السبت 4 نيسان (أبريل) 2020

عالم ما بعد كوفيد ـ 19هل إلى الأحسن أم الأسوأ؟

محمد عبدالحكم دياب
السبت 4 نيسان (أبريل) 2020

لقد شد وباء كورونا أنظار المراقبين والمتابعين والمعنيين، وأبعدهم عن قضاياهم اليومية والحياتية المعتادة؛ بأبعادها المادية والاقتصادية والثقافية والروحية، ومجالاتها المتعددة؛ عامة وصحية وتعليمية وتربوية، وجاءت جائحة كورونا المستجدة أو (كوفيد – 19) فشدت الأنظار واستحوذت على الجهود كافة، فالأخبار والاهتمامات صارت ذات بعد وموضوع واحد على مدى شهور، وبدأت بظهور هذا الفيروس اللعين في كانون الثاني/يناير الماضي، ويبدو أنه حَل بنا ليستمر معنا وقتا أطول، وما زال السائل والمسؤول في كل عواصم العالم، لا يملك ردا حاسما على ما يوجه له من أسئلة، وقادة العالم المتقدم في الغرب تحديدا في تضارب وارتباك غير مسبوق، وخطواتهم ليست محددة الاتجاه، ومنها من لا يحسب حسابا للضحايا الذين يتوالى سقوطهم تباعا، وفي واشنطن وروما ولندن ومدريد وباريس وبرلين مهمومون بالحسابات الاقتصادية وخسارة الأموال لا خسارة الأرواح.
وأمام هذا الفيروس المتناهي الصغر تراجعت أخبار النزاعات والحروب، والاقتتال المجاني، فتربع على عرش العالم بلا منازع، وهو عابر للقارات والدول والطبقات والأجناس، له عدالة من نوع خاص تتمثل في توزيع الآلام والموت والأحزان بالقسط، وتحت ضغط هذه الثلاثية استسلم الناس للعزل الذاتي، وأملهم أن تنزاح هذه الغمة، وتوقع البعض بأنها لابد أن تكون نهاية عصر كان، وبداية حياة آت؛ أي سقوط نظام عالمي وولادة نظام آخر جديد.
وأسأل: هل هذا ممكن؟ والجواب عندي قد لا يكون بالإيجاب، فرغم ما يواجه العالم من محنة غير مسبوقة، نجد هناك مصادرة مسبقة وقائمة لمنع ولادة ذلك النظام الجديد، فما زالت الهيمنة مستمرة في قبضة المستفيدين من بقاء النظام القديم بتفسخه وفساده وفوضاه وعنفه، وكل همهم هو تحسين وتجميل كل هذه الصفات الوحشية والذميمة، ويضعون المتاريس والعقبات أمام إمكانية هذه الولادة، ويعدون لإلباس النظام القديم حلة جديدة تبقي عليه وتضمن استمراره، وتحمي مصالحهم، وتُحكم قبضتهم، وتزيد من هيمنتهم، وكلها قوى لا مستقبل لها في ظل أي نظام جديد يعطي جرعة كافية من العدل، ومستوى متوازن من المساواة السياسية والقانونية والإنسانية.
وبالمناسبة استعيد وجهة نظري التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، والرد على دعوة انطلقت لبناء نظام جديد، وتلخصت وجهة نظري يومها في أن نظاما كان قائما على «الثنائية القطبية» إنهار نصفه لا يمكن له أن يستمر على نصفه الباقي، الذي لا بد أن يسقط آجلا أو عاجلا؛ كي يفسح الطريق أمام نظام آخر قد تتعدد أقطابه فيكون أكثر توازنا واستقرارا، وعلى ذلك الأساس أمكن التنبؤ بدورات العنف والفوضى والتدمير والتقسيم والتفتيت، التي توالت، وحلت المذاهب والطوائف والعشائر محل المجتمعات والأمم والشعوب والدول، واستبدلت القوانين والقواعد والأعراف المدونة والمستقرة بالفتاوى المذهبية والطائفية. وأدى ذلك لتدفق طوفان الدم، الذي لم ينقطع بفعل ذلك القطب الواحد الذي استباح كل شيء، وما زال سعيدا بما حقق من خراب ودمار لم يمر بالعالم من قبل.

لم يعن سقوط الاتحاد السوفييتي، ولادة نظام جديد تلقائيا، فالولادة يلزمها حمْل؛ كعلامة على إمكانية الولادة. وما زلت أؤمن بصحة ذلك الرأي النسبية، ولم يكن معنى سقوط الاتحاد السوفييتي السابق نهاية للنظام العالمي القديم؛ مع أن العالم كان في أمس الحاجة لنظام جديد؛ لم تواته فرصة الوجود بعد، والسبب أن النظام القديم ما زال قادرا على تعطيل صعود «كتلة ثالثة»؛ فتية وشابة، وعوقبت على مقاومتها للاستعمار القديم، الذي سرعان ما استرد قوته، وتولى تقويض وهدم وتقسيم وتفتيت الكيانات المناوئة؛ بدعوى ملاحقة الشيوعية، وتصور الغرب أنه حقق نصره النهائي، وغاب عنه أنه تغلب في معركة ولم ينتصر في الحرب الأيديولوجية الضروس، وبقيت الصين تنتظر وتراقب عن بُعد سقوط بقايا النظام القديم، الذي لم يتبق منه غير الولايات المتحدة، وبقايا قديمة؛ عنصرية وطائفية ومذهبية وانعزالية وعشائرية، وانكشف دورها الوظيفي في البلاط الصهيوني.
وكانت الإمبراطورية الشيوعية قبل انهيار الاتحاد السوفييتي قد غطت أكثر من ثلث العالم، وتجاوز انتاجها 35٪ من الانتاج العالمي، وشهدت ولادة قوة جديدة من رحم الامبراطوريتين المتصارعتين، فالأولى وقد كانت وما زالت استعمارية استيطانية، وعنصرية احلالية، تعيش على الغزو، وتقتات بالحروب، وتشجع الاستيطان، وتعتمد التطهير العرقي، وتحيا بالإبادة الثقافية، وتتضخم بالاستغلال والنهب والتمييز العنصري والأنانية المطلقة، والإمبراطورية الثانية سعت لتقويض عروش الأولى، والقضاء عليها، واتخذت من الطبقة العاملة قاعدة وأداة للتغيير، وبعيدا عن البعد النظري في التجربة السوفييتية، وبقربها من حركات التحرر والاستقلال الوطني؛ بما لها وما عليها كانت خطواتها في الاتجاه الصحيح؛ قرَّبها من التوجه الجديد لحركات التحرر نحو التنمية المستقلة، وتحرير القوى العاملة والمنتجة من الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو أهداف التقت فيها مع حركة القومية العربية.
وحملت حركة القومية العربية لواء العمل على توحيد «قارة عربية»؛ مترامية الأطراف، تمتد من حدود إيران شرقا حتى شواطئ الأطلسي غربا، وتمثل مساحة هبطت عليها الرسالات السماوية، وحمل سكانها على عاتقهم أمر تبليغها ونشرها بين البشر، وشقت بذلك طريقا ثالثا؛ تعاملت به مع الإمبراطوريتين المتصارعتين، ووجدت الامبراطورية السوفييتية في ذلك مجالا يتيح لها فرص صداقة وتعاون، ولو لم يحدث الشرخ السوفييتي الصيني، لكان الوضع العالمي قد اختلف وكان أكثر توازنا؛ وما كان العالم قد دفع ثمن ذلك الشرخ باهظ التكاليف، ومع وجود كتل ثلاث؛ بتوجهات عالمية جديدة؛ أفرو آسيوية، وعربية، وأوروبية، ولاتينية، سرت روح «عدم الانحياز»، التي ساهمت في تخفيف حدة التوتر العالمي، ووجد الاتحاد السوفييتي في الصداقة العربية متنفسا وفرصة لتخفيف الحصار المضروب حوله.
وفي نفس الوقت جاءت الهجمة الصهيونية؛ المدعومة من قوى إمبريالية تقليدية وأخرى جديدة، ولها دوائرها ومصالحها مع دول «القارة العربية»، ولها تأثيرها وهيمنتها على نظم محافظة؛ موزعة بين أقاليم عربية وإسلامية وأفرو آسيوية ولاتينية، وتسبب ذلك في خلخلة علاقات دول عدم الانحياز، وأدى لتراجع حركات التحرر، وتَوقُّف تنفيذ خطط التنمية المستقلة.
وبانهيار الاتحاد السوفييتي، وما سبقه من نكبة العرب في فلسطين 1948، وفصم عرى دولة الوحدة المصرية السورية عام 1961، والنكسة التي أصابت المشروع الناصري في 1967، وتداعيات النصر العسكري في 1973، وما تلاه من زيارة السادات للقدس المحتلة، ونتائجها الكارثية، وتوقيع «معاهدة السلام» بين السادات وبيغن، وغزو العراق واحتلاله، وتدمير سوريا وتقطيع أوصالها، والعدوان على اليمن، وتحول سياسات رسمية عربية وإسلامية عدة من المراوحة والتردد إلى الاصطفاف مع المشروع الصهيوني، وقطعوا معه شوطا طويلا؛ تغيرت فيه خرائط «القارة العربية»، وأعيد رسمها مجددا؛ لتلبية مطالب إقامة «الشرق الصهيوني الجديد».
والغريب أن أثر حركة القومية العربية، أضحى عابرا للقارات وظهر جليا في أمريكا اللاتينية، وإعلان عدد من دولها أنهم يسيرون على خطاها في التصدي للهيمنة الأمريكية وللنفوذ الصهيوني المتسلل إلى بلادهم، وذلك أفقد دونالد ترامب صوابه، وبذلك ضاق العالم واقتربت مسافاته وزاد إيقاع التغيير فيه، وما زال ذلك التغيير الذي يقع هناك بعيدا، ولم يعد لموطنه، وما زال إيقاعه السريع محجوبا وبعيدا عن بلاده وأصله.
انتقال هذه الروح وذلك التوجه إلى أمريكا اللاتينية؛ الحديقة الخلفية للولايات المتحدة؛ ذلك الحضور أضحى مهددا للحركة الصهيونية في عقر دارها، وعلى تخوم دولتها الاستيطانية الأم؛ أمريكا الشمالية، ويبدو أن الصراع القادم سيستهدف إحياء ثقافة وتقاليد أهل البلاد الأصليين من الهنود الحمر، وامتداداتهم من قبائل «العالم الجديد» قبل «الاستيطان الأبيض»، ومن سكان أمريكا الجنوبية الأصليين.
ومع مجئ فيروس كورونا المستجد؛ هل يتغير العالم إلى الأسوأ، ولم يبق إلا الرهان على معجزة، فهل تتحقق؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 694 / 2184540

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184540 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40