السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

حرب «الجهاد» الفلسطيني

عبد الحليم قنديل
السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

بدت جولة الصدام الأخير خاطفة، وانتهت «حرب اليومين» بين إسرائيل و»حركة الجهاد الإسلامي» الفلسطينية، وجرى التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار برعاية مصرية رسمية، ومن دون أن تنهي حركة الجهاد سعيها للأخذ بثأرها الجديد، فقد اغتالت إسرائيل المجاهد بهاء أبو العطا، وهو واحد من أبرز قادة «سرايا القدس» الجناح العسكري للحركة، كما فقدت في العدوان الإسرائيلي عددا آخر من القياديين، إضافة لعشرات من المدنيين الفلسطينيين، وردت الحركة بإطلاق مئات رشقات الصواريخ، لم تنجح قبة إسرائيل الحديدية في التقاط سوى أقل من نصفها، وأثارت الصواريخ الناجية فزعا هائلا، أصاب نصف سكان كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وانتهى إلى إصابة عشرات الإسرائيليين نفسيا وجسديا، بالشظايا والتدافع المذعور إلى الملاجئ، وشلّ مظاهر الحياة في مدن إسرائيلية كبرى وصغرى على مدى يومين.
ومن الظلم، أن نطلب من «حركة الجهاد» أكثر مما فعلت في يومي الصدام المفتوح، وقد خاضت المعركة وحدها تقريبا، وفي مواجهة غارات الطيران الإسرائيلي المكثفة، ونجحت في إعادة ضبط قواعد الاشتباك مع العدو، وتثبيت قاعدة «النار بالنار»، حتى إن لم تنجح إلى تاريخه في قتل إسرائيلي واحد، لا من العسكريين ولا من المستوطنين، وهو ما لا نظن أن الحركة ستتوقف عنده، فلديها وسائل وأساليب أخرى، غير رشقات الصواريخ، وربما تلجأ إلى عمليات استشهادية، وعلى مسرح متسع، من جوار غزة إلى الضفة والقدس والأراضي المحتلة في حرب 1948، أخذا بثأر كل شهيد فلسطيني، وأخذا بثأر الشهيد أبو العطا ورفاقه.
وحركة «الجهاد الإسلامي» معروفة بمواقفها المبدئية الصارمة، وهي لا تفعل أبدا غير ما تقوله، ترفض الاعتراف على أي نحو بأي «شرعية» مدعاة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وتنطلق من قواعد الحق في تحرير فلسطين بكاملها، وتداوم على رفض «اتفاقية أوسلو» ونتائجها، ولا تشارك في جولات انتخابات السلطة بأي من صورها، ومن دون أن تتورط في أي صدام مسلح مع أي فصيل فلسطيني، ولا أن تشغل بالها بتطورات تجري في أي بلد خارج فلسطين، فالقضية الفلسطينية عندها، هي القضية المركزية الأولى للإسلام والعالم الإسلامي، واختيارات الشعوب العربية في السياسة والاقتصاد لا تخصها، ولا تقترب «الجهاد» ولا تبتعد عن أي حركة عربية أو إسلامية، إلا بقدر اقترابها أو ابتعادها عن أولوية المقاومة الفلسطينية وكفاحها المسلح.

خاضت الجهاد الإسلامي المعركة وحدها تقريبا، ونجحت في إعادة ضبط قواعد الاشتباك مع العدو، وتثبيت قاعدة «النار بالنار»

ورغم أن «حركة الجهاد» سنية بطبائع التكوين الفلسطيني، إلا أنها لا تغرق نفسها في خلافات المذاهب، وتراها عبثا وعبئا، ولا يهمها غير مبدأ المقاومة لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وكان ذلك مدخلا لعلاقتها المميزة مع ثورة الخميني الإيرانية، وتوثيق الصلات إلى اليوم مع الدولة الإيرانية، وتلقي العون والمدد الفني والتسليحي من طهران، وعلاقات «العروة الوثقى» مع حزب الله اللبناني حليف إيران الأول، ومن دون التوقف عند شيعيته، بل استلهام تراثه الحافل في حروب المقاومة الناجحة، وكان مؤسس الحركة فتحي الشقاقي، الذي اغتاله «الموساد» الإسرائيلي قبل ربع قرن في «مالطا»، كان الشقاقي قوميا عربيا في شبابه الباكر، وأتيح له التواصل مع جماعة «الإخوان» أثناء دراسته الجامعية في مصر، لكنه لم يجد عند «الإخوان» ما يرضي طموحه، وكان عظيم الانفعال بالثورة الإيرانية، التي خلعت الشاه عام 1979، وأنهت اعتراف إيران بإسرائيل، واعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان الشقاقي وقتها يكتب باسم مستعار في مجلة دينية مصرية اسمها «المختار الإسلامي»، وامتازت كتاباته وقتها بشاعرية متدفقة، وبولع ظاهر بالنهج الجديد لثورة إيران، وعمل في الوقت نفسه على تأسيس نواة حركته، التي حملت في ما بعد اسم «حركة الجهاد الإسلامي» في فلسطين، وظل تأثيره طاغيا عند من خلفه في قيادة الحركة، من طراز رمضان شلح وزياد النخالة القائد الحالي، وكلاهما يشبه الشقاقي في الولاء لمبدأ المقاومة المسلحة أولا، والابتعاد تماما عن الممارسات البراغماتية، التي قلصت مصداقية حركات مقاومة أخرى تنتسب إلى معنى التيار الإسلامي المقاوم، وتنأى بنفسها عن جماعات الإرهاب التكفيري، المشغولة بتدمير بلاد العرب، لا الحرب ضد إسرائيل.
ورغم ما هو معروف من توثق صلات حركة الجهاد بإيران، فإنها لم تتورط أبدا في صدام أو تناقض مع المحيط العربي لفلسطين، فقد جرى ما جرى في سوريا، من ثورة سلمية أحالوها إلى حرب كافرة، أهلكت الحرث والنسل، ومن دون أن تتورط حركة «الجهاد» في موقف يحسب عليها، ولا حتى بكلمة، رغم تورط حليفها الأوثق (حزب الله) في حرب إهلاك سوريا والسوريين، وكان للحركة الموقف ذاته، مما جرى بعد ثورة مصر، وصولا إلى عزل الرئيس الإخواني المرحوم محمد مرسي، وحافظت الحركة دائما على صلات قربى تنفع الفلسطينيين وتحمي المقاومة، ولعبت حركة الجهاد دورا كبيرا في تليين العلاقات بين حركة «حماس» والسلطات المصرية، وقد لا نبالغ إذا قلنا، إن حركة الجهاد تحظى بتقدير خاص عند الجهات المصرية الرسمية المختصة بمتابعة الملف الفلسطيني، رغم البون الشاسع في سياسة الطرفين، فالسلطات المصرية ملتزمة رسميا بما يسمى «معاهدة السلام» مع إسرائيل، وتتبادل العلاقات معها، بينما حركة الجهاد ترفض وجود إسرائيل، من حيث المبدأ، لكنها ترفض أيضا أي تدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة عربية، وربما ذلك هو ما يجعل علاقتها بالآخرين أكثر سلاسة ووضوحا واستقامة، فالقاعدة العامة في تاريخ حركات المقاومة ضد كيان الاغتصاب الإسرائيلي، هي أن أي حركة تنجح، بقدر ابتعادها عن أي موضوعات أخرى، وبقدر تركيزها على عملها المقاوم دون سواه، وكانت شعبية «حزب الله» هائلة عربيا، وقت أن كان منشغلا بالحرب ضد إسرائيل لا سواها، ثم تآكلت شعبيته في المشرق العربي بالذات، بعد تورطه في الحرب السورية إلى جوار جماعة بشار الأسد، كما كانت شعبية «حركة حماس» في أعلى ذراها، وقت أن كان عنوانها الوحيد هو «عملياتها الاستشهادية» ضد إسرائيل، ثم تعرضت شعبيتها للضمور بسبب ارتباطاتها الإخوانية العامة، وهو ما قد يعود عليها بالسلب، في أي انتخابات فلسطينية مقبلة، لا تشارك فيها «حركة الجهاد»، التي تبذل غاية جهدها في صيانة مبدأ المقاومة المسلحة، وتربية أجيال على حلم وهدف استعادة فلسطين بكاملها من النهر إلى البحر.
ومبدئية حركة الجهاد وحدها، هي التي تجعلها في وضع العدو الفلسطيني الأكثر شراسة لإسرائيل، وتجعل قادتها الهدف الأكثر تفضيلا لحملات الاغتيال الإسرائيلية، وكان الشهيد بهاء أبو العطا مثالا ناصعا، ولم يكن التمهيد لاغتياله سرا، بل كان هدفا معلنا في تقارير سرية وعلنية نشرتها الصحافة الإسرائيلية، كان أبو العطا هو المطلوب الفلسطيني رقم واحد، فهو الذي أذل نتنياهو في قمة نشوته، حين كان يخاطب الجمهور الإسرائيلي من منصة خطابة في مدينة «أسدود» المحتلة قبل شهور، كان بنيامين نتنياهو ـ رئيس وزراء العدو ـ يسعى لفوز حاسم في الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، وكان يعلن مزهوا وعده للإسرائيليين، بضم منطقة غور الأردن نهائيا لإسرائيل حال فوزه، وعودته مظفرا منتخبا لرئاسة الوزراء، وفي لحظة النشوة بإطلاق الوعد المتبجح، تقدم الحراس الغلاظ من نتنياهو، وسحبوه إلى مخبأ مجهول، خوفا من أن تناله شظايا رشقة صواريخ أطلقت من غزة، كان أبو العطا هو الآمر بها، وفي التوقيت الانتخابي القاتل لطموح نتنياهو، الذي لم يحقق الفوز الذي أراده، وفشل في تأليف حكومة ائتلافية منتخبة جديدة إلى اليوم، ولأسباب عديدة، بينها روائح فساده الشخصي، التي تزكم الأنوف، وأظهرها ضربة «أبو العطا» الصاروخية، التي استثمرها خصوم نتنياهو الإسرائيليون على نطاق واسع، وسخروا من هروبه المذعور وقت الضربة المحكمة التوقيت، وهو ما يفسر رغبة نتنياهو وطاقمه المحمومة في الانتقام من «أبو العطا» بالذات، بعد استعدادات عسكرية ومخابراتية مكثفة على مدى ثلاثة شهور، انتهت إلى اغتيال أبو العطا وزوجته داخل منزلهما في غزة، ثم إلى حرب اليومين التي دارت رحاها، وراح ضحيتها عدد آخر من رفاق أبو العطا، إلى جوار عشرات المدنيين والنساء والأطفال الفلسطينيين، ولكن من دون تدمير البنية الأساسية لمقاومة «حركة الجهاد»، التي تزيد قوتها الفعلية والمعنوية بارتقاء الشهداء، فالحركة هي ابنة مقولة «الدم الذي يهزم السيف»، ومن وراء كل شهيد يذهب إلى الحياة الأبقى، تتقدم قوافل القادة الموهوبين للشهادة، ليس فقط من أجل الثأر لأبي العطا وتابعيه، بل من أجل تحرير فلسطين، وهو هدف يبدو بعيدا ومستحيلا، إلا في عيون وقلوب المؤمنين بنصر الله لجنوده المؤمنين بالحق الفلسطيني الكامل، الذي لا يقبل القسمة ولا التجزئة ولا التسويات المذلة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2184525

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184525 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40