الاثنين 18 أيار (مايو) 2020

طبقة أوسلو وصفقة القرن

الفلسطينيّون والخوف من التغيير
الاثنين 18 أيار (مايو) 2020

- طبقة أوسلو وصفقة القرن

تسيطر طبقة المال الفلسطينية «الجديدة» على كل المؤسسات «الوطنية» والقرار السياسي وترهنها في إطار علاقتها ومصالحها المباشرة مع الشركات الكبرى ومع نظام ومشيخات البترودولار. نحن نعرف اليوم أكثر عن كيف نمت مصالح هذه الطبقة في الوطن المحتل وكيف تشابكت مصالحها مع اقتصاد العدو الصهيوني بل ومستعمراته في الضفة المحتلة، تبعية شبه مطلقة وشاملة للكيان الصهيوني.

فيما ظل دورها السياسي يتنقل بين التذمر من الاحتلال وإجراءاته القاسية تارة، والتذمر من المقاومة أو ما أسمته بـ«عسكرة الانتفاضة» أو «العنف المتبادل» تارة أخرى، أما ممارستها، على الأرض من خلال سلطتها في المناطق فكانت عسفاً ضد قوى المقاومة وحالة من التعاون والرضوخ والشراكة مع العدو... فلا دولة فلسطينية قابلة للحياة، وقد أسست لكيان أوسلو وجلست فيه.. وقضي الأمر!
مبكراً جرى تعريف هذه الطبقة الفلسطينية التابعة، في زمن الشهيد غسان كنفاني، على أساس أنها «برجوزاية تجارية مصرفية تتشابك مصالحها وتترابط مع مصالح الإمبريالية التجارية وأن أساس ثروة هذه الطبقة ومصدر غناها هو السمسمرة للبضائع الأجنبية ووكالات التأمين والمصارف، وبالتالي فهي في المدى الاستراتيجي ضد الثورة. قيادات البرجوازية التقليدية تستقبل ساسون ودايان والحكام الإسرائيليين وتبحث معهم في موضوع الكيان الفلسطيني الذي تخطط له إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية وتحقيق النصر السياسي بعدما حققت نصرها العسكري (الاستراتيجية السياسية 1969 – الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ص. 73).
أدركت «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» خطورة الدور الذي تقوم به البرجوازية الفلسطينية الكبيرة وحذرت منه دائماً، بل وتوقعت وصول الثورة بقيادة البرجوازية إلى أزمة وكارثة محققة. فلا شخصية أبو الخيزران (المخصي) في رواية «رجال في الشمس» جاءت من فراغ ولا الموقف السياسي الذي عبرت عنه «الجبهة الشعبية» حين لاحظت أن العمل الفدائي (الكفاح المسلح) هو الطريق الوحيد لردع طبقة المال الفلسطينية ومنعها من الإقدام على تسوية لتأسيس كيانها الفلسطيني.
طبقة أوسلو اليوم أسست لكيان أوسلو. وهي ذات الطبقة التي جرى ذكرها أعلاه قبل 40 سنة وامتدادها إلى درجة أن «العائلات» ذاتها والأسماء ذاتها والحركة السياسية التي سيطرت على القرار الوطني الفلسطيني هي ذاتها أيضاً. مع فارق أنها صارت أسوأ ألف مرة...
تعريف البرجوازية الفلسطينية الكبيرة والتوصيف لعلاقاتها ودورها الكارثي في قيادة المجتمع والثورة، هذا الفهم الثوري تراجع للأسف الشديد بعد عام 1974، وتحديداً بعد تسلل شعار «الدولة الفلسطينية» إلى الخطاب السياسي الفلسطيني واحتلاله وتكبيله.
وبعد انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 قيل إن الدولة الفلسطينية المستقلة هي مصلحة للبرجوازية والرأسمال الوطني، كما هي مصلحة للطبقات الشعبية الفلسطينية، ولتكن إذاً القاسم المشترك! وقيل أيضاً إن الانتفاضة كما ورد مراراً وتكراراً على لسان الرفيق جورج حبش «نقلت الدولة الفلسطينية من حيز الإمكانية التاريخية الى حيز الإمكانية الواقعية»! هذا بالضبط ما أردات أن تسمعه رموز البرجوازية الفلسطينية الكبيرة في المنظمة مغفلة عن قصد حقيقة أن الدولة الفلسطينية كما فهمها جورح حبش «مهمة كفاحية طويلة لن تاتي عبر التفاوض مع العدو»!
لقد وظفت البرجوازية الفلسطينية الكبيرة بدعم النظام العربي الرسمي و«المجتمع الدولي» شعارات مثل «الحرية والاستقلال» و«الدولة المستقلة»، لأنها كانت فعلاً تبحث عن وطن لمالها وعن بنوك فلسطينية للحفاظ على مصالحها وهيمنتها وعلى القرار السياسي، واستطاعت من خلال جيش الموظفين والمثقفين ومن خلال حزبها السياسي «حركة فتح» تضليل الطبقات الشعبية في عملية تزييف واستلاب للوعي واستغلال رخيص لعواطف الجماهير الشعبية التي قيل لها أنْ توقف انتفاضتها لأن الدولة أصبحت على مرمى حجر!
وبالقدر الذي كانت تفرض البرجوازية الكبيرة سطوتها وتحكم قبضتها على المؤسسة الفلسطينية المالية والعسكرية والثقافية والإعلامية وعلى مركز القرار في المنظمة والسلطة، بالقدر الذي كانت تفقد فيه الطبقات الشعبية الفلسطينية سلطتها وموقعها ومشروعها التاريخي، ثم وجدت نفسها بين فكي كماشة، بين مطرقة الاحتلال وسندان وأسنان «القطاع الفلسطيني الخاص». إن ما يحدث من تعاون اقتصادي يجد تمثلاته في أرض السياسة أيضاً وعلى شكل تنسيق أمني وسجون وعمالة بلا حدود!
وجدت البرجوازية «الوطنية» الفلسطينية خلاصها إذاً في خشبة الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1987 فنظرت لها نظرة ضيقة واستخدامية نفعية وباعتبارها القاطرة التي ستأخذها إلى الدولة الفلسطينية الموعودة، لقد تضاعف إنتاجها وتراكم رأسمالها المالي في الأرض المحتلة مع سنوات الانتفاضة بسبب المقاطعة الشعبية الواسعة للمنتوجات الصهيونية والإقبال على المنتج الوطني والمحلي فضلاً عن ما كانت تحصل عليه من «الدعم العربي» و«أموال الصمود» فسال لعابها أكثر، ثم صار نصفها الآخر، شرقي النهر وفي الخارج، يبحث هو الآخر عن حصته من كعكة السلطة في التسوية التاريخية المقبلة...
ويمكن القول إن نتائج حرب الخليج الأولى وانهيار الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي وغيرها من أسباب، إضافة إلى حزمة من الحجج والذرائع الواهية والأوهام التي لا حصر لها، وفّرت أرضية مناسبة لهذا الفضاء السلبي العام الذي فيه أقدمت قيادة «منظمة التحرير الفلسطينية» ومعها الطبقة التابعة من كبار التجار والسماسرة والوكلاء نحو المنزلق الخطير والكارثي الذي تمثل في توقيع اتفاق أوسلو، أو وثيقة إعلان المبادئ، في 13 أيلول/ سبتمبر 1993.
و«عادت» الرساميل الفلسطينية إلى «الوطن» مع ياسر عرفات بعد توقيع اتفاقية أوسلو. وأسست البنوك والمصارف والشركات المتعددة وخصوصاً في مجال الإنشاءات والعقارات والتجارة من موقع التابع والملحق الصغير وبالتعاون الوثيق مع اقتصاد العدو في إطار علاقات التشابك المصرفي المالي مع بنوكه ومع النظام العربي الرسمي، وبخاصة الخليجي وما يسمى بـ«الدول المانحة». واعتبرت الرأسمالية الفلسطينية «الجديدة» أن السلطة الجديدة هي ملكية خاصة لها وممثلها الشرعي الوحيد. فانزلقت أكثر وأقدمت على توقيع اتفاقيات باريس الاقتصادية وغيرها فألحقت بالغ الضرر في بنية الاقتصاد الوطني الإنتاجي وشوهته أكثر ودفعت كتل شعبية فلسطينية متزايدة إلى القاع وإلى حياة الإفقار والارتهان والمديونية.
وإذا نجحت البرجوازية الفلسطينية في جني مليارات الدولارات لصالح حساباتها في البنوك إلا أنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق «الاستقلال» و«التنمية» و«الديموقراطية» وسقطت كل مقولاتها الواهية. هذه الطبقة لا يمكن أن تغير طبيعيتها الطفيلية الارتزاقية النفعية ولا نزوعها الدائم للتسوية وانشدادها إلى منطق الصفقة التجارية في كل شيء. ولذلك أدمنت طريق وأفيون المفاوضات أو المفاوضات.
أسست «طبقة أوسلو» لكيان هجين لا شكل له ولا روح، فانتشر الفساد السياسي والمالي والأخلاقي والإداري في كل أجهزة السلطة. وفي الوقت ذاته، تركت الطبقات الشعبية تواجه مصيرها وتعتمد على «الوظيفة» وسوق العمل العبري وما تقدمه لها مصانع العدو من فرص عمل، هذه المصانع بدأت تنتقل عن قصد للضفة وفي محيط المستعمرات، وبعد عقدين من الزمن وصلت معدلات البطالة إلى نحو 45 % في الضفة و55 % في قطاع غزة المحاصر، والتهمت جرافات العدو آلاف البيوت الفلسطينية وصادرت نصف الضفة تقريباً.
هذا الواقع الجديد الذي أسس له اتفاق أوسلو، فتح الباب واسعاً أمام انتشار ظاهرة «المنظمات غير الحكومية» والتي أصبحت الضلع الثالث في بنية وهيكل الاقتصاد الفلسطيني المحلي، هذه الظاهرة المدمرة تسللت إلى الجسد الفلسطيني كالسرطان في مرحلة فقدت فيها الحركة الوطنية الفلسطينية عناصر قوتها، فأزاحتها وجلست مكانها، وهضمت آلاف الكادرات الوطنية في مؤسساتها الجديدة، وسلبت كل عناصر المناعة الوطنية والثقافية والفكرية وهمشت أطر العمل الأهلي والنقابي والنسوي ودجنت آلاف المناضلين والمناضلات في تشكيلاتها «المدنية» وحولتهم إلى جيش من الموظفين المستهلكين وآلة إعلامية مجانية لتبرير أوسلو والتكيف مع الواقع وشروطه.
أمام هذه الصورة وما أفرزته مرحلة أوسلو من نتائج وتداعيات وجدت الطبقات الشعبية الفلسطينية نفسها على قارعة الطريق، في الوطن والشتات وأصبحت خارج المشهد الوطني تقف في العراء. لقد خسرت ما اعتبرته أداتها الوطنية الجامعة «منظمة التحرير» لصالح السلطة وطبقة أوسلو ثم خسرت كل الاتحادات والمؤسسات الشعبية والنقابية التي اندثرت لصالح المنظمات الجديدة «أن جي أوز» وخسرت مشروعها السياسي التحرري، وترى اليوم كيف يجري تصفية كل الحقوق الوطنية التي بذلت في سبيل تحققها ولا تزال تبذل كل التضحيات.
إذا كانت البرجوازية الفلسطينية (الأقلية) وجدت مشروعها الخاص في تأسيس كيان أوسلو الجديد، يصبح السؤال الطبيعي اليوم: ما هو مشروع الطبقات الفلسطينية «الأكثرية الشعبية» داخل وخارج الوطن المحتل؟ وماذا تحتاج هذه الطبقات المفقرة والمهمشمة كي تتلمس طريقها وسلاحها لتصنع البديل الثوري الديموقراطي؟
إننا أمام طبقة فلسطينية من وكلاء الاستعمار وقد خانت الشعب، فإما أن نثور عليها، أو لنستعد لصفقة القرن... وهي قادمة!

- الفلسطينيّون والخوف من التغيير

في زمنٍ مضى، كان شعبنا الفلسطيني في الأرض المحتلّة يُعبّر عن دهشته لحال الشعوب العربية التي لا تنتفض ولا تثور في وجه الأنظمة المُستبدّة الغاشمة، وكان يُحرّض أشقاءه العرب على الثورة والتمرّد، ويُدرّبهم على إيقاع الانتفاضة والرفض والقول الصريح. وكان يقول: «انظروا كيف لا نخاف من الاحتلال... وكيف نقاوم؟».

واكتشف الشعب الفلسطيني ــــــ وخصوصاً في الضفة وقطاع غزّة ــــــ بعد قيام السلطة الفلسطينية، وتأسيس السجون والمصارف والأجهزة الأمنيّة وانتشار ثقافة «السلام» والتطبيع والاستهلاك، أنّه مثل الآخرين تماماً، يُمكن إذا واجه الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ذاتها، أن يتحوّل إلى «شعب عربي آخر»، ويصير «واقعياً» أكثر يطلب الاستقرار، ويقبع داخل صناديق الصمت والخوف والانتظار.
إنه يخاف من عسف السلطة ومن خسارة الوظيفة. يفضّل أن ينتظر الحلول من السماء، ومن جولات المصالحة الماراثونية، التي صارت مصدر المزيد من الإحباط. صار يحسب موعد وأقساط المصرف والسيارة والشقة. يخاف على العيال وقوتهم ومستقبلهم. إنّ السلطة والأجهزة القمعية، ومعها القطاع الخاص الناهب وكتائب المنظمات غير الحكومية، هي أكبر شركات ومواقع للتوظيف واحتواء البطالة المقنّعة في الضفة وقطاع غزّة. ولا يستطيع الناس أن يقولوا «لا»، لأنّ هذه الـ«لا» تحمل الخطر والمجهول، وقد تكلّفهم الكثير من العناء دونما طائل، ولأنّ تهديد الناس برغيف الخبز أشدّ وأقسى من تهديدهم بالرصاص والسجون الصهيونية.
وفي مثل هذه الفترات من حياة الشعوب وحركات التحرّر، يكثُر الحديث عن الخلاص الفرديّ «وما راحت غير ع الشهداء»، وتختفي قيَم المشاركة الشعبية والثقة بالقدرة على التغيير، من ميادين العمل العام والنضال الوطني، إلّا إذا أصابت السياسة قوت الناس. فالحشود الغفيرة في الضفة المحتلّة، لم تخرج من أجل غزة المحاصرة وهي تحترق بالقنابل أكثر من مرّة، كما خرجت للدفاع عن الحق في الضمان الاجتماعي والمطالبة بالحدّ الأدنى للأجور، وغيرها من حقوق وقضايا مطلبية.
وإذا كان هذا الموقف أعلاه يمكن إيجاد المبرّرات كلّها له (في مقدمتها الفقر والخوف)، فما لا يمكن تبريره هو موقف القوى والأحزاب الفلسطينية، التي تنضوي في إطار «المقاومة الفلسطينية»، وصارت هي الأخرى تتساوق وتبيع مواقفها للطبقة السياسية في رام الله، وتذهب إلى اجتماعات في «مضافة أبو مازن» وتحت رعايته المباشرة. وما لا يمكن تبريره، أيضاً، هو خيانة المثقّف الفلسطيني لدوره التنويري والثوري، الأمر الذي صار جزءاً من الكارثة الوطنية، وبدل أن يحمل لواء النقد والتغيير ويساهم في كسر هيبة الاحتلال والسلطة معاً، أصبح موظّفاً بائساً يرفع لواء التبرير بالتسحيج، ويجتهد في البحث عن الحلول الغلط!
إنّ كلّ القوى والأحزاب الفلسطينية، تقريباً، أصبحت اليوم موزّعة بين عاجزة ومتواطئة تُشبه حال الجامعة العربية. إنّها صورة طبق الأصل عنها: قوى مُشرذمة ومفكّكة وضعيفة، تفتقر إلى الحوار والقيَم الديمقراطية في ممارساتها الداخلية، فكيف ستصنع النظام الديمقراطي؟ وهي لا تملك أيّ مشروع للتحرّر الوطني أو استراتيجية وطنية لحماية القضية من خطر التصفية، بل ولا حتى رؤية للوحدة الوطنية، فكيف تصنع وحدة؟ كما أنها تفتقر إلى رؤية خاصة بحماية الأرض من سياسة القضم والضمّ والمصادرة. كل القوى الفلسطينية مجتمعة، لا تستطيع اليوم إيقاف جرّافة صهيونية واحدة من هدم بيت فلسطيني في بيرزيت، وسحق إنسانٍ أعزل في غزّة... فمن يتصدّى للاحتلال باللحم الحيّ، هي طلائع قوى المقاومة الشعبية والمسلّحة من الشباب الثوري، فقط. بمعنى أدقّ: القوى المنذورة للتغيير والتحرير، تخشى وتخاف من التغيير! تخاف من النقد. (الله يرحمك يا ناجي العلي).

إنّ الشريحة القيّادية التي تسيطر على مجمل القوى والحركات السياسية الفلسطينية أصبحت غارقة في الوهم والعمل العبثي

لو كان القرار السياسي في قبضة الشعب الفلسطيني والقواعد المقاتِلة في المقاومة الفلسطينية، لما وصلنا إلى هنا. لو كان القرار في قبضة الحركة الأسيرة الفلسطينية وطليعتها المناضلة، لما وصلنا إلى هنا. لو يصدر القرار عن إرادة شعبية حرّة في مخيّمات الشعب، لما وصلنا إلى هنا.
إنّ الشريحة القيّادية التي تسيطر اليوم على مجمل القوى والحركات السياسية الفلسطينية، أصبحت غارقة في الوهم والعمل اليومي العبثي، تقليدية تقبع في عصور قديمة وتجترّ الكلام عن قواعد العمل السياسي والنقابي، ولا تبني نقابات ولا أحزاباً قوية، مثل حرث الجمال، لا تراكم على الإنجاز، تستسهل القيَم القبائلية والعشائرية في علاقاتها الداخلية والخارجية، تفني قضية الشعب في البحث عن المصالحة العبثية، والبحث عن دورها في مجالس ومضافات المخابرات والأنظمة العربية، وبعضها صار أداة في قبضة المحاور في الإقليم.
يقول الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي، في مقال نشره قبل أيام في صحيفة «هآرتس»: «من يعرف إسرائيل، يعرف أنه لا يوجد أي احتمال لأن تستيقظ ذات صباح وتقول من تلقاء نفسها: الاحتلال غير لطيف، سنقوم بإنهائه. ومن يعرف الفلسطينيين يعرف أنهم لم يكونوا يوماً ضعفاء ومعزولين ومنقسمين، وليس لديهم روح قتاليّة، مثلما هم الآن». جدعون ليفي، الإسرائيلي، يقول الحقيقة هنا. نعم، لا يمكن أن تتغيّر إسرائيل أو تتراجع، إلا إذا أصابتها الهزيمة وجرى سحق كيانها ومشروعها الاستعماري العنصري كلّه في فلسطين والمنطقة. ولا يمكن أن يتغيّر الحال الفلسطيني إلا اذا استنهضت القوى الشعبية والمسلّحة مجمل الحالة الوطنية في الداخل والخارج، وكسرت قواعد الخوف والانتظار وتحرّرت أصوات وحناجر طلائع الحركات الطلابية والشبابية والعمالية والمنظمات النسوية والمثقفين الثوريين والكفاءات والشخصيات الوطنية؛ أي الطاقة الكامنة الكبرى والمحتجزة لدى شعبنا.
لا بدّ من حركة فلسطينية للتغيير والتحرير داخل القوى الوطنية نفسها، حركة تولد من داخل المجتمع الفلسطيني ذاته، وتفرض الإرادة والمطالب الشعبية الفلسطينية بالقوة والتمرّد والعصيان الشعبي، في مجابهة الاحتلال وهذا الهيكل المسمى «الممثل الشرعي الوحيد» الذي يغتصب القرار السياسي والمؤسسات الوطنية لصالح سكان القصور. فالمعركة مع هذه الهياكل، وفي مواجهة التحدّيات والكوابح الداخلية وقوى التجهيل، صارت جزءاً لا يتجزّأ من معركة وطنية فلسطينية شاملة، في مواجهة العدو الصهيوني ووكلائه وحلفائه.

بيان ضدّ المرحلة: الشتات ودوره المصادر
قبل أيام قليلة، أصدرت هيئات وجمعيات فلسطينية في الشتات، بقيادة المنظمات الطلّابية والشبابية الناشطة في عدد من القارّات، بياناً / عريضة، طالبت فيه بالشروع في مرحلة نضالية جديدة تبدأ بتحشيد قوى الشعب الفلسطيني في كلّ مكان، وعزل نهج أوسلو وقيادة «م ت ف»، وسحب الشرعية منها. إنّ الشرعيات الوطنية للدول وحركات التحرّر، تُستمدّ من المصادر «الدستورية» أو «الشعبية» فقط، وهذه سلطة وكيلة للاحتلال وخارجة عن الميثاق الوطني الفلسطيني، وعن كل شرعية شعبية وقانونية. والعالم كلّه بات يعلم أنها «قيادة»، تقادمت وصارت «كادوك»، كما يُقال بالفرنسية.
هذا البيان / العريضة، الذي وقّعت عليه عشرات الهيئات والجمعيات الفلسطينية، ومنها «تحالف حق العودة» في الولايات المتحدة، و«حركة الشباب الفلسطيني» في أميركا الشمالية، و«شبكة صامدون للدفاع عن الأسرى»، وعشرات المنظمات الطلابية في الجامعات الأميركية وفي أوروبا، وقوى شبابية ونقابية في لبنان، ومراكز فلسطينية في أميركا للاتينية، وغيرها وغيرها، لم يرَ النور على أيّ موقع إعلامي فلسطيني يمكن أن تطاوله قبضة السلطة... والسبب؟ إنه الخوف... الخوف من السلطة والخوف من التغيير. الخوف من السلطة وأجهزتها. الخوف من قوانين الجرائم الإلكترونية، والخوف من القمع والعسف وقوى الفساد. الخوف من سؤال البديل الوطني والخوف من المجهول. الخوف من التغيير. الخوف من دفع الثمن. الخوف من الفشل.
ولا غرابة إذن، فحيث لا يوجد حضور للسلطة الفلسطينية وأجهزتها، يكون الإنسان الفلسطيني أكثر حرّية وأكثر قدرة على النقد وتحرير صوته وهويته الوطنية، ربما بسبب الهامش الديمقراطي المتاح لديه من جهة، وعدم ارتباط لقمة عيشه بالوظيفة والمرتّب والمخصّص. ولا غرابة أن تكون أكثر هذه المنظمات الفلسطينية الشعبية والأهلية، خارج نطاق تأثير السلطة وبعيدة عن سطوتها الأمنية والمالية.
وهذا بالضبط ما يجعل، اليوم، للشتات الفلسطيني وللأجيال الفلسطينية الجديدة، دوراً أكبر في عملية التغيير الثوري المقبلة بالضرورة، حين يعلو صوتها وتتمرّد أكثر فتكسر حالة الجمود والركود، التي كرّستها مرحلة مدريد ـــــ أوسلو، الممتدة منذ 30 عاماً حتى يومنا هذا. وسيعود للشتات دوره الطليعي المؤثّر، حين يقوم بدوره الوطني وواجبه في دعم وتعزيز صمود شعبنا في كلّ فلسطين المحتلّة ومحيطها الجغرافي، ويستعيد دوره القتالي ويبني مع نصفه في الوطن وكلّ التجمّعات الفلسطينية، جسور العودة والتحرير... يعود حين يكسر كلّ حواجز وقواعد الخوف والانتظار!

- خالد بركات / * كاتب فلسطيني



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 9 / 2184592

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184592 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40