السبت 9 أيار (مايو) 2020

حرب الأفيون المعكوسة

عبد الحليم قنديل
السبت 9 أيار (مايو) 2020

أن «لن تتكرر حروب الأفيون القديمة»، كان ذلك رد مسؤول صيني على حملة الاستفزازات الأمريكية ضد بكين لتحميلها أوزار نشر جائحة كورونا.
إشارة المسؤول الصيني مفهومة، وفحواها ظاهر، وتنطوي على تحذير مباشر من مجرد التفكير في حرب جديدة ضد الصين، فلم تعد الصين تلك الفريسة السهلة، التي كانت عليها قبل نحو قرنين من الزمان.
كانت الامبراطورية الصينية وقتها، قد آلت إلى ضعف وتخلف عن أدوات الحرب والتنظيم الحديثة، التي كان الغرب الأوروبي وقتها سيدها ومحتكرها، واستخدمها في بسط نفوذه الاستعماري إلى أقصى الشرق، وكانت بريطانيا العظمى رأس الحربة الاستعمارية الغربية، وإن تركت مساحة لأدوار غريمتها فرنسا، التي احتلت مناطق كثيرة، في ما يعرف باسم «الهند الصينية»، لكن تصفية الحساب التجاري والحربي مع المركز الصيني الامبراطوري المتداعي، تولتها بريطانيا، التي استخدمت قناعا اسمه مبدأ حرية التجارة، وضاقت مواردها عن الدفع بالفضة، مقابل شراء الحرير والبورسلين والشاي الصيني، ولجأت شركتها «الشرقية» في الهند المحتلة إلى حيلة خبيثة مدمرة، هي الدفع بالأفيون مقابل البضائع الصينية، ومدت حقول الأفيون في «البنغال» الهندية وقتها، وأغرقت الصينيين بالأفيون، إلى حد صار معه عشرات الملايين من الصينيين تحت إدمان الأفيون، وقفز الرقم في ما بعد إلى ما يزيد على المئة مليون صيني مغيب بمخدر الأفيون، وكانت سلالة «تشينج» الامبراطورية تحاول وقف الزحف، وأخذ تدابير بالتحريم، لمنع تدمير شعبها بالأفيون، وكان ذلك سببا مباشرا لتجريد حملات عسكرية ضد الصين، في ما عرف في أربعينيات القرن التاسع عشر بحروب الأفيون الأولى والثانية، التي انتهت إلى تجريد الصين من استقلالها، وإرغامها على التنازل عن موانئ الساحل الشرقي تباعا، بدءا بالتنازل عن هونغ كونغ لبريطانيا العظمى عام 1842، وإلى التنازل عن تايوان لصالح اليابان عام 1895، وفرض امتيازات تجارية ودينية لصالح فرنسا وبلجيكا والسويد والدانمارك، ثم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية والامبراطورية الروسية لأخذ نصيبهما من الكعكة الصينية، إلى أن انفجرت ثورة صينية شعبية أطاحت بحكم أسرة «مانشو» آخر سلالات الامبراطورية الصينية عام 1911.

ولم يكن العهد الجمهوري الصيني الناشئ مستقرا، ولا هو بأفضل حال كثيرا من العهد الامبراطوري، فلم تتوقف المطامع الأجنبية أبدا، ولم يعش رمز الصين الوطني صن يات صن طويلا، وآل حزبه القومي «الكومنتانج» من بعده إلى سلفه شيانج كاي شيك، وتعددت دورات الاندماج والانفصال والتحارب بين «الكومنتانج» والحزب الشيوعي، وصارت الصين نهبا لغزوات العسكرية اليابانية الشرسة، التي راح ضحيتها عشرات الملايين من الصينيين، إلى جوار عشرات ملايين الضحايا في الغزوات الغربية، وقتل ملايين آخرين في حروب الكومنتانج والحزب الشيوعي، إلى أن كانت نهاية الدراما الدموية في عام 1949، مع زحف ماوتسي تونغ وجيش التحرير إلى بكين، وإعلان جمهورية الصين الشعبية، فيما هرب شيانج كاي شيك إلى «تايبيه» بجزيرة تايوان، وأعلن منها قيام الصين الوطنية، وعلى أمل العودة إلى البر الرئيسي للصين، وطرد الشيوعيين، بدعم ومشاركة حربية نشيطة من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما لم ينجح أبدا، فلم تستطع الولايات المتحدة الفوز في الحرب الكورية أوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وكان الانقسام بين شمال وجنوب في كوريا، التي كانت تاريخيا من تراث الحضارة الصينية.
وبالطبع، لا يتسع المقام لشروح وتفاصيل المذابح الدموية المرعبة، ولا لأحاديث المجاعات الصينية، ولا لتخيل أرقام ضحايا الجوع بعشرات الملايين، فلم تسلم الصين من نكبات الجوع، حتى بعد ثورة ماوتسي تونغ وحروبه الثقافية، وسعيه لتحرير الصين من الخرافة والأمية، ودفع الصين إلى عصر الصناعات الثقيلة، واقتحام العصر النووي والفضائي، لكن الصين الشعبية فرضت نفسها كحقيقة كبرى في العصر الجديد، وأرغمت واشنطن على الاعتراف بها في النهاية، عبر زيارة كيسنجر السرية الشهيرة إلى بكين عام 1971، والتسليم بمبدأ «صين واحدة» تمثلها بكين، ومنحها واحدا من مقاعد «الفيتو» الخمسة في مجلس الأمن الدولي، بديلا عن تايوان، التي ظلت أمريكا تستخدمها مخلب قط ضد الصين، وبارتكازات عسكرية وبحرية، وبمناورات في المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، فقد كانت تايوان ـ مثلا ـ عضوا مراقبا في منظمة الصحة العالمية، بين عامي 2009 و2016، إلى أن طردتها الصين، فبكين لا تعترف بوجود تايوان كدولة مستقلة، بل تعتبرها جزءا من الصين، يتوجب ضمه بأي طريقة، ولو كانت بالخطة الصينية المعروفة باسم دولة واحدة ونظامين، التي استعادت بها هونغ كونغ قبل ثلاثين سنة وتزيد.
والمعنى ببساطة، أن حروب الأفيون لم تضع أوزارها بعد، حتى إن تنوعت صورها، مع ميل دولي متزايد إلى التسليم بحقوق الصين، طوعا أو كرها، فلم تعد الصين الجديدة هي ذاتها قبل قرنين، وحين أعلن ماوتسي تونغ دولة الصين الشعبية، قال بوضوح «لقد انتهى قرن الذل الصيني»، ولم يعش ماو حتى يرى النهوض الأعظم للصين بعد وفاته عام 1976، فقد تحولت الصين إلى حقيقة العصر الكبرى اليوم، وصارت صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، بمعايير تقابل القوة الشرائية بالدولار، وفيما غزاها الآخرون باسم مبدأ حرية التجارة، فإنها تغزو الدنيا كلها ببضائعها الآن، وصارت تستحوذ على 35% من إجمالي التجارة العالمية، وهو ما دفع أمريكا إلى الانكماش، والاختباء وراء حواجز الرسوم الجمركية المضاعفة بجنون على البضائع الصينية، في محاولة لخفض العجز الأمريكي التجاري المهول، فيما تواصل الصين قفزاتها الصناعية والتكنولوجية المذهلة، وتضاعف وسائل الضغط دونما ضجيج، فهي تملك ثلث ديون أمريكا الخارجية، وتمد طرق «الحزام» و»الحرير»، وزادت تجارتها إلى أوروبا بنسبة 40% في شهور الكورونا، عبر طريق القطارات فائقة السرعة الممتدة من شرق الصين إلى أقصى غرب أوروبا، واستثمرت نجاحها المبكر في إنهاء وباء كورونا على أراضيها، ومدت يد المساعدات السخية إلى عشرات الدول حول العالم، وحتى إلى أمريكا نفسها، وهو ما وضع صانع قرار واشنطن في «خانة اليك»، فقد صارت أمريكا هي مركز الوباء الأعظم، ووفيات كورونا فيها، تزيد على ربع إجمالي الضحايا في العالم كله، وكان الرئيس الأمريكي ترامب يمني نفسه بنهاية سريعة للجائحة، التي تهدد بحرمانه من تجديد رئاسته في انتخابات نوفمبر 2020، وكان يتوقع أن يتوقف عداد القتلى الأمريكيين عند 65 ألفا، وهو اليوم يرفع رقم المزايدة إلى المئة ألف، ويحاول مداراة خيبته وخيبة واشنطن الثقيلة، فبعد أن كان يشيد بالصين في بداية الجائحة، تحول إلى اتهام بكين، والحديث الملتاث عن تصنيع فيروس كورونا في معمل «ووهان» الصيني، وعن تقارير مخابراتية وأدلة موهومة، وهو ما سايره فيه وزير خارجيته مايك بومبيو المدير السابق للمخابرات المركزية، إضافة لتقارير هائمة توحي بها مخابرات «العيون الخمس»، التي تضم أجهزة مخابرات دول المحور الأنغلوساكسوني (الولايات المتحدة ـ بريطانيا ـ كندا ـ استراليا ـ نيوزيلندا)، وكان رد الصين حازما، إذ وصفت هذه التقارير والتصريحات بالجنون، فالفيروس طبيعي، وليس من صنع بشر، وهو ما يؤيده تماما أنتوني فاوتشي أكبر علماء أمريكا في الوبائيات، ومن قبله تقرير مدير مكتب المخابرات الوطنية في أمريكا ذاتها، ومن قبلهما علماء أوروبا ومايكل رايان مدير الطوارئ في «منظمة الصحة العالمية»، التي يتهمها ترامب بالعمالة للصين، ويجمد إسهام أمريكا المالي في موازنتها، ويمتنع عن المشاركة في مؤتمر مانحين، دعت إليه المفوضية الأوروبية، وجمعت عبره نحو ثمانية مليارات دولار، تعهدات لدعم التوصل إلى اللقاحات وتعميمها، إلى حد بدت معه واشنطن كأنها «الزوجة المهجورة»، التي تهذي بكلام غير مفهوم، ولا تضمر سوى الحقد ضد التفوق الصيني المتصل، والتهديد العبثي بمحاسبة بكين، في ما لا تملك أمريكا أن تفعل سوى ما فعلت، بعقوبات وحروب تجارة لا تفوز فيها، وبتهديدات صاخبة، لا تجدي فتيلا مع الصين الجديدة، فليس بوسع واشنطن، أن تشن حربا مسلحة ضد الصين النووية المتحالفة عسكريا مع روسيا، والقائدة اقتصاديا لدول «تجمع شنغهاي» التي تضم نصف سكان العالم، وليس بوسع واشنطن أن تكبح جماح التوسع الصيني التجاري في الدنيا كلها، ولا مقارعة دبلوماسية الصين الناعمة، التي تلف قبضتها الحديدية في قفاز من حرير صيني، الحرير نفسه الذي كان عنوانا لحروب الأفيون القديمة، ومع فارق ملموس جدا، هو أن «الأفيون» يأكل هذه المرة أدمغة الأمريكيين لا الصينيين، إنها حرب الأفيون المعكوسة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2184545

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2184545 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40