السبت 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

وعد بلفور وديون مصر ومحفزات الحراك المقبل

محمد عبدالحكم ذياب*
السبت 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 2019

يصادف اليوم (السبت) الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني الذكرى الثانية بعد المئة لوعد بلفور؛ أخطر مراحل المشروع الصهيوني، حيث «أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق». ومَثَّل حجر الزاوية في تأكيد نشأة كيان استيطاني غير شرعي على أرض فلسطين، وبعيدا بعض الشيء عن الحراك الشبابي، الذي نتناوله لأسابيع؛ بالتركيز على الساحة الأكبر والأكثر تأثيرا؛ إيجابا وسلبا، وأحد أسباب التناول هو أهميتها وموقعها الجيو سياسي المتميز؛ إنها ساحة مصر.
ونظرة سريعة على ما طرأ عليها فنجدها بعيدة عن القوى الإقليمية الصاعدة والطموحة والمتنافسة، رغم اختلاف التوجهات والعقائد، وكل من هذه القوى يبحث عن دور له في صياغة النظام الإقليمي الجديد، هذه القوى مجسدة في إيران وتركيا وأثيوبيا، ومصر بعيدة عنهم كل البعد، ولصيقة بحميمية بالغة مع الدولة الصهيونية؛ وهي الكيان الأكثر شذوذا عن البقية، ويعود ذلك لطبيعة تكوينه المُصَنَّع والمصطنع وغير المشروع، وتعرضه للاختفاء في أي لحظة إذا ما تغيرت الموازين، وانفض عنه السامر العربي والإسلامي «المصهين» في شبه الجزيرة العربية والخليج ومصر؛ الذين ربطوا وجودهم ببقاء المشروع الصهيوني.
وحين احتفلت بريطانيا منذ سنتين بمرور مئة عام على ذلك الوعد الباطل، طالبت الفصائل والمؤسسات الفلسطينية من رئيسة وزراء بريطانيا السابقة تريزا ماي تقديم اعتذار عن هذه الجريمة، إلا أنها أكدت فخرها بذلك الوعد البائس. وكان الرئيس الفلسطيني أبو مازن قد أثار قضية الوعد في الأمم المتحدة، (سبتمبر 2017)؛ مطالبا بريطانيا بتصحيح ما وصفه بـ «الخطأ الفادح»، وتجاهلته ماي واستمرت على موقفها.
وقبول مصر «الرسمية» بوجودها بين كتلة عربية وإسلامية «مصهينة»؛ لشيء مشين، أفقدها وزنها التاريخي وثقلها الحضاري، وكان للقضية الفلسطينية أولوية مطلقة على جدول أعمالها الوطني؛ ضمن «استراتيجية تحرير كامل التراب العربي» التي التزمت بها مصر إبان مرحلة الثورة، وقد انتهت من سبعينيات القرن الماضي.
والحقيقة، إنه بعد هزيمة 1967؛ زاحمت أولوية «إزالة آثار العدوان» هدف تحرير فلسطين، ومن حلوا بعد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر جعلوا من الانشغال المؤقت بإزالة آثار العدوان موقفا ثابتا ودائما، وتحولوا إلى وسطاء، وتدنوا بالوساطة، إلى قبول حمل الرسائل، ودور ساعي البريد. وفي أحسن الأحوال عملوا بالقطعة، ومنفذين لمن يحركهم في واشنطن وتل أبيب.
ويمكن الربط بين وعد بلفور وبين ما يجري على أرض الواقع في مصر، فذلك الوعد كان بداية التنفيذ الفعلي لـ «المشروع الصهيوني»، وما يتم الآن هو ترسيخ مخطط عزل مصر، وإتمام إبعادها عن العرب وعن أي دور إقليمي أو عربي ودولي، وقد تماهت سياستها مع سياسة أعدائها، وشغلت «الذات الحاكمة» نفسها في جمع وتبديد أكبر كم من الأموال، وتحولت إلى أعمال المقاولات لتشييد القصور والمنتجعات والعاصمة الجديدة؛ تكلفت مرحلتها الأولى نحو 50 مليار دولار. وتصل تكلفتها النهائية 300 مليار دولار. وماذا كان يضير لو صُرف ربع هذه الأموال الطائلة على التصنيع والإنتاج والاستزراع وتشغيل العمالة العاطلة، وتدريبها ورفع مستوى المعيشة المنهار، ووضع حلول لمعضلة التعليم المتدني، ولأزمات الرعاية الصحية المتردية.

بعد هزيمة 1967 زاحمت أولوية «إزالة آثار العدوان» هدف تحرير فلسطين، ومن حلوا بعد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر جعلوا من الانشغال المؤقت بإزالة آثار العدوان موقفا ثابتا ودائما

كم عدد المدارس والمعاهد والمستشفيات والمصحات، التي كان يمكن بناؤها وافتتاحها في السنوات الخمس الماضية، والغريب أنهم يضفون على هذا التبديد مُسمى إنجازات، بدون خجل من استجداء القروض، وتراكم الديون، وقد أضحت أكبر من طاقة الدولة على السداد، ومع ذلك تصر على القبول بالقيود والشروط التي يضعها الدائنون، وأخطرها شروط «صندوق النقد الدولي»، الذي ما أقرض بلدا إلا خَرُبت وأُفلِست ودُمرت وقُسمت، ووصلت المبالغ المطلوبة لخدمة للديون فقط، وليس تسديدها لأرقام فلكية، ومع ذلك يتم التفاوض مع «الصندوق» على قروض جديدة؛ تغطي خدمة الديون السابقة والحالية، وكأن كل هذه الأموال والقروض والمساعدات تُلقى في بئر بلا قرار.
ودروس التاريخ تخبرنا بأن الخديوي إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قد ورث عن سلفه سعيد باشا ديوناً قدرت بنحو 18 مليون جنيه، وورطة شرطين بالغي القسوة؛ نص عليهما عقد امتياز شركة قناة السويس؛ الأول شرط توفير عمال بالسُّخْرة في حفر القناة، وحفر ترعة تزود منطقة القناة بمياه عذبة، وتسبب ذلك في سحب نحو 60 ألف عامل زراعي، والثاني التنازل لشركة قناة السويس عن الأراضي المتاخمة لترعة المياه العذبة. وباع إسماعيل حصة مصر في ملكية القناة بـ4 ملايين جنيه تنفيذا لقرار التحكيم، الذي قضى به نابليون الثالث. هذا مع العلم أن الجزء الأكبر من الديون التي تركها سعيد باشا، والتعويضات التي تحملها إسماعيل، استحقت الدفع عبر فترة زمنية طويلة. وكان نحو نصف ديون سعيد مُقَسَّطة على مدى ثلاثين عاماً، والتعويضات المطلوبة لشركة القناة كانت على أقساط سنوية لمدة ستة عشر عاماً. كان القسط السنوي لكلا هذين الدَّيْنين لا يزيد عن نحو نصف مليون جنيه، أي ما لا يزيد عن 9٪ من إيرادات الحكومة السنوية؛ في سنوات الحكم الأربع الأولى لعهد إسماعيل، وأقل من 7٪ من متوسط الإيرادات السنوية حتى نهاية عهده.
وكان الجزء المتبقي من ديون سعيد باشا قصيرة الأجل، وقدرها نحو عشرة ملايين جنيه، فقد كان هناك ما يكفي لسدادها بتخفيض الإنفاق الحكومي لأقل من 20٪ خلال السنوات الخمس الأولى من حكم إسماعيل. ولكنه لم يفعل، وزاد من الإنفاق بدلاً من تقنينه، وبعد ثلاثة عشر عاماً من الحكم أُنتزعت إدارة المالية المصرية منه وأُسنِدت لمراقبين أجانب، وبلغت ديون مصر الخارجية وديون الخديوي الخاصة نحو 91 مليون جنيه، وتبلغ خدمتها السنوية أكثر من ستة ملايين جنيه، أي نحو 80٪ من إجمالي إيرادات الدولة في تلك السنة، (1876)؛ مقارنة بخدمة الديون في آخر عهد سعيد، وكانت نحو 260 ألف جنيه؛ أي أقل من 5٪ من إجمالي إيرادات الدولة لعام 1863. وذلك السفه انتهى باحتلال بريطانيا لمصر في 1882.
وفارق كبير بين النمط «الإسماعيلي»، والتبديد الراهن؛ في الحالتين انصب الاهتمام على البنية الأساسية بدون اهتمام بالتصنيع والإنتاج والخدمات، ففي عهد إسماعيل شُيدت قصور ضخمة، ودار أوبرا فخمة، وشُقت شوارع وميادين واسعة، وتم تجميل القاهرة، ولم تُستبدل بعاصمة أخرى، ويحسب له زيادة شبكات الري إلى نحو 8500 ميل؛ ترع وقنوات، وزادت المساحة الزراعية نحو 750 ألف فدان، وكانت ثابتة تقريباً في السنوات العشر التي سبقت حكمه. وأضاف 910 أميال من السكك الحديدية ربطت بين مدن الدلتا الأساسية، ووصلت إلى أسيوط والفيوم، وبنى 340 جسراً، ومد 520 ميلاً من خطوط البرق (التلغراف) وأصلح ووسع ميناء الإسكندرية، وأضاف 15 فناراً على البحرين المتوسط والأحمر. وكانت المدارس التي ورثها عن سلفه 185 مدرسة حديثة أصبحت 4817 مدرسة وقت عزله. واقتصر التصنيع على توسع كبير في مصانع السكر، وما عدا ذلك لا يذكر إلا إعادة فتح مصانع نسيج وطرابيش وأسلحة أنشأها محمد علي وأغلقها عباس.
وشهد عهد إسماعيل تغيرا كبيرا في أنماط الترف وزيادة الاستيراد؛ تلبية لمطالب المستهلكين الجدد. ويشهد العهد الحالي الشيء نفسه مع تزايد العمالة الأجنبية، وبلغت في نهاية عهد إسماعيل ستة أمثال عددها عام 1836، وتزايد انتقال محدثي النعمة المصريين إلى الأحياء الأوروبية في القاهرة والإسكندرية، وقلدوا الأجانب في نمط معيشتهم ومسكنهم، واستوردوا مثلهم معظم احتياجاتهم، بما في ذلك مواد البناء، بل وأحياناً قطع الحجارة التي رُصِفت بها شوارعهم. وماذا عن الشكاوى الحالية المرة؛ من أسعار الكهرباء والغاز والوقود والمياه وتكاليف شحن الهواتف المحمولة؟! وهذا ما سنتناوله، فالملف لم يُغلق بعد.

*كاتب من مصر



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 28 / 2184659

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2184659 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40