السبت 29 شباط (فبراير) 2020
أميركا ــ حزب الله... عسكرة الدولار

تحديات محور المقاومة... وتقدّم على مختلف المحاور

عن «إرث» ترامب الذي لا يشبه أسلافََه
السبت 29 شباط (فبراير) 2020

- سمير الحسن

تحديات محور المقاومة... وتقدّم على مختلف المحاور

متواصلة بعناد، وبلا هوادة، عدوانية الغرب على الشرق. طاقة عدوانية غريبة باستمراريتها، وثباتها، وجبروتها، لا تلبث أن تتعدّى وتدمّر وتقتل وتخرّب، وإن خسرت فببعض ردّ فعل مقاوم من شعوب الشرق، الذي لم يغب عن لسانه طعم هذه العدوانية الشرسة على مراحل تاريخية مختلفة.

والاستعمار ليس أماً حنوناً، كما صوّره كاتبو التاريخ الحديث، ولا الإمبريالية أباً للشعوب. الأم وابنتها دمرتا الكرة الأضية، وحياة الشعوب عليها. جاء الاستعمار الفرنسي، ودخل دمشق، وأوّل ما قام به قائد القوات الفرنسية، الجنرال غورو، خلال الحرب العالمية الأولى، أنه قصد قبر صلاح الدين الأيوبي، أحد أبرز رموز هزيمة الصليبيين من الشرق، ورفسه بقدمه قائلاً: «يا صلاح الدين أنت قلت لنا إبان الحروب الصليبية: إنكم خرجتم من الشرق ولن تعودوا إليه. وها نحن عدنا فانهض لترانا في سوريا».
كرّس غورو النزعة الاستعمارية لبلاده، وللغرب برمّته؛ فالصليبية كانت أوروبية الطابع، ولم تنتمِ إلى دولة محدّدة، وقومية معيّنة. لم تكن جرمانية، تحديداً، ولا إفرنجية تحديداً، ولا أنكلو ساكسونية تحديداً. كانت كل ذلك، مع غيرها من مختلف القوميات الأوروبية. زرعت لمام شعوب من مختلف دول العالم مكان شعبٍ آخر في فلسطين، فكان الكيان الصهيوني. ثمّ تنبعث اتحاداً أوروبياً، بعد قرون طويلة على حدود الألفيتين الثانية والثالثة.
وتتجدّد العدوانية بصلافة وإصرار مع الوريث الأشرس، الإمبريالية الأميركية، فتستبيح العالم وتقتل وتدمر، ولا تكلّ عدوانيتها، كما لا يضعف إصرارها على العدوان. تغزو أفغانستان، ثم العراق، تستبيح أميركا اللاتينية بمؤامراتها، ولا تكلّ أمام هزيمة من هنا، أو ضربة من هناك، فتستعيد قوّتها، وتعيد هجومها العدواني، مستفيدة ممّا يشبه وحدانية سيطرتها وبطشها في العالم. تكرّس حضورها المباشر، وغير المباشر في سوريا والعراق ولبنان، مستهدفة تكريس سيطرتها، وكذلك محاولة مجابهة أي نهوض آسيوي، فتضع إيران في أول استهدافاتها، وتخطّط للصين منعاً لنهوض يقضّ مضاجعها.

جملة تحوّلات وانتصارات تكتيكية تُعزّز من حضور محور المقاومة في كل الساحات وتضع المنطقة في مرحلة التحرير المباشرة

لكنّ حركة التاريخ لا تعود إلى الوراء، بل تتقدم مهما كان ببطء، وفي ظل نهوض آسيوي غير منضبط، تعجز الإمبريالية الأميركية عن مجابهته، يتقدّم المحور الشرقي بتؤدة، خطوة خطوة، لا يريد للمجابهة أن تصل إلى ذروة عنفوانها، لأنه لا يريد أن ينجرّ وراء نزعة الإمبريالية الأميركية إلى تدمير الحياة البشرية على الأرض بمجابهة شاملة. وبقدر ما هي غريبة النزعة العدوانية بصلفها واستمراريتها، مستوى الرد الشرقي منضبط في الحدود المرسومة له: تقدم من دون تراجع، ولا تسرّع. يتضمن الرد في طياته قراراً نهائياً بالمجابهة حتى نهايتها، التي قد تطول تحت مؤثرات الضبط المرسومة لعملياتها على المستويات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية. لذلك، تطول المجابهات العسكرية المباشرة الشرسة في سوريا، واليمن، وتتخذ في العراق ولبنان منحى الحراك الشعبي.
في هذه الأجواء، نلاحظ تطورات ميدانية في سياق التحولات الاستراتيجية الواقعة في سياق مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة. ولا بدّ من التوقف عند التطوّر العسكري على جبهتي اليمن وسوريا؛ هجومان يعبّران ضمناً عن الهجوم الشامل الذي تقوده جبهة المقاومة لدفع أميركا وحلفائها إلى مزيد من التراجع؛ فالجيش السوري دخل مرحلة متقدمة لحسم معركة إدلب. وفي اليمن، سجّل الجيش اليمني و«أنصار الله» تقدماً استراتيجياً على جبهة مأرب، والجوف، بعد النجاحات الكبيرة على جبهات نهم، وكتاف، ما يعني دخول الجيش السعودي مرحلة حرجة في اليمن.
في لبنان، قال فلتمان إذا لم تضعوا حداً لحزب الله، فسيعود لبنان إلى العصر الحجري. هي لغة الأم المزعومة بالحنون. «إما لبنان لنا، أو... لا لبنان». هكذا يريد الغرب لبنان الذي رسمه على قياس مصالحه، ومن أجل مخططاته، وواهم من لا يزال يعتمده وطناً قائماً بحدّ ذاته، موئلاً دائماً لأبنائه المقيمين فيه. وعندما حاول الحكم اللبناني التوجّه نحو الشرق، انطلقت الحركة التي يعتمدها فلتمان في استراتيجيته، إما لإعادة لبنان إلى أحضانه بالتمام والكمال، خالياً من المقاومة، أو لإعادته إلى العصر الحجري كما هدّد فلتمان، ابتداءً منذ السابع عشر من تشرين الأول / أوكتوبر المنصرم. وفي العراق، تتخذ الحركة منحًى أكثر تجذّراً، حيث تجمعت كل القوى الوطنية في المجابهة، يعزّزها الحضور الإيراني المقاوم الذي حسم قراره بإخراج الأميركي من المنطقة.
جملة تحوّلات، وانتصارات تكتيكية، تعزّز من حضور محور المقاومة في كل الساحات، عسكرياً وسياسياً، وتضع المنطقة في مرحلة التحرير المباشرة، كما تقرّبنا من الهزيمة النهائية لغورو الاستعماري، وفلتمان الإمبريالي، بانتظار تحقيق النصر الاستراتيجي، إن على المستوى العسكري أو الاقتصادي ــ وهو من أهم عناصر المجابهة ــ أو السياسي، مهما امتدت المجابهة، وطال أمدها.

- علي دربج

عن «إرث» ترامب الذي لا يشبه أسلافََه

لا أحد داخل الولايات المتحدة وخارجها، بات قادراً على فهم شخصية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فالتنبؤ بما يفكر فيه الرجل أو ما سيُقدم عليه مستقبلاً، على صعيدي السياسة الخارجية والإجراءات العسكرية وحتى الاقتصادية، بات يعرّض صاحبه لتهمة «العرّاف».

صحيح أنّ الرئيس الحالي اشتهر بتقلّباته وغطرسته وغروره وحتى تهوره، أحياناً، فضلاً عن ارتكابه عدداً من الهفوات السياسية والدبلوماسية التي جعلته مثاراً للسخرية وعرضة للانتقاد مراراً، غير أنّ الخطوات السياسية والعسكرية والأمنية التي أقدم عليها (إعلان الرئيس الأميركي عن «صفقة القرن»، ومن قبلها إصداره أمراً باغتيال قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني، ونائب رئيس «الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس في مطار بغداد في 3 كانون الثاني / يناير الماضي، فضلاً عن دخوله في حرب تجارية مع الصين)، والتي صنّفها البعض على أنها ضربٌ من الجنون، ووضعها آخرون في خانة الإنجازات الاستراتيجية التي تسجَّل له، أعطته دفعاً إضافيا للذهاب بعيداً في خياراته وقراراته التي لا بدّ من الاعتراف بأنّها اتسمت بجرأة كبيرة، لم يصل إليها أحد من أسلافه الذين ما زالت بصماتهم في السياسة الخارجية واضحة للعيان إلى يومنا هذا، ولا سيما أولئك الذين عملوا على افتراض أنّ العالم يحتاج إلى قيادة أميركية، ليس فقط بسبب القوة العسكرية أو الدولار، ولكن لأن الولايات المتحدة استثنائية.
غنيّ عن التعريف أنّ ترامب من أكثر الرؤساء إثارة للجدل في تاريخ أميركا، فجميع رؤسائها منذ فرانكلين روزفلت ومن كلا الحزبين (الجهموري والديمقراطي) استندوا في خلافاتهم إلى القيادة، على الإيمان بالاستثنائية الأميركية، التي لخّصها الرئيس هاري ترومان في عام 1947 بالعبارات التالية: «تتطلّع إلينا شعوب العالم الحرة للحصول على الدعم في الحفاظ على حرياتها. إذا تعثّرنا في قيادتنا، فقد نعرّض سلام العالم للخطر ــ وبالتأكيد سنهدد رفاهية أمتنا».
بذل هؤلاء الرؤساء قصارى جهدهم لتوضيح السياسة الخارجية كمهمة أخلاقية تستند إلى هذه الاستثنائية، التي تتمسّك بالمُثُل الليبرالية «العليا» كشعار دائم، وبرروا لماذا يجب أن تلعب الولايات المتحدة مثل هذا الدور النشط في السياسة الدولية، من خلال اعتبارهم أن العالم يحتاج إلى هذه الدولة الاستثنائية، وتأثيرها «الخيري». من هذا المنظور، كان من الطبيعي أن نستنتج أن ما كان صحيحاً بالنسبة إلى أميركا، كان صحيحاً للعالم الذي قدمت الولايات المتحدة نفسها كمنارة له.
في الواقع، هناك ثلاث أفكار أطلقها القادة الأوائل تؤكد الرواية الرئيسية للاستثناء الأميركي؛ الأولى: تفوّق الولايات المتحدة على بقية العالم، والثانية: ردهم سبب هذا التفوق إلى وجود دور خاص لها تلعبه في تاريخ العالم، فهي لديها مهمة أخلاقية لمتابعتها في الخارج، والثالثة: هو أنه عندما تصل الدول الكبرى الأخرى والإمبراطوريات، بالفعل، إلى مرحلة الذروة في قوتها وسطوتها، من الطبيعي أن تتعرّض وفي وقت ما مستقبلاً إلى الهبوط ويتراجع تأثيرها، لكنّ الولايات المتحدة لا ينطبق عليها هذا الأمر، لأنها ببساطة ستقاوم قانون التاريخ هذا.
بعد انتهاء الحرب الباردة، فسّر الأميركيون نهايتها على أنها تأكيد جديد للاستثنائية الأميركية: «بفضل الله». في عام 1998، قالت وزير الخارجية السابقة مادلين أولبرايت في برنامج The Today Show: «يجب أن نستخدم القوة، لأنّنا أميركا؛ نحن الأمة التي لا غنى عنها. إننا نقف طويلاً ونرى أبعد من البلدان الأخرى في المستقبل، ونرى الخطر هنا علينا جميعاً. أعلم أن الرجال والنساء الأميركيين الذين يرتدون الزي العسكري مستعدون دائماً للتضحية من أجل الحرية والديمقراطية والطريقة الأميركية للحياة».
أما نظرة ترامب إلى أميركا، فمختلفة إلى حدّ ما. هو لا يأخذ بالرواية الرئيسية الكامنة وراء الاستثناء الأميركي، الذي آمن به جميع من تعاقبوا على قيادة تلك البلاد، بل يتبنّى قصة أخرى تقوم على أنّ الولايات المتحدة تشبه بشكل ملحوظ البلدان التي تحدّد نفسها بمصالح وطنية مادية وهوية وطنية عرقية. رفع ترامب شعار «أميركا أولاً» كنهج للسياسة الخارجية، واستتبع احتضانه له برفض المهمة الأخلاقية التي كانت أساسية لهذه السياسة الحديثة: تشجيع (من الناحية النظرية الليبرالية الدولية، واقتصادات السوق الحرة، وحقوق الإنسان). ينظر ترامب إلى العالم بشكل مشابه إلى حدّ ما للواقعيين: كمكان تنافسي، فوضوي حيث تكون كلّ دولة لنفسها، حيث التحالفات موقّتة، والأصلح فقط البقاء على قيد الحياة.
ومع أنّ الاستثناء هو العظمة، كما فسّره القادة أعلاه، لكن في قاموس ترامب الخاص فإن جعل أميركا «عظيمة» يعني جعلها ثرية اقتصادياً، قوية عسكرياً، وحماية التراث الثقافي المسيحي الأبيض للولايات المتحدة، حيث تدفع جماعات الإيفانجالیكال (المسيحيون اليمينيون) بالتعجيل لضمان سیطرة إسرائیل الكاملة على كلّ أرض فلسطین المقدسة، إيماناً منھا بأنّ ھذا يسرّع من عودة المسیح الثانیة. من هنا، يفعل ترامب كلّ ما بوسعه لاسترضاء هذه الجماعات التي يؤمن بعقيدتها.
كثيرون يتساءلون ماذا تعني كلمة «أميركا أولاً»؟ هل هو مفهوم أم شعار أم أجندة للسياسة الخارجية؟ «أميركا أولاً» هي في الواقع أشياء عدّة، كان أكثرها شهرة اسم المنظمة التي تأسّست في عام 1940 من أجل الضغط ضد التدخل الأميركي في الحرب العالمية الثانية. وفقاً للمؤرخ ميلفين ليفلر «ارتبطت أميركا أولاً بالعزلة والانعزالية والانفرادية والنازية ومعاداة السامية وسياسات الاسترضاء التي كافح الرئيس فرانكلين روزفلت للتغلّب عليها، بين عامي 1940 و1941». ترجم ترامب هذا الشعار باللجوء إلى سياسة الحماية الاقتصادية. ففي أول خطاب له، خلال حفل تنصيبه، اتّهم العالم بالاحتيال على الولايات المتحدة، قائلاً: «لقد جعلنا دولًا أخرى غنية، بينما تلاشت ثروة بلدنا وقوته وثقته في الأفق». وأضاف: «يجب علينا حماية حدودنا من ويلات البلدان الأخرى التي تصنع منتجاتنا، ومن سرقة شركاتنا، وتدمير وظائفنا. الحماية ستؤدي إلى قوة وازدهار كبيرين».تطبيقاً لبرنامج الحماية هذا، عمد ترامب عند توليه منصبه، إلى الانسحاب من شراكة عبر المحيط الهادئ ــ وهي اتفاقية تجارية استغرقت سبع سنوات للتفاوض عليها ــ وذلك لصالح الصفقات الثنائية التي قال إنها «ستشجع الصناعة الأميركية، وتحمي العمال الأميركيين، وترفع الأجور الأميركية». كذلك، أعاد التفاوض بشأن اتفاقية التجارة الحرّة لأميركا الشمالية مع المكسيك وكندا. أمّا السمة المميزة لجدول أعمال الحماية لترامب، فكانت حرباً تجارية مع الصين.
العنصر الثاني المهم في برنامج ترامب «أميركا أولاً»، هو القومية العرقية التي تعدّ الأساس لنظرة ترامب إلى العالم وإلى إدارته. دعا هذا الأخير عدداً أقلّ من المهاجرين، وعمد إلى حظر دخول رعايا عدد من الدول الإسلامية إلى الولايات المتحدة، من أجل الحفاظ على ثقافتها المسيحية البيضاء، واتهم أيضاً المهاجرين المكسيكيين بكونهم مغتصبين وتجار مخدرات، كما طالب أعضاء مجلس النواب من أصول أفريقية أو شرق أوسطية أو عربية بـ«العودة» إلى أوطانهم المفترضة. والقائمة تطول من الخطاب الإقصائي القائم على والعرق والدين.
في الواقع، إنّ استراتيجية ترامب الكبرى هي «مزيج متناقض من النزعة العسكرية المتشدّدة والتقليص الاستراتيجي، والاعتماد على الأحادية والعسكرة والتهديدات العدوانية والدعم الاستراتيجي للزعماء الاستبداديين في الخارج (حكام مشيخات الخليج مثالاً)».
تعتبر إحدى المقالات في مجلة «فورين أفيرز» أنه «لم يكن لدى الولايات المتحدة قطّ قائد عسكري جريء وساذج ومتغطرس مثل الرئيس الحالي». ففي ما يتعلق بمسائل الحرب والسلام، يقول ما يعنيه لكنه نادراً ما يفعل ما يقول، فهو كان وعد مراراً وتكراراً بإخراج الولايات المتحدة من النزاعات الخارجية الباهظة، وإعادة القوات الأميركية إلى الوطن، وتجاهل الالتزامات الخارجية المرهقة، ولا سيما إعلانه في خطاب حالة الاتحاد لعام 2019، أن «الدول العظمى لا تخوض حروباً لا تنتهي».
ولكن بعد حوالى من ثلاث سنوات في منصبه، لم تتحقّق عملية التخفيض التي وعد بها. لم يغيّر الرئيس بصمة عسكرية أميركية عالمية ورثها عن الرئيس باراك أوباما، وقبله جورج بوش الابن. كذلك، فقد أبقى العبء المكلف للدفاع عن حلفاء الولايات المتحدة في عدد من الأماكن. على النقيض من ذلك، حمّل ترامب مسؤوليات عسكرية أكبر للولايات المتحدة، وزاد من انتشار القوات في أفغانستان، كما هدّد بالحرب مع كوريا الشمالية، ودعم الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، وفاقم النزاع مع إيران، وشجّع باستمرار على تعزيز القوة العسكرية، بما في ذلك تحديث الترسانة النووية الأميركية وإطلاق «قوة الفضاء». أكثر من ذلك، تجاهل ترامب نصائح وآراء القياديين معه، ذلك أنه من الواضح أنه ليست لديه مصلحة في السمع أو التأثّر بالحكم العسكري المهني للقادة العسكريين والمدنيين في البنتاغون، وفي مقدمتهم الجنرال جوزيف فوتيل، القائد الأعلى للقوات الأميركية في الشرق الأوسط ، الذي أكد أنه «لم تتم استشارته» و«لم يكن على علم» بإعلان ترامب في كانون الأول / ديسمبر 2019، عن نية الولايات المتحدة بأنها ستسحب قواتها من سوريا، معتقداً دائماً بأنّ خبرته العسكرية تفوق خبرة كلّ مسؤول مدني سابق.
يدور الحديث في واشنطن عن الخسائر التي لحقت بالسياسة الخارجية الأميركية، جراء قرارات ترامب الارتجالية، كالخروج من اتفاقية الشراكة مع الباسيفيك التي وقّعتها 12 دولة محورية، ومن معاهدة باريس للمناخ، ومن معاهدة الصواريخ النووية المتوسطة المدى مع روسيا، ومن ثم الإعلان عن الانسحاب المفاجئ من أوكرانيا وسوريا، الأمر الذي لم يلبث أن تراجع عنه فأبقى قواته للسيطرة على آبار النفط.
ووفقاً لمصادر أميركية مطّلعة، فإنّ ترامب تخلّى بصورة كاملة عن المعايير المهنية في صناعة القرار المتعلّق بالأمن القومي، إذ لم يعد يحضر اجتماعات مجلس الأمن القومي، منذ رحيل مستشاره للأمن القومي هربرت ماكماستر (في نيسان / أبريل 2018) إلا نادراً، ويعتمد على حدسه من دون استشارة أحد، كما يهمّش المهنيين والخبراء في إدارته، فضلاً عن رسائله الارتجالية وتغريداته المتناقضة التي لا يستشير فيها أحداً، والتي تثير قلقاً متزايداً في المؤسسات الأمنية والعسكرية على حد سواء، وتنبئ بكوارث على الأمن القومي الأميركي.
بالنظر إلى عدم اهتمام ترامب بآراء المسؤولين العسكريين والاستخباراتيين، وأسلوبه في أخذ القرارات المتهوّرة، فإنّ كل ذلك يجعل من الصعب على الدبلوماسيين ومخططي الدفاع الأميركيين إحراز تقدّم ملموس في إنهاء الحروب وضمان عدم البدء في حروب جديدة، وخصوصاً بعدما تبيّن أنّ هناك جهات رسمية وسلطات أميركية مؤثرة لم تكن على علم بضربة سليماني، كالكونغرس الذي وصف بعض أعضائه ما قام به الرئيس بأنه «أقرب إلى حرب كارثية أخرى في الشرق الأوسط» لن يكون أحد في العالم أجمع بمنأى عن تداعياتها.
وفقاً للعقيدة «الترامبية»، كانت الضربة الجوية التي قتلت قاسم سليماني بمثابة تذكير بأن الولايات المتحدة لا تزال القوة العظمى العالمية التي لا غنى عنها. وبذلك، أراد ترامب إثبات أنّ القوة العسكرية والاقتصادية لا تزال أكثر فاعلية من أي شيء آخر، طالما أن أولئك الذين يملكونها على استعداد لاستخدامها.
يلخّص مسؤول حكومي بريطاني نزعة ترامب العسكرية بالقول: «في عهد أوباما، كان الغرب قد نسي قوة الهيمنة المتصاعدة. بمعنى آخر، من يحمل أكبر عصا يحتفظ بهيمنته، طالما أنه مستعد لاستخدامها. أمّا لدى ترامب فحجّة التصعيد بسيطة وتقوم على الآتي: إذا كان الرد على أي عمل عدواني يقوم به خصم أجنبي هو دائماً التراجع من أجل تفادي تصاعد العنف، عندها تضيع الميزة التي تحملها الهيمنة العسكرية والاقتصادية، ما يخلق المزيد من الفوضى».
يرى سياسيون أميركيون أن الدروس الموجّهة من مقتل سليماني، تتناسب مع نظرة ترامب العالمية التي تؤكد الحاجة إلى خطوط حمراء واضحة في ما يتعلق بالمسّ بهيبة أميركا، فضلاً عن الرغبة في تخصيص موارد عسكرية أميركية لفرضها، وبالتالي توجيه رسالة إلى الجميع بأن أميركا عادت كشرطي عالمي، حيث يحاول ترامب استغلال هذا الأمر لفرض «صفقة القرن». يعتقد ترامب أنه بتصرّفاته تلك، عثر على آلية فعّالة لتعزيز المصالح الأميركية، لكنّه لم يثبت بعد أنه أفضل ممن سبقه في حلّ المشاكل الطويلة الأجل التي حدّدها، وربما يزيدها سوءاً.

- حسام مطر

أميركا ــ حزب الله... عسكرة الدولار

0

أصبحت العقوبات من أبرز أدوات السياسة الخارجية الأميركية التي تحتاج لضبط المزيد من المنافسين، لا سيما من غير الدول، بأدوات غير عسكرية مستفيدة من أفضليتها الهائلة في النظام المالي والاقتصادي الدولي. فيمكن للولايات المتحدة أن تبدأ حروباً تجارياً ولا أحد سيقوم بالرد لأنه، بحسب كلمات بيتر نافارو مدير المجلس الوطني للتجارة في إدارة ترامب، «نحن أكبر سوق وأكثرها ربحية في العالم». تندرج العقوبات ضمن ما يسميه الأميركيون استراتيجية «المنطقة الرمادية» (أي بين السلم والحرب التقليدية) ومفهوم «الإرغام من دون حرب»، وكلها تعمل وفق افتراض أميركي أن الوقت يعمل إلى جانب أميركا بمواجهة أعدائها ما عدا الصين.

«رابطة العدل الأميركية» عمل للفنان الألماني أسلان ماليك

ساد الشك لفترة طويلة في فعالية العقوبات ضمن مجال السياسة الخارجية وقدرتها على تحقيق أهدافها. يرى فرانسيسكو غيوميللي (أستاذ جامعي متخصص في العقوبات) أن هذه التقديرات تستند إلى مغالطات تربط النجاح بتغيير المستهدف لسلوكه وهو ما يحصل كي يتجنب المستهدَف تحمّل دفع التكاليف المفروضة عليه بالعقوبات. وتنحصر تقديرات نجاح العقوبات ربطاً بهذا التعريف الضيق بين 5% و 34 % فقط. إن نقطة ضعف هذه المقاربة أنها تقوم على افتراض أن هدف العقوبات ينحصر بتغيير سلوك المستهدف.

أولاً: مقاربة متعددة الغايات
لذلك يطرح غيوميللي ما يسميه المقاربة المتعددة الغايات التي تضمن فهماً أشمل وأعمق للعقوبات وأهدافها. يطرح غيوميللي ثلاث غايات محتملة للعقوبات:
1- إكراه المستهدف على تغيير سلوكه، وهو ما يمثل الفهم الشائع للعقوبات.
2- تقييد قدرة المستهدف على الاشتراك في بعض الأنشطة الموصوفة، خاصة إذا كان من يفرض العقوبات يعتبر أن المستهدف لا يرغب أو غير قادر على تغيير سلوكه. وهنا يمكن أن يكون المراد إما شراء الوقت (مثلاً بانتظار تغيير نظام ما)، أو التوصل إلى تسوية، وإما رفع كلفة إشتراك المستهدف في الأنشطة الموصوفة، أو إجباره على إجراء تغيير مكلف في استراتيجيته.
3- إرسال إشارة قوية إلى المستهدف، وتكون قوتها مرتبطة بالجهة الصادرة عنها وبما تفرضه من تكاليف على المستهدف، وهي عادة ما ترمي إلى وجيه إلى أشارة لأطراف أخرى غير مستهدفة مباشرة إلا أنها تقوم بأنشطة مماثلة لتلك التي لأجلها فُرضت العقوبات على المستهدف. ومن أبرز الإشارات تلك المعرفة ب «سمّي وألحق العار» و «تلطيخ السمعة».

ثانياً: تطور الحرب المالية الأميركية
يقدم كتاب «حرب الخزانة: إطلاق العنان لحقبة جديدة من الحرب المالية» الصادر عام 2013 عرضاً مفصلاً لتطور هذه الحرب انطلاقاً من موقع مؤلفه خوان زاراتي أول مساعد لوزير الخزانة لشؤون تمويل الإرهاب والجرائم المالية بين عامي 2001 – 2005. شنت الولايات المتحدة منذ 2001 نوعًا جديدًا من الحرب المالية غير المسبوقة في قدرتها على التأثير والاختراق. وقد ألحقت هذه «الحرب الخفية» ضررًا شديدًا بالنظم المالية والتجارية لأعداء واشنطن وقيّدت تدفّق الأموال وسبّبت ألمًا حقيقيًا لهم. وقد تنبّه الأميركيون إلى أن «المال هو ما يغذي عمليات المارقين حول العالم، لكنه في الوقت عينه أيضًا يخلق لهم عيوبًا»، فهو بمثابة «كعب أخيل» أعداء واشنطن. ركّزت الحرب المالية على سلوك المؤسسات المالية (مصارف – شركات تأمين) التي هي «أربطة النظام العالمي» وليس العقوبات التقليدية، فمركز الجاذبية هو القطاع الخاص. بالمحصلة أصبحت « كلمة وزارة الخزانة تستطيع أن تحرّك الأسواق».

ثالثاً: تطور العقوبات وقنواتها في حالة حزب الله
بدأت الولايات المتحدة بعد العام 2001 بفرض عقوبات على حزب الله سواء كأفراد ومؤسسات وشركات وجمعيات إما لتبعيتهم لحزب الله أو بزعم أنها تدعمه. وتنقسم هذه العقوبات إلى قسمين: أولاً، القوانين الصادرة عن الكونغرس فهي إما مخصصة لحزب الله بتهم الإرهاب أو الجريمة، وإما تكون موجهة ضد إيران ويذكر فيها الحزب عرضاً. ثانياً، القرارات التنفيذية الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية وهي حوالي 33 قراراً منذ العام 2011. وبحسب مسح للعقوبات الأميركية على حزب الله نفذه المركز الإستشاري للدراسات والتوثيق في العام 2019، يظهر الارتفاع المضطرد لهذه العقوبات لا سيما في ظل إدارة ترامب.
وقد شهد العام 2019 تطورين هامين وهما فرض عقوبات على أعضاء في الكتلة البرلمانية لحزب الله وهو إجراء غير مسبوق، وفرض عقوبات على مصرف «جمّال ترست بنك» بتهم مرتبطة بالعقوبات على حزب الله. وفي شهر تشرين الأول 2019 أعلنت وزارة الخزانة الأميركية عن إطلاق مبادرة «الشراكة الدولية لمواجهة حزب الله» لاستهداف شبكات التمويل الدولي للحزب ومنعه من استغلال النظام المالي الدولي، بحسب إعلان صحافي لوزارة الخزانة.

رابعاً: قانون منع التمويل
أقرّ الكونغرس الأميركي قانوناً بتاريخ 17/11/2015 يرمي إلى حظر التمويل الدولي لحزب الله، وفرض تطبيق قانون العقوبات الأميركية على الأشخاص الذين يرتكبون أو يشاركون أو يتدخلون أو يساهمون في مخالفة أحكامه. وقد حظر القانون على المصارف الأميركية فتح أو الإبقاء على أي حساب وسيط لإتمام معاملات أي مصرف أجنبي تورّط في تبييض أموال لحساب حزب الله أو القيام بأي تحويلات مالية أو تقديم أي خدمات مصرفية تساعد حزب الله في تحويل الأموال. كذلك تشمل هذه الإجراءات المصارف التي تتعامل مع الأشخاص والمؤسسات الواردة أسماؤهم على اللائحة السوداء بتهمة علاقتهم بحزب الله.
وفي 25 تشرين الأول 2018 وقّع ترامب قانوناً جديداً للعقوبات على حزب الله ذي الرقم (1595) بالتزامن مع إحياء البيت الأبيض الذكرى الـ35 لتفجير مقر «المارينز» في بيروت. وربط البيت الأبيض بين العقوبات على الحزب و «إعادة فرض كل العقوبات التي رفعت عن إيران في الاتفاق النووي الفظيع معها بقوة». كما أكد بيان البيت الأبيض أن العقوبات «ستعزل حزب الله عن النظام المالي العالمي وتخفض تمويله».

خامساً: النفاذ من خلال القطاع المصرفي
بما أن حزب الله قوة سياسية مندمجة داخل الدولة اللبنانية والمجتمع، وكونه يستفيد كحركة مقاومة في تسلحه وموارده المالية مباشرة من الجمهورية الإسلامية في إيران، فإنه من العسير إخضاع الحزب وأفراده لعدة أشكال من العقوبات التقليدية الموجّهة لدول مثل الحظر التجاري ومنع السفر وحظر بيع السلاح، والتي إن فرضت فتأثيرها محدود جداً. ولذلك كان الخيار الأميركي التركيز على خوض حرب مالية ضد حزب الله من خلال محاولة عزله عن النظام المصرفي اللبناني والعالمي.
وجد الأميركيون في القطاع المصرفي اللبناني قناة مؤهلة لممارسة الضغط من خلالها على حزب الله. أولاً، بالعموم أصبح لوزارة الخزانة الأميركية قدرة نفاذ إلى «وعي السمعة» للنظام المصرفي العالمي، فحين يصبح أي مصرف أو زبون مشتبهًا، بكلمة من وزارة الخزانة، يتحول إلى «سمعة سيئة مشعّة تلطخ أي جهة يتعامل معها». وثانياً، ليس لحزب الله نفاذ واسع ومصالح متشابكة مع المصارف اللبنانية التي تتبع لمراكز قوى سياسية ومالية بعيدة عن الحزب. وثالثاً إن أهمية القطاع المصرفي اللبناني في النظام الاقتصادي اللبناني يجعله «كعب أخيل» الذي يمكن من خلاله ابتزاز الدولة اللبنانية والقطاع الخاص.
شكّل تصنيف واشنطن للبنك اللبناني الكندي عام 2011 رسالة لكل النظام المصرفي اللبناني والنخبة السياسية والاقتصادية اللبنانية أن الولايات المتحدة تفتتح مرحلة جديدة في لبنان. على إثر ذلك سارع المصرف المركزي والبرلمان اللبناني إلى تطوير تشريعات وقرارات وتعاميم حول مكافحة تبييض الأموال لاستيعاب الهجمة الأميركية، وتطوير دور هيئة التحقيق الخاصة.

سادساً: تحليل العقوبات وأثرها
يمكن إيجاز الأهداف العملية للعقوبات على حزب الله بالآتي: محاولة تجفيف موارده، وعزله عن النظام المالي والمصرفي، وإخافة القطاعات الخاصة التي يحتمل أن يعمل معها الحزب، والضغط على بيئته اللبنانية الحاضنة وإيجاد شرخ معها، ومحاولة ضبط قدرته على التحرك حول العالم حتى على المستوى السياسي، والحد من تحويلات المغتربين الشيعة واستثماراتهم في لبنان، امتلاك أداة ضغط يمكن استخدامها للتهويل والمساومة عند الضرورة، وضبط التوازنات اللبنانية، ومحاولة تقييد اندماجه في البنى الرسمية للحكومة اللبنانية.
ولكن إلى أي مدى تحقق العقوبات نجاحاً ضد الحزب. هنا سيرتكز التقييم على «المقاربة المتعددة الغايات» أي على التغيير بالإكراه والتقييد وإرسال الإشارة. على مستوى التغيير بالإكراه، من الواضح أن العقوبات لن تكون قادرة على دفع الحزب بعيداً عن أجندة المقاومة التي هي جوهر هوية حزب الله. والثمن الذي يدفعه حزب الله جراء هذه العقوبات لا يزال أقل بكثير من دفعه لتغيير سلوكه المقاوم كما ترغب واشنطن. وتعود محدودية هذا الثمن إلى كون المصادر المالية لحزب الله مرتبطة بمعظمها بإيران ولعزلة حزب الله عن القطاع المصرفي اللبناني.
من الواضح أن الولايات المتحدة تدرك محدودية العقوبات في إحداث مثل هذا التغيير ولذا ينبغي أن ننظر للغايات الأخرى أيضاً. الغاية الثانية المحتملة هي التقييد، وبالتحديد رفع كلفة بعض أنشطة حزب الله للحد منها وضبطها أو إحداث تغيير غير مرغوب في استراتيجية الحزب. من خلال العقوبات الأميركية قد تتراجع بعض موارد الحزب ولو بشكل ضئيل وهو ما يدفعه لتقليص جزء من أنشطته أو التوسع في سياساته. كما تحرص العقوبات الأميركية على استهداف رجال أعمال مقربين من الحزب وربما من أعضائه سواء بسبب مشاريع داخل لبنان أو خارجه (مثل العراق) بذريعة أن هؤلاء يقومون بدور واجهة للحزب أو يمولونه بالتبرعات.
تراهن واشنطن أن تؤدي هذه الإجراءات برجال الأعمال الشيعة إلى أخذ مسافة عن حزب الله وكذلك الحذر من القيام بمشروعات في المناطق الشيعية أو الإنفاق في أعمال خيرية خوفاً من استغلال واشنطن لذلك ورميهم بشبهة العمل مع حزب الله أو من أن تقوم المصارف اللبنانية بمنعهم من فتح حسابات من باب الحذر. وهذا الأمر يمثل ضغطاً على البيئة الحاضنة لحزب الله التي ستخسر العديد من الاستثمارات والمصادر المالية وفرص العمل التي لن يكون الحزب قادراً على تعويضها. يعتقد الأميركيون أن هذه الأمور ستقيد حرية العمل لحزب الله داخل البيئة الشيعية وعلى جمع التبرعات والأموال الشرعية من رجال الأعمال وبالتالي ستتقيد قدرته على تقديم مزيد من الخدمات الاجتماعية التي تُعتبر أحد مصادر نفوذه وقوته.
كما أن العقوبات على المصارف اللبنانية مع إمكانية لتطبيق تفسيرات متشددة لها تراها واشنطن أدوات تعزز من ضغط المصارف على حزب الله وبالتالي تقيد قدرة حزب الله على محاولة إصلاح النظام المالي والاقتصادي اللبناني الذي يؤدي بصيغته الحالية إلى استتباع لبنان للولايات المتحدة والمؤسسات الدولية. كما تسعى واشنطن من خلال شمول العقوبات لنواب حزب الله في البرلمان اللبناني لتقييد دخول حزب الله إلى الدولة اللبنانية والاندماج فيها وهذا برز خلال تشكيل الحكومة اللبنانية الحالية حيث امتنع حزب الله عن تسمية وزير حزبي لمنصب وزير الصحة تجنباً لضغوط أميركة ضد وزارة الصحة.
الغاية الثالثة هي إرسال إشارة تستهدف الجمهور الشيعي واللبناني والعربي وذلك بهدف عزل الحزب، إما بالخوف أو بتلطيخ سمعته. فيما يتعلق بتلطيخ السُمعة ارتبط الكثير من العقوبات على حزب الله إما بادعاءات حول أعمال إجرامية مشينة مثل تجارة المخدرات وغسيل الأموال وعلاقات مع كارتيلات المخدرات في أميركا اللاتينية وإما تحت عنوان مشاركة حزب الله في الحرب السورية (دعم نظام الأسد الذي يمارس العنف على الشعب السوري كما يرد في النص) أو دعم أنصار الله في اليمن. وترتبط الادعاءات هنا بممارسات تتناقض مع قيم حزب الله الثورية والدينية بما يؤدي بالجمهور المؤيد لحزب الله إن صدّق تلك الادعاءات إلى النفور من الحزب وقضيته أي تقليص مشروعيته. مثلاً إن فرض عقوبات ربطاً بمشاركة حزب الله في الحرب السورية هو إشارة للجمهور العربي والإسلامي لترسيخ التأطير «الإرهابي والطائفي» لحزب الله.
أما فيما يتعلق بإرسال إشارة لنشر الخوف فتبرز من خلال شمول العقوبات لعدد كبير من رجال أعمال ومصرفيين لبنانيين وعدد من نواب حزب الله. فالجمهور المستهدف بشكل خاص هنا هم رجال الأعمال الشيعة تحديداً والقطاع الخاص والدولة اللبنانية. وتسعى واشنطن لعزل الحزب ورجال الأعماله المقربين منه عن الشبكات التجارية والمالية والحد من التحويلات المالية للمتمولين الشيعة نحو المجتمع المحلي. وكذلك إخافة القطاع الخاص والقطاع المصرفي من العمل مع أي رجل أعمال عليه شبهة الاتصال بحزب الله أو حتى من الطائفة الشيعية. ومؤخراً بدأ الخطاب الأميركي، التلويح بشمول العقوبات حلفاء الحزب السياسيين بمن فيهم من هم داخل الدولة اللبنانية. فالعقوبات على نواب حزب الله كانت إشارة إلى حلفاء الحزب داخل الدولة اللبنانية أنهم لم يعودوا محصنين من العقوبات. وتفترض واشنطن أن هذه الإشارات من شأنها تعزيز موقع حلفائها المحليين في لبنان بوجه حزب الله بالرغم من تراجعهم الداخلي وكذلك تضعف تحالفات الحزب الداخلية وتقلل من قدرته على المناورة.
أما على صعيد تقييد الحزب وإرسال الإشارات يمكن القول إن العقوبات الأميركية فعالة بنسبة ما من الصعب تقديرها الآن. وهذه الفعالية مرتبطة بكونها أداة غير مكلفة للولايات المتحدة، وأنها من أفضل البدائل الممكنة والمتاحة، كما أنها مركّب من ضمن استراتيجية أوسع للولايات المتحدة تشتمل على عناصر سياسية ودبلوماسية وأمنية وإعلامية وثقافية. لكن هذه الفعالية يمكن للحزب أن يتكيّف معها من خلال التعلّم والمناورة ولا سيما مع مرور الوقت. فضلاً عن أن الولايات المتحدة تعاني من اضطراب استراتيجيتها تجاه المنطقة ولبنان، ومن غياب استراتيجية بحد ذاتها أحياناً، ومن سطوة اللوبي الإسرائيلي على الأجهزة الأميركية المعنية بالعقوبات (مثل وزارة الخزانة، لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس). يضاف لما تقدّم سوء استخدام العقوبات من خلال عدم وضوح معاييرها والتركيز على كم الأشخاص المشمولين بالعقوبات.

خاتمة
هذا الاستخدام المفرط للعقوبات يهدد بتقويض تأثيرها على المدى البعيد وذلك من خلال ميل الدول لتقليص روابطها مع الاقتصاد الأميركي وتكيّف أعداء واشنطن مع تقنيات الحرب المالية، وتكتل المتضررين لإضعاف الضغط المالي الأميركي. ويتيح استخدام العملات والتكنولوجيات الجديدة فرصاً ناشئة لتحدي العقوبات المالية الأميركية. ولذا يحذر «زاراتي» من أن واشنطن إذا فشلت في الاستجابة لما يقوم به الآخرون على مستوى الحروب المالية فإنها تخاطر بأن تُترك مكشوفة ومتأخرة عن المنافسين في السباق نحو المستقبل».
أما من ناحية حركات المقاومة فهي أمام تحد من نوع مختلف لم تعتد عليه، ويفرض عليها قيوداً ومخاطر مستجدة. فحركات المقاومة تعاني سلفاً من الفجوة المادية مع منظومة الهيمنة الأميركية، وتتزايد احتياجاتها المادية نظراً لتوسع الصراع نحو مجالات جديدة مثل المجال التكنولوجي وتتزايد مسؤولياتها الاجتماعية في سعيها لتجذير مشروعيتها الشعبية. هذه الحركات لا تزال في طور التكيف والتعلم من هذه الحرب المالية، ولكنها ليست وحيدة في هذا المسعى بل تتشارك هذا الموقف مع أعداد متزايدة من الدول والجهات والمنظمات. وفي ظل تزايد الضغوط المالية عليها تحتاج قوى المقاومة إلى أن تعزز مصادر المشروعية التي لا تعتمد على المال كتطوير أدائها السياسي والانخراط في مشروع بناء دول وطنية وتعزيز صورتها الأخلاقية وإقناع الناس بقضيتها. أما مالياً فهي بحاجة لتقنيات واستراتيجيات معقدة منها على سبيل المثال تنويع مصادر أموالها وتعزيز القنوات الخفية والاستفادة من عالم الإنترنت والتكنولوجيا في التبادلات. الإفراط في استخدام الدولار كأداة إكراه، بدل القوة العسكرية، يمكن أن يحوّله «كعب أخيل» الإمبراطورية إن استسلمت لاغواء مكاسبه الآنية غير الحاسمة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 29 / 2184089

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2184089 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40