السبت 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

«فلسطين بالروح والدم»: رد الجمهور المصري على ترامب

محمد عبد الحكم دياب
السبت 23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

لو أخلص الرئيس دونالد ترامب وتفانى في خدمة المصالح الأمريكية كتفانيه من أجل الأساطير الصهيونية عن الحق الإلهي المزعوم في أرض الميعاد، والذي اتخذ مبررا لاغتصاب أرض فلسطين، والاستناد إليه في حشد القوى المتطرفة والعنصرية، بشكل سمح للحركة الصهيونية بتنظيم الهجرات غير الشرعية، وانتزاع فلسطين من أصحابها الحقيقيين وبناء المستوطنات عليها.. لو حدث منه ذلك لكان حال كوكبنا الأرضي مختلفا.. وقد ساعدت طول مدة الاحتلال في مصر، وقبضة الانتداب على فلسطين، وزيادة الهيمنة الاستعمارية في باقي «القارة العربية»؛ الممتد من حدود إيران شرقا إلى المحيط الأطلسي غربا؛ كلها ظروف ساعدت على وجود عناصر يهودية ارتبطت بجماعات عربية وإسلامية؛ تخلت من ارتباطاتها الأخوية والإنسانية، وانحازت للمشروع الصهيوني وسارت في دربه حتى النهاية.
وتمكنت تلك «العناصر النائمة» من النفاذ إلى السلطة والثروة والقوة العسكرية، ومن الإمساك بمفاتيح السياسة والاقتصاد والمال، واستطاعت الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأراضي العربية، ومدت هيمنتها إلى كل المجالات، وساعدت في هدم منظومة القيم الوطنية والأخلاقية المستقرة منذ زمن بعيد، وصار الإضعاف الشامل والممنهج هو النتيجة الطبيعية لذلك الواقِع المختل، وشغل كثيرون من تلك العناصر مناصب نافذة في سلم الإدارات السياسية والتنظيمية في الدول العربية المستعْمَرة والمحتلة والمحميات، وكانت فلسطين صيدا ثمينا، فتم قنصه واغتصابه أمام أعين العالم أجمع، ووصلت الأحوال إلى ما هي فيه الآن من تردٍ.
وعلى الرغم من هول ذلك الواقع مر العرب بفترات؛ عقب الحرب العالمية الثانية، وبداية منتصف القرن العشرين، كانت تبشر بتحرير فلسطين، بعد خروج الاحتلال البريطاني من مصر. واشتعال حرب التحرير الجزائرية، ثم انتصارها على الاستيطان الفرنسي بعد مئة وثلاثين عاما، وكان أشبه بالاستيطان الصهيوني في فلسطين، وحققت حركات المقاومة إنجازات ملموسة؛ زادت حجم التفاؤل بالتحرير والعودة، واستكمال تطهير باقي الأراضي العربية المحتلة قبل 1967 وإزالة آثار العدوان وما تم احتلاله بعدها، وكان تأثير المقاومة واستبسالها في معركة «الكرامة» مؤشرا لإمكانية التحرير، ولو على مراحل.
وسرعان ما بدأت الموازين في الاختلال بعد انقلاب السادات في أيار/مايو 1971، وتسبب في تسلل الثورة المضادة، وأخذت في استعادة مواقعها تدريجيا، ووظفت نصر 1973 العسكري لصالح ذلك الهدف، وجاءت الطفرة التي حدثت لأسعار النفط، كسلعة استراتيجية، فعززت السياسات المضادة، وشغلت العرب، بالصراعات والحروب الطائفية والمذهبية؛ الأهلية والبينية، ووجدت «العناصر النائمة» البيئة المناسبة لعملها ونشاطها، وأطلت أول فتنة طائفية في تاريخ مصر؛ أطلت برأسها من منطقة «الخانكة» القريبة من القاهرة عام 1972، وبسرعة تسللت الأفكار الطائفية والمذهبية والانعزالية والمناطقية إلى العقل العربي والإسلامي ومنه العقل المصري، وكانت هذه فرصة واتت ثعلب الحركة الصهيونية ووزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر، فرصة لأول زيارة له لمصر 1973 بعد شهر من وقف إطلاق النار على الجبهتين السورية والمصرية مع العدو الصهيوني، وبدأ في تطبيق سياسته الجديدة المعروفة بـ«الخطوة خطوة»؛ حسب تعبيره، وكما اتجهت أنظاره إلى مصر وإبعادها عن سوريا؛ اتجهت كذلك إلى المقاومة الفلسطينية والعمل على حصارها وخنقها؛ أيا كانت مسمياتها؛ وطنية.. عربية.. إسلامية.. أممية؛ مادامت مؤيدة للحق ومنتصرة للعدل، وعاملة على التحرير وتحقيق السلام الحقيقي القائم على العدل.

دائما ما تثبت القضية الفلسطينية إنها أكبر من التصفية، وإنها مستقرة في عمق الوجدان العربي والإنساني كأعدل قضية مرت على البشرية طوال تاريخها، ورغم الأبواب والنوافذ المغلقة، وقنوات وسائل التعبير والرأي المسدودة

وكانت لسياسة كيسنجر توابع وتداعيات أثرت على ميزان القوى العالمي، خاصة بعد زيارة السادات للقدس المحتلة في مثل هذا الشهر عام 1977، وما تبعها من توقيع «اتفاقية السلام» مع الدولة الصهيونية، وتنفيذ مخطط عزل مصر، ولولا نجاح ذلك المخطط لكان وضع العالم وليس الوضع الفلسطيني أو وضع عموم «القارة العربية» أفضل مما هو عليه الآن، وسقط الاتحاد السوفييتي، وقُسِّمت يوغوسلافيا، مع ما أضيف إليها من إنتكاسات، وتربعت أمريكا على عرش العالم كقوة لا تُنازع. وسيطر عليها غرور القوة، وباشرت العمل في مخطط تصفية القضية الفلسطينية تفكيك «القارة العربية»؛ وصولا لهدف التدمير الشامل لها وشطبها من خريطة العالم؛ مسترشدين بتجربتهم في إبادة الهنود الحمر؛ إشعلوا بينهم الفتن والحروب الأهلية والصراعات البينية، ووصلت حالتهم البائسة درجة اللجوء لأعدائهم، وإلى من ورطوهم وصنعوا لهم المآزق والأزمات، وطلبوا تدخلهم ووساطاتهم، وهي حالة من النادر أن يكون لها مثيل، وأساءوا لأنفسهم ولأصدقائهم، الذين انفضوا عنهم.
ودائما ما تثبت القضية الفلسطينية إنها أكبر من التصفية، وإنها مستقرة في عمق الوجدان العربي والإنساني كأعدل قضية مرت على البشرية طوال تاريخها، ورغم الأبواب والنوافذ المغلقة، وقنوات وسائل التعبير والرأي المسدودة؛ فوجئت سلطات الدولة وأجهزة الأمن المصرية كعادتها، بخروج المتظاهرين في 20 أيلول/سبتمبر الماضي، في عدد من المحافظات على غير المتوقع، ونفس المفاجأة حدثت مع جماهير الكرة المصرية غير المسيسين، الذين لم ينسوا في غمرة فرحتهم بتأهيل الفريق الوطني لكرة القدم للدورة الأولمبية في طوكيو العام القادم ؛ لم ينسوا فلسطين فرفعوا أعلامها وهتفوا لها «بالروح والدم نفديك يا فلسطين»!!
وسرعان ما نشرت وكالات الأنباء المحلية والعربية والعالمية الأخبار عما جرى من الجماهير المصرية في مباراة المنتخب الوطني ومنتخب جنوب إفريقيا، ودوت الحناجر تهتف وتؤيد فلسطين؛ في رفض الإجراءات المتخذة من واشنطن وتل أبيب، وارتفعت الأعلام الفلسطينية ورفرفت في سماء الاستاد، الثلاثاء الماضي في مخالفة واضحة لموقف الدولة، التي أغلقت أذنيها وأغمضت عينيها عما يجري على حدودها الشمالية الشرقية مع فلسطين، وهي الحدود التاريخية الثابتة، وسلمت بالأساطير الصهيونية؛ المقدسة زورا وبهتانا، تبريرا للاغتصاب والإبادة الجماعية والتهجير القسري.
ومنذ التزام السادات، ومن بعده الرئيس المخلوع حسني مبارك، ورئيس المجلس العسكري الأسبق المشير حسين طنطلوي، والرئيس المؤقت عدلي منصور، والرئيس المعزول الراحل محمد مرسي، و«المشير» عبد الفتاح السيسي، كل هؤلاء ساروا على درب التسليم بهذه الأساطير، والتزموا بالسياسات المعبرة عنها، ولم يجرؤ أحدهم على تناولها أو الحديث عنها!!.
وفي غمرة الدهشة المصاحبة لمفاجأة الجمهور المصري؛ صدر بيان مشترك موقع من خمس دول أوروبية؛ ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبلجيكا وبولندا أكدت فيه موقفها الثابت من الاستيطان الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك الموقف من القدس، ووصفته بأنه «واضح ولم يتغير»، وأقر البيان بأن «كل نشاط استيطاني هو غير شرعي بموجب القانون الدولي، ويقوض إمكانية حل الدولتين وأفق السلام الدائم… ندعو (إسرائيل) إلى وقف كل الأنشطة الاستيطانية».. وبدا ذلك بمثابة رد على التطور الخطير لموقف الإدارة الأمريكية بشأن الاستيطان الصهيوني غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة.. وقد استفز ذلك جامعة الدول العربية، فدعت لاجتماع طارئ في القاهرة للبحث في موقف الإدارة الأمريكية بشأن الاستيطان غير القانوني في «دولة فلسطين المحتلة عام 1967» وهي المرة الأولى في حدود علمي التي تستخدم فيها الجامعة العربية صفة «دولة» للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967».



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 41 / 2184624

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

12 من الزوار الآن

2184624 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40