السبت 13 تموز (يوليو) 2019

دفاعا عن «حزب الله »

عبد الحليم قنديل
السبت 13 تموز (يوليو) 2019

- عبد الحليم قنديل

راقب ـ من فضلك ـ علاقة أي فرد أو جماعة أو دولة بالإدارة الأمريكية وبالسياسة الأمريكية، وبالذات في أقطار العالم العربي اليوم، وفيما مضى من التاريخ القريب، الذى تسلطت فيه القوة الأمريكية على مصائر العالم، وسوف تصل بأثر المراقبة البريئة إلى نتيجة لا تخطئها عين، فكلما توثقت علاقات قربى طرف بأمريكا، زاد بعد الشقة عن المصالح الوطنية الذاتية، وعن المصالح القومية العربية بعامة، والعكس بالعكس، فالذين تكرههم أمريكا، هم الأكثر إخلاصا وولاء لأوطانهم وقضايا أمتهم، فما بالك بالذين تحاربهم أمريكا، وعلى رأسهم «حزب الله» في حياتنا العربية الحاضرة.
المعنى ببساطة، أن ثمة تناسبا طرديا بين عداء أمريكا لطرف، ونصاعة وطنية أو قومية الطرف المعني، ولسبب لا يخفى على لبيب، هو علاقة الاندماج الاستراتيجي بين أمريكا وكيان الاغتصاب الإسرائيلي، فكيان الاغتصاب كان وسيظل الخطر الأكبر على الأمة، والعدو الأول لشعوبها في الحال والاستقبال، والذين تكرههم أمريكا هم الأكثر عداء لربيبتها «إسرائيل»، والذين تحاربهم أمريكا هم الذين يحاربون إسرائيل، أو يشكلون تهديدا وجوديا لكيانها الاغتصابي، وقد يقول لك أحدهم، إن أمريكا حاربت أيضا جماعات أخرى، من نوع «داعش» وتنظيمات «القاعدة» والسلفيين التكفيريين وأحزاب متطرفة من اليمين الديني عموما، وهذا كلام مردود عليه، فقد خلقت أمريكا هذه الجماعات بحروبها، وفرحت لتوحشها، ولأكلها الأخضر واليابس في حياتنا، ومولت نشاطها بمئات المليارات من الدولارات عبر خزائن الأنظمة التابعة لواشنطن، ثم استخدمتها لابتزاز الأنظمة التى دفعت وتدفع لواشنطن مئات المليارات من الدولارات، وبدون أن تفعل واشنطن شيئا بالمقابل، غير التظاهر بشن الحرب، وتوجيه ضربات جوية مدفوعة الأجر هنا أو هناك، وبدون قضاء مبرم على جماعات القتل التكفيري، وعلى أمل إعادة استخدامها من جديد، لتدمير ما تبقى عربيا، وبدون مخاوف من عودة هذه الجماعات للتوحش، ما دامت لا تنوى محاربة إسرائيل، وهو ما لم تفعله هذه الجماعات أبدا ولن تفعله، بسبب علاقات «العروة الوثقى» المخابراتية عبر نقاط ارتكاز إسرائيلية، وفى عواصم الدفع الآلى المباشر لواشنطن، وهو ما يبرز امتياز «حزب الله» اللبناني، رغم انتسابه هو الآخر لظاهرة الإسلام السياسي، لكنه يمثل الإسلام المعادي بثبات واطراد لأمريكا وصاحبتها إسرائيل.
وقد يكون «حزب الله» ارتكب أخطاء وخطايا، لعل أهمها دخوله المكثف على خط الحرب الطائفية الكافرة في سوريا، ورفعه لشعارات بدت طائفية تماما، أخذت كثيرا من بريقه كحزب مقاوم ومناهض ومحارب ومهدد للاحتلال الإسرائيلي، وقد نتفهم الدواعي الاستراتيجية والسياسية لتورط «حزب الله» في الحرب السورية، فأقدار الجغرافيا اللبنانية، لا تتيح لأي طرف لبناني مؤثر ترف النأي بالنفس عما جرى ويجري في سوريا، خصوصا بعد الانطفاء السريع لوهج الثورة السلمية القصيرة العمر في سوريا، ومبادرة جماعة بشار الأسد بالحرب قفزا على استحقاقات الثورة السلمية، وتحول المشهد باطراد إلى ما يشبه الحرب العالمية في سوريا، وكلها تطورات دموية مفزعة، قد تكون استدعت تدخل «حزب الله» لحماية ظهره وسنده في الجغرافيا السورية، بالذات مع التدخل الكثيف لإيران في الحرب، وطهران ـ كما هو معروف ـ هي الداعم الوحيد ماليا وتسليحيا لحزب الله اللبناني، وإن كان الحزب يسعى الآن لطي صفحة تدخله في سوريا، والسحب المتدرج لقواته، بعد أن تحققت غالبية أهدافه مع مرامى الحلفاء.
وربما يحتاج إلى وقت لاستعادة صورته الأصلية، والتعافي من الآثار السلبية لطائفية تدخله العسكري في سوريا، ما قد يحتاج إلى اهتمام مضاعف من قادته، والعودة للتركيز على خطاب العداء الجوهري لكيان الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما قد تساعد عليه الإدارة الأمريكية من حيث لا تحتسب، بمضاعفة العقوبات الأمريكية على الحزب وقادته، التي توسعت أخيرا، وشملت جناح حزب الله السياسي بعد جناحه العسكري، وعلى سبيل «النقمة»، التي قد تتحول إلى «نعمة»، فقد لا تؤثر هذه العقوبات كثيرا على كيان الحزب، لكنها تسهم كثيرا في استعادته لصورته الأصلية، بالذات عند القواعد الشعبية الواسعة في أقطار العالم العربي، فصحيح أن حزب الله حزب إسلامي شيعي، وقاعدته الاجتماعية من المسلمين الشيعة اللبنانيين، بينما أغلب العرب من المسلمين السنة، ورغم علو النبرة الطائفية المقيتة، بأثر من تكاثر جماعات ما يسمى بالإسلام السياسي عبر الأربعة عقود الأخيرة، فقد ظل «حزب الله» إلى وقت طويل، أشبه بفرقة ناجية من تغول المشاعر الطائفية المريضة، وكان أغلب العرب ينظرون له على نحو مختلف، كحزب عربي عام، لا مجرد حزب في لبنان كثير الأحزاب والطوائف، وكحزب مقاوم لا منظمة شيعية، وتفوقت شعبية زعيمه حسن نصر الله على شعبية أي زعيم عربى آخر، سواء كان في قصور الحكم أو في المعارضات، وكانت شعبية نصر الله عابرة للحدود، وعلى نحو لم تصادفه الحياة العربية منذ رحيل جمال عبد الناصر، ولم تكن شعبية نصر الله بسبب الكاريزما الشخصية، التي يمتلك بعضا من ملامحها، لكن شعبيته عربيا كانت من مورد آخر، هو أنه رجل يفعل ما يقول ويقول ما يفعل، ثم إن ظهوره جاء في زمن زاد من شعبيته، فقد جرى الانقلاب بالكامل على عصر جمال عبد الناصر ما بعد حرب أكتوبر 1973، وعقدت مصر قاعدة الوجود العربي معاهدة العار المعروفة باسم اتفاقية السلام المصرية ـ الإسرائيلية، وخرجت مصر الرسمية من جبهة الصدام مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وتبعتها أقطار أخرى، وظلت سوريا الرسمية في موقع الذى يقول ما لا يفعل أبدا، وانطفأ وهج منظمة التحرير الفلسطينية بعد توقيع «اتفاق أوسلو»، ووسط هذه الظروف المحبطة شعبيا، وفي موازاتها وبالتناقض معها، برزت ظاهرة حزب الله، ووجهت ضرباتها العفية الكاسحة، بدءا من تدمير القاعدة الأمريكية في بيروت، وقتل المئات من جنود «المارينز» بضربة استشهادية واحدة أواسط ثمانينيات القرن العشرين، إلى معارك وملاحم الصدام الجسور مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، وفي محطات صبورة مثابرة، أرغمت الاحتلال الإسرئيلي في النهاية، على الجلاء عن جنوب لبنان، وبدون توقيع اتفاق سلام ولا استسلام ولا صك تطبيع مع العدو، كان الإنجاز باهرا، فهذه أرض عربية تتحرر من الاحتلال بقوة المقاومة وحدها، وعلى العكس تماما من دواعي الاستسلام المروجة رسميا، وهو ما صعّد شعبية حزب الله وزعيمه عربيا إلى حدود السماء، كان ذلك كما هو معروف في أواسط عام 2000، وفي عشرية السنوات التالية، صعدت شعبية حزب الله وزعيمه، بالذات بعد خوضه حربا طويلة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي، استخدمت فيها إسرائيل كامل قوتها ضده أواسط 2006، واستمرت أيام الحرب إلى ضعف عدد أيام حرب أكتوبر 1973، التى خاضها الجيشان المصري والسوري معا، وفشلت إسرائيل في تحقيق هدفها من حرب 2006، رغم المساندة الأمريكية، والخيانات العربية الرسمية، وعدت نتائج الحرب انتصارا مدويا لحزب الله، وتزايدت بعدها قوته أضعافا مضاعفة، وصار أكبر خطر وجودي يتهدد إسرائيل.

صحيح أن ظاهرة حزب الله ذات منشأ لبناني، لكنها تحولت إلى ظاهرة عربية ملهمة، بالذات على جبهة الصدام المباشر مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، فلم تكن مجرد مصادفة عابرة، أن عام 2000، الذي شهد جلاء إسرائيل الذليل عن جنوب لبنان، هو نفسه العام، الذي شهدت أخرياته حدثا فلسطينيا بارزا، هو الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي جمعت في نسيج واحد، بين المقاومة الشعبية السلمية وعمليات الفداء المسلح، وكانت الثمرة الملموسة، هي اضطرار إسرائيل للجلاء عن غزة من طرف واحد عام 2005، وتفكيك المستوطنات اليهودية السبع في القطاع، وعلى الطريقة ذاتها التي جلت بها إسرائيل عن الجنوب اللبناني، وبغير توقيع اتفاق سلام ولا استسلام ولا صك تطبيع، ثم دخلت المقاومة الفلسطينية بغزة في حروب ضارية مع كيان الاحتلال، وعلى طريقة حرب حزب الله مع إسرائيل عام 2006، وتتابعت حروب مقاومة غزة مع إسرائيل في 2008 – 2009 و2012 و2014، ولمدد طويلة، فاقت في بعض جولاتها مدة حرب إسرائيل مع حزب الله، ولم تستطع إسرائيل تحقيق نصر في أي من حروبها ضد حركة حماس وأخواتها، رغم فوارق القوة المهولة لصالح العدو، وكان السر ولا يزال، في خلطة الحرب الجديدة التى أبدعها حزب الله، وسبق إليها، فقد أنشأ مذهبا جديدا في علم المقاومة، بدأ بصناعة القنابل الاستشهادية، وعلى النحو الذي دمّر به الوجود الأمريكي العسكري المباشر في لبنان، ثم امتد إلى المعارك المتصلة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان، وكان ذلك التطور تغييرا جوهريا في ميادين الحروب، حول طبيعة المقارنات القتالية في ميادين حروب التحرير الوطني، فقد كانت المقارنات تتجه أولا إلى حساب القوة المادية والسلاح المتطور لدى الطرفين المتواجهين، ثم تضيف هامشا لحساب القوة المعنوية، لكن ثقافة الاستشهاد قلبت الموازين والمعادلات، وحولت الهامش المعنوي إلى متن رئيسي، يكاد يهزأ بفوارق القوى المادية والتسليحية، ويحيل متن القوى المادية إلى الهامش، وقد جرى ذلك بمقادير متفاوتة في تاريخ حروب التحرير الوطني، فلم تكن قوة المقاومة متكافئة ولا متقاربة ماديا مع قوة الاحتلال في أي حرب تحريرعلى طول وعرض التاريخ، ولا ينهزم الاحتلال عادة، إلا بعد أن تتضاعف تكاليف بقائه، وقد عمل حزب الله بالقاعدة المرعية، لكنه أضاف ثقافة الاستشهاد كسلاح رئيسي حاسم، ثم أضاف قوة مادية دفاعية وهجومية رادعة، من أول تطوير مدى قذائف «الكاتيوشا» إلى الصواريخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى نسبيا، وهو ما أعانه على صنع حروب من نوع مختلف، تنقل الخطر الرادع إلى قلب كيان الاحتلال، وتضغط على أعصابه بالفزع والدمار النفسي، وتعوض غياب القوة الجوية، وكان ذلك مثالا ملهما للمقاومة الفلسطينية، التي سارت فصائلها الحية في غزة على طريق وطريقة حزب الله.
ورغم أخطاء طائفية تورط بها حزب الله، فإن الحزب هو السند الجوهري الملموس لوجود لبنان آمنا، فوجوده هو قوة الردع الرئيسية لأي عدوان إسرائيلي محتمل على لبنان، وهو الضمانة الكبرى لاستقرار البلد الموزع طائفيا، الذي شهد لعقود حربا أهلية مهلكة، لم يعد واردا العودة إليها، رغم التدهور المخيف الحاصل في أوضاع المشرق العربي عموما، فالقوة الفائقة لحزب الله، تمنع أي طرف لبناني من مجرد التفكير في العودة إلى زمن الحرب الأهلية، ويبقى التعويل على الحزب نفسه في الابتعاد عن شعارات ومسالك التأويل الطائفي.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 108 / 2184490

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2184490 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40