الأحد 3 أيار (مايو) 2020

كورونا يكشف العيوب الأخلاقية لحضارة العصر الحديث

سعود بن علي الحارثي
الأحد 3 أيار (مايو) 2020

بلغ العالم شأنا رفيعا من العلم، لم يصل إليه في أي عصر من عصور التاريخ البشري، وأضحت الإنجازات والابتكارات والاكتشافات والاختراعات العلمية في جميع تخصصاتها ومجالاتها، أصولها وفروعها، القديمة والحديثة، تتضاعف كل بضعة أشهر، ولا يكاد يمر يوم من أيام الله إلا وتعلن القنوات المتخصصة عن سبق علمي جديد ينقل الإنسانية إلى عالم أكثر تقدما ورفاهية وازدهارا ويسرا، ومعرفة أوسع وأعمق بالفضاء الخارجي ومنظوماته، ومفردات الطبيعة ومخلوقاتها، والأرض وعوالمها، والوراثة والجسم البشري بدقائقه وتفاصيله، والطب وتقنيات المعلومات والأجهزة الدقيقة، لقد غزا الإنسان الفضاء واكتشف المجرات، وابتكر الأدوية والأمصال التي قضت على أشكال من الأمراض والأوبئة القديمة والحديثة، وصنع الأجهزة والآلات والأسلحة وأجهزة الحاسوب وطور صناعات السيارات والطائرات والإلكترونيات التي تشهد تحسينات وجودة ودقة في الأداء وقدرات أكبر في التشغيل والإنجاز وتعدد المهام والاختصاصات وحجم التخزين، “فالعلوم الطبيعية تضيف كل يوم جديدا إلى رصيدنا من وسائل الرفاهية المادية وسبل الرعاية الصحية كما أنها تميط اللثام عما يحيط الظواهر الطبيعية من غموض وألغاز”… وتتلقى أسواق العالم في اليوم عشرات السلع والبضائع والعلامات التجارية والابتكارات والتقنيات الجديدة التي تيسر حياة الإنسان وتجعله أكثر راحة وترفا ورفاهية في العيش، وتربط العالم ببعضه وتذيب الحواجز والموانع والقواطع في خطوط وشبكات ووسائل تواصل عالية الجودة والدقة والسرعة قادت هذا العالم الواسع بملياراته السبعة وثقافاته ولغاته وأعراقه ومذاهبه وعقائده وألوانه المتباينة ليكون قريبا من بعضه، يتحاور المشرق مع المغرب، والشمال مع الجنوب في بث مباشر، وتلتقي الشعوب وتتبادل فيما بينها التجارة والخبرات والمعلومات والعمل والسفر واللقاءات والاتفاقيات وتتحاور تحت مظلة قيم العولمة التي تحمي قوانينها الجميع ـ كما يفترض وتتطلبها المسؤولية ـ إنجازات هائلة وطفرات علمية وتقنية وتنظيمية فاقت المتخيل، ازدهار حياة، ورفاهية عيش، ويسر في الحركة، وحرية في التعبير، أسواق مفتوحة، فرص واسعة، ثروات هائلة، أفراد يملكون من احتياطي الأموال ما لا تملكه عدة حكومات “فأغلب الناس باتوا يحيون حياة أطول ويحظون بأوضاع صحية أفضل وتعليم أكثر وإلماما أوفى بما يدور في العالم، وبات في متناولهم أجهزة آلية تخفف من وطأة العمل اليدوي”. فهل تم استثمار كل تلك الإنجازات الهائلة في تنمية الإنسان وتعزيز حرياته وتعظيم حقوقه في المساواة والعدل والفرص المتكافئة وتوفير متطلبات العيش الكريم، وتحسين وتجويد مؤسسات التعليم والصحة وشبكات المعلومات وإصلاح البيئة والحفاظ على توازنها وتعظيم مواردها في تحقيق المصالح العامة…؟ في حقيقة الأمر كشفت حضارة العصر الحديث أو الحضارة الغربية عن عيوب عميقة في نظمها وهياكلها ومؤسساتها الأخلاقية والسياسية والاقتصادية، فهي وإن تمكنت من تحقيق نهضة علمية شاملة تنمو بشكل متسارع وتسعى كما تروج شعاراتها إلى تحقيق رخاء وازدهار ونهضة الإنسان وترسيخ قيم العدالة والمساواة والسمو الأخلاقي وحرية التعبير والمشاركة الواسعة لأفراد المجتمع في مصيرهم، وتقليص نسب الفقر والجهل والتخلف والفساد إلى الصفر، إلا أن الواقع الصادم يتحدث بلسان يتعارض مع هذه الشعارات، فالإنفاق على صناعة الأسلحة وشرائها يتفوق بشكل كبير على الإنفاق على التعليم والصحة والبحث العلمي والتنمية والخدمات، والدول الكبرى تفرض هيمنتها وسيطرتها واستنزافها لثروات الدول الفقيرة والأمم المغلوبة، وتم تقسيم البشر إلى طبقات غنية ومتوسطة وفقيرة، قوية وضعيفة، متقدمة ومتخلفة، مرفهة وكادحة، حتى على مستوى المجتمع الواحد في دولة متقدمة، فقد ألقى “انتشار أسلحة الدمار الشامل الرعب في قلوب الناس وبظلاله الكئيبة على المشهد البشري”. يتصارع الساسة ومن في منزلتهم ومجالهم على مقاعد الرئاسة والنيابة والبرلمان والوزارة والحزب بالرشاوى والمحسوبية والفساد والشعارات الزائفة دون اكتراث لمتطلبات وأوضاع الشرائح التي يمثلونها، تعتدي الدول القوية على الضعيفة، تستعدي الحكومات شعوبها بجبروت السلطة والقوة والشعارات والخطط والدسائس والمكر والدهاء، فتغيب المساواة ويستشري الفساد ويوظف المال العام لخدمة أزلام النظام ومعاونيه والمتزلفين له، وتمتلئ السجون بكل مطالب بإصلاح، منتقد بحق، معبر عن رأي، مدافع عن ظلم … تعبأ المخازن بالأسلحة الفتاكة وتستنزف الموازنات في شرائه ويجند الشباب من أجل الدفاع عن النظام وحمايته وتكريس ظلمه واستمرار بقائه وضمان توريث سلطته لعقبه خصوصا في دول العالم النامي والمتخلف، فيتعمق الفقر وترتفع نسب الجهل وتنكمش حقوق المجتمعات وتتراجع الحريات وتنهار البنية التحتية وتسوء الخدمات ويصبح التعليم والتطبيب وشبكات الماء والكهرباء والاتصال غير قادرة على الوفاء بالتزاماتها، فتوجه طاقاتها الأكبر إلى الأغنياء والمقتدرين ومن يستطيع أن يدفع التكلفة الباهظة. “وفي كلمة واحدة فإن أعدادا متزايدة من البشر يعيشون في حالة فقر مدقع… وعلى الرغم من أن الدخل الصافي للأفراد قد ارتفع في أغلب المجتمعات فإن الهوة تتسع يوما وراء آخر بين الدخول العليا والدنيا ما من شأنه تفاقم الإحباط والسخط لدن أولئك الضعفاء المعرضين لنوائب الدهر الذين يعجزون عن تحسين أوضاعهم”. وأدت الصناعات الحديثة وانتهاكات مافيا المال والأعمال والدول العظمى واستهلاكهم المبالغ وتجاوزاتهم القانونية والأخلاقية واستهتارهم بالقيم والمثل الإنسانية إلى “تلوث الهواء والمياه والتصحر، وكلها عوامل أخلت بالتوازن البيئي وباتت نذيرا بتغير مناخي جد خطير”، ما أدى إلى اتساع وشراسة الكوارث الطبيعية من زلازل وفيضانات وبراكين تفتك وتشرد الملايين من الفقراء والبسطاء والعامة. وكشفت جائحة كورونا عن هذا الخلل الكبير في النظام العالمي، عندما انهارت المؤسسات الصحية وظهر النقص في الأجهزة الاصطناعية والأدوية والأمصال والأسرة والخدمات الطبية الميدانية في أقوى وأرقى الدول التي لم تتمكن مؤسساتها الصحية من استيعاب عدد المصابين، وتم التضحية بكبار السن، في تصرفات غير مسؤولة وغير أخلاقية، ومورست أشكال من التجاوزات الأخلاقية عندما سطت كل دولة منها على حقوق الأخرى في شحنات الأدوية والأجهزة والمعدات الطبية التي تتعامل مع الكورونا، وفي الكثير من الدول الفقيرة والمتخلفة التي تشهد صراعات وحروبا أهلية أو أوضاعا أمنية غير مستقرة، وأعدادا كبيرة من السكان في مقابل بنية تحتية منهارة واقتصاد ضعيف منكمش، يصاب الناس ويموتون دون أن يكترث بهم أحدا، “يجمع أهل البصيرة على القول بأن الأنظمة الرأسمالية والشيوعية والأيديولوجيات القومية والدينية أضرت بالإنسانية أيما ضرر. اجتهدت جميع هذه الأنظمة والأيديولوجيات في الانتصار لتصوراتها المعرفية والمسلكية المتطرفة، فأهملت الشخص الإنساني في صميم جوهره، وعمق كيانه، وأصالة كرامته، ومعنى حريته، وجميل وعيه، ومسعى عقله، ورهافة وجدانه، لذلك لا يمكن أن تنفصل مأساة الكورونا عن هذا المسرى التسلطي الذي اتبعته هذه الأنظمة في ادعائها القدرة على صون الإنسان ورعايته وإنعاشه وتعزيزه وتطويره”. لقد فشل العالم الحديث وعجزت مؤسساته وأنظمته في التعامل مع فيروس لا يرى بالعين المجردة نشر في الأرض الخراب ودمر اقتصاداتها، وأخفقت النهضة العلمية الحديثة بكل إنجازاتها في التعاطي مع جائحة كورونا؛ لأنها لم تركز على تنمية الإنسان ولم تؤسس لنظام عادل يتساوى فيه البشر في الحقوق والمسؤوليات، ولم تقدم التعليم والصحة والبحث العلمي والبنى التحتية على السلاح الذي وظف للسيطرة والنهب والقتل وإضافة الأعباء على الفقراء، فهل سيتمكن العالم من استيعاب الدرس؟ وهل سينجح في إقامة نظام يرتكز على تنمية وتقدم ونهضة الإنسان؟ الأشهر والسنوات القادمة سوف تجيبنا على الكثير من الأسئلة الحيوية التي نطرحها في يوم يفتك فيه كورونا بالأرواح.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 5 / 2184606

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184606 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40