السبت 21 آذار (مارس) 2020

عندما ترحل «كورونا»

عبد الحليم قنديل
السبت 21 آذار (مارس) 2020

وباء “كورونا” ليس يوم القيامة ولا نهاية التاريخ، فيوم القيامة في علم الله وحده، وأشراط الساعة لا يعلمها إلا هو، أما “نهاية التاريخ” فقصة بشرية، وكانت نبوءة مضللة للأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما، وعنوانا لكتابه الشهير قبل ما يزيد على الربع قرن، ثم تراجع عنها فوكوياما نفسه، الذي كان ظن أن القصة انتهت، وأن سقوط الاتحاد السوفييتي وكتلته الاشتراكية كان مسك الختام، وأن لا أحد بوسعه بعدها، تحدي الطبعة الغربية الرأسمالية والليبرالية، وأن العولمة الغربية هي الحل، وأن “الأمركة” كمرادف للعولمة، هي القدر الأخير بعد نفاد فصول الصراع الإنساني.
المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل عبّرت سياسيا بطريقتها عن فزع “كورونا”، وقالت إنه أكبر تحد يواجهنا منذ الحرب العالمية الثانية، وقد كانت ألمانيا نفسها مهدا للحرب الثانية، وكان هتلر المستشار الأسبق لألمانيا، هو الذي أشعل الشرارة الأولي للحرب، التي سقط فيها نحو ستين مليون قتيل، ودمرت فيها عواصم أوروبا الكبرى، ولم يكتف الغرب في حربه بتدمير مدنه وأقطاره، بل حطم شعوبا أخرى في شرق العالم وجنوبه، كانت كلها من ضحايا استعمار ومطامع “حلفاء” و”محور” الحرب الثانية، التي أنهكت المركز الأوروبي للسيطرة الغربية، وسمحت لحركات التحرير الوطني، بتحقيق انتصارات متوالية، طوت عصر “سيادة الغرب”، الذي استمر قرونا منذ سقوط غرناطة، واكتشاف الأمريكتين، وافتتحت عصرا من “تحدي الغرب”، برزت فيه أدوار رموز من نوع ماو وسوكارنو ونهرو وجمال عبد الناصر وسلفادور الليندي، حاصرهم المركز الأمريكي للسيطرة الغربية، ونجح في إطفاء الأنوار في مناطق، بينها عالمنا العربي المنكوب، لكن قوة الدفع الهائلة لحركات التحرير، ظلت تؤتي أكلها في معارك التنمية بعد التحرير، وتواصل أشواط التحدي حتى بعد سقوط موسكو الشيوعية، وتبشر بدخول العالم إلى مرحلة “تجاوز الغرب”، أي امتلاك قوته المادية والتكنولوجية ذاتها، وإلى أن تفوقت المعجزة الصينية، التي حققت في أقل من أربعة عقود، ما حققه الغرب في خمسة قرون، وبدت كقوة كاملة الأوصاف، راحت تغير وجه العالم على نحو تدريجي فعاصف، وتكتب التاريخ من جديد، وتصوغ عالما أكثر اتزانا وإنسانية، وتثبت تفوقها الباهر، في محطات ليس آخرها حرب “كورونا”، التي تحول المشهد الأوروبي إلى أخطر مسارحها، تماما كما كان عليه الأمر في الحرب العالمية الثانية.
وفي المنازلة الكبرى، بدت قوة الصين الطالعة عفية على نحو كاسح، صحيح أن الصعود الياباني سبق الصعود الصيني، وكان التقدم الياباني مقلقا للتفرد الأمريكي بقيادة اقتصاد العالم، وكان عجز أمريكا التجاري في مواجهة اليابان ظاهرا في ثمانينيات القرن العشرين، بما دفع المؤرخ الأمريكي من أصل بريطاني بول كينيدي، إلى إطلاق تحذير أخير، في كتابه الموسوم “نشوء وسقوط القوى العظمى”، الذي ركز فيه على اختلال التوازن بين البندقية ورغيف الخبز، وتحول أمريكا من أكبر دائن إلى أكبر مدين في الدنيا كلها، وتوقع أفول نجم القوة الأمريكية عالميا، كما انحطاط الاتحاد السوفييتي، والتدهور متصل باطراد، فقد تزايد الإنفاق العسكري الأمريكي إلى ما يزيد على 750 مليار دولار سنويا اليوم، وزاد عبء الدين الأمريكي إلى 22 تريليون دولار، وزاد انحطاط العجز التجاري هذه المرة في مواجهة الصين، التي تستحوذ وحدها على 35% من تجارة العالم، وبدت الصين كقوة عالمية أولى، وحجم اقتصادها اليوم أكبر من حجم اقتصاد أمريكا، بمعيار تعادل القوى الشرائية، ولدى الصين احتياطيات نقد أجنبي بأرقام فلكية، تجاوزت حاجز الأربعة تريليونات دولار، وصارت الصين أكبر مستثمر في ديون أمريكا، عبر شراء سندات الخزانة الأمريكية، والعجز الأمريكي في التبادل التجاري مع الصين، بلغ حافة الأربعمئة مليار دولار سنويا، وهو ما أصاب أمريكا بذعر جنوني، دفع إدارة ترامب إلى العودة لسلاح الحماية الصناعية، ومضاعفة الحواجز الجمركية، والانسحاب من العولمة الاقتصادية والتجارية، التي قادت أمريكا الحركة إليها تاريخيا، وعلى ظن إمكان تحويل العولمة إلى “أمركة” شاملة للعالم، ومن دون تحسب لصعود الصين كقوة شاملة، أي قوة اقتصاد وسلاح وتكنولوجيا نووية وفضائية.
ثم إن الصين عالم بكامله، وقوتها البشرية تفوق الغرب الأوروبي والأمريكي مجتمعا، وقد صار معيار القوة البشرية المتعلمة المدربة حاسما في موازين العالم الجديد، وفي أولوية اقتصاد المعرفة الزاحف، ونجحت الصين في تطوير نظامها التعليمي، وهو الأكبر في العالم بامتياز، ويضم أكثر من 300 مليون شخص في مراحله المختلفة، وهو مجاني تماما، ثم إنه صار الأفضل في التصنيف الدولي، وهو ما يفسر تطورات الصين المذهلة في عوالم التكنولوجيا وتطبيقاتها، وبالذات في “الروبوتات” التي لعبت دورا هائلا على مسارح الحرب ضد وباء “كورونا”، الذي هاجم الصين أولا، وبضراوة مفزعة، فاقت وقع هجمات هتلر الأولى في الحرب العالمية الثانية، ثم كان النجاح السريع للصين، وفي التاريخ الذي حددته القيادة الصينية، فلم تعد ترد أنباء عن إصابات يومية جديدة في “ووهان” مركز الوباء الأول، ومصانعها الكبرى عادت للعمل بكامل الطاقة، وبدت الدولة الصينية الأكثر تفوقا في المواجهة، بسلطة مركزية راسخة، تملك نصف الاقتصاد كملكية عامة، وتخطط لنصفه الآخر المملوك للخواص، وبتماسك فريد في النسيج القومي، فالصين ذات العدد المقارب للمليار ونصف المليار نسمة، 94% من سكانها من قومية واحدة هي “الهان”، وشعبها أبدى انضباطا حديديا في تنفيذ توجيهات العزل والحجر والتطهير والتعقيم والوقاية، ومقدرة الصين الاقتصادية والإنشائية بدت واضحة، وأقامت مستشفيات ضخمة على أرقى مستوى في أيام، وحققت النسبة الأكبر عالميا في حالات التعافي من إصابات كورونا، وقدمت تطبيقات تكنولوجية، فاقت بكثير شطحات وخيالات صناع أفلام هوليوود، وتحركت فيها روبوتات الصين كجيوش بكائنات عظيمة الذكاء، وقامت بأعمال التطهير والتعقيم للشوارع والمباني وناطحات السحاب، ومهمات الفحص واكتشاف المصابين، وإدارة العمل في المستشفيات، وعلى امتداد مدن كبرى، أولها بالطبع مدينة “ووهان” عاصمة مقاطعة “هوبي”، التي تضم نحو ستين مليون نسمة، أي بحجم دولة أوروبية كبرى، إضافة لتكنولوجيا “البيج داتا”، التي طورتها الصين، ولا تملك دولة في العالم ما يضاهيها شمولا، وفيها سجل بيانات كل فرد صيني، بياناته الشخصية والصحية والاقتصادية والمكانية، إضافة لبرنامج الكشف الصحي الذاتي، الذي طورته شركات الصين التكنولوجية العظمى، علاوة على تقديم تكنولوجيات لرجال الشرطة وكوادر الجيش الأكبر عددا في الدنيا كلها، وعلى نحو تحولت معه الصين إلى مسرح خيال علمي بديع، وصارت قبلة شفاء للحالمين بالنجاة، ومدت يدها لأوروبا في محنتها الراهنة، التي حولت مدنها الكبرى إلى مدن أشباح، وقدمت لها ملايين الكمامات وأجهزة الكشف بالمجان، كما قدمت بروتوكول العلاج علنا لبلاد الدنيا كلها، وسبقت بإعلان تطوير لقاح، وإجراء تجاربه السريرية، وتستعد لإنتاج عقار “فافيبيرافير” بمليارات العبوات، وبيعه للعالم المتلهف بسعر التكلفة، بينما تبدو إدارة ترامب الأمريكية في “حيص بيص”، وهي تواجه غزو الفيروس الآخذ في الانتشار بكثافة في مدن أمريكا بعد مدن أوروبا الحليفة المنكوبة، مع انكشاف ضعف وترهل السياسات الصحية والمنشآت الطبية، ومع قصور فادح في الإمكانيات المالية والتكنولوجية، ومع محاولة ترامب شراء جهود شركة ألمانية كبرى متخصصة في إنتاج اللقاحات الفيروسية، وبما دفع مسؤولا ألمانيا كبيرا للرد بالقول إن “ألمانيا ليست للبيع”، ثم تردي ترامب إلى ما هو أسوأ، وبدا مثيرا لشفقة لا يستحقها، حين أعلن مزهوا إمكانية استخدام دواء الملاريا في علاجات كورونا، وهو الخبر الذي سبقت الصين لإعلانه وتعميمه.
وباختصار، لا تبدو “حرب كورونا” في عزلة عن مصائر وصور العالم الجديد الزاحف، فقد كانت للحرب العالمية الثانية نتائجها، ورسمت صور العالم الذي أعقب نهاياتها، سواء في مرحلة القطبين السوفييتي والأمريكي، أو في مرحلة القطبية الأمريكية الأحادية القصيرة العمر، بعد انهيارات موسكو الشيوعية، لكن حقائق التحول في موازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا، راحت تلقي بآثارها وظلالها، وعبر ميادين حروب بالنار، كان أظهرها ما جرى في سوريا، مع إعادة تأهيل روسيا عسكريا، ومع زحف القوة الصينية الصلبة والناعمة، التي راحت تشكل في هدوء ملامح عالم جديد، هزمت الصين فيه أمريكا لمرتين، مرة في حرب العولمة الاقتصادية، ومرة أخرى راهنة في الحرب ضد وباء كورونا الكوني، وربما لن يعود العالم أبدا عند رحيل “كورونا” إلى الذي كنا نعرفه.

كاتب مصري*



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 5 / 2184563

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184563 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 7


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40