والعسكرية وعن مختلف الزيارات واللقاءات التي تمت بينهم وبينه بمبادرة منهم، وكيف كان ثابتا في موقفه يتحوط من كل صلة به، ويتحرج من كل إحسان ولو رمزي يُمد له، لا يَفهم كيف يتم اللجوء إليه وهو لا يزال متابعا في العدالة رغم إطلاق سراحه. كان معه في بيته رجلان من وجوه الحراك المحترمين تبادلنا معا أطراف الحديث عن وضع البلد، وتم إخباري بالوثيقة ذات 15 بندا التي سُلمت له من السلطات حسب ما أخبرت به منه شخصيا، والتي تم إخبار الرأي العام بها من قبل الأستاذ السعيد أحد مرافقي المرحوم. طلب مني رحمه الله أثناء الاجتماع أن أسعى لجمع المعارضة بمختلف أطيافها كما فعلنا في التنسيقية الوطنية للحريات والانتقال الديمقراطي فشرحت له الوضع، ووصفت له الساحة، من وجهة نظرنا، وعن محاولاتنا التي لم تنجح مباشرة بعد الجمعة الثانية من الحراك وفي مبادرة عين البنيان، وعن التحديات الكبرى والمخاطر العظمى التي تحيط ببلدنا وبنا جميعا إن لم يخرج الجميع من حالة التطرف الأيديولوجي والأنانية السياسية، وما لم نكن منتبهين إلى خداع المتسلّطين، ومكر الانتهازيين والوصوليين.

* كاتب جزائري



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 53 / 2184623

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

2184623 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40