الجمعة 14 حزيران (يونيو) 2019

عقارات باب الخليل ومسرح العبث

جواد بولس
الجمعة 14 حزيران (يونيو) 2019

أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قبل أسبوعين قرارها النهائي في ما يعرف بقضية تسريب عقارات باب الخليل، أو ساحة عمر، حيث رفضت بموجبه الاستئناف الذي قدمته بطريركية الروم الأرثوذوكس المقدسية، ضد قرار المحكمة المركزية الذي أقرّ يوم 30/7/2017 بقانونية تلك الصفقات وبحق الشركات الاستيطانية اليهودية فيها.
لقد نصحنا في حينه أن يقرأ المعنيّون حيثيّات قرار المحكمة المركزية في القدس، كي يقفوا على صحة ما قلناه، مذ فجّرت الصحافة العبرية القنبلة التي فضحت وجود تلك الصفقات في عام 2005، وما تلاها من تداعيات. لقد رصدنا التداعيات في مجموعة تقارير مهنية سلّمت لأصحاب الشأن وللمعنيين، وأشارت، بشكل لا يقبل التشكيك، إلى وجود مؤامرة خطيرة حيكت بمهارة، مستهدفة التسلط على أوقاف الكنيسة المقدسية، وهي أكبر مالك خاص للأوقاف في فلسطين التاريخية، كما حصل عمليًا في العشر سنوات الفائتة.
لقد حذرنا في حينه من أن مشاركة الكنيسة في إجراءات القضية بالطريقة التي تمّت لن تكون إلا خطوة لرفع العتب، ومن أجل إضفاء ختم القضاء الاسرائيلي على صفقات ولدت بالخطيئة؛ وفي الوقت نفسه تسليح المسؤولين في الكنيسة، المتّهمين بتورطهم في تلك الصفقات، بصك يفيد بأنهم حاولوا الدفاع من أجل إنقاذ العقارات، إلا أن القضاء الاسرائيلي العنصري الجائر وقف إلى جانب الجمعيات الاستيطانية، وسهّل مهمتها بالاستيلاء على أنفَس المواقع والإجهاز على ما تمتلكه البطريركية في أخطر عملية سميناها، «مذبحة العقارات الكبرى».
مرّت الأعوام في مطارحنا خرساء، كانت القدس تفقد كل يوم بكارة من بكاراتها وتنتظر بلهفة من ينقذها من وخز الخناجر ونباح الحناجر التي لا تكل ولا تتعب. كانت الأماني هباءً والرهانات على أصحاب النخوة والضمائر مجرد أوهام، فلم يتغيّر شيء على مسرح العبث، والمشاهد تتكرر برتابة الحياة في الغاب، وأمامنا يتوالد الممثلون من شرنقات تتجدد ولا تموت؛ والمخرجون كشياطين الليل، يتجبّرون بالعباد ويطعمون أفواه سادة هي أجشع من فأرة حبلى.
سأنصح ، مرّة أخرى، أن يقرأ الخلق ما جاء في قرار المحكمة العليا، ليروا مجددًا كيف «دافعت» البطريركية عن حقوقنا؛ فعسانا نتجنّب المقارعات والمناكفات التي تحصل بالعادة بعد كل خسارة مدوية، إذ يحوّلها بعض الخبراء في علوم الشرق وفي تاريخه إلى نصر مظفر وخارق. فبعد صدور القرار باشرت كتائب الدفاع وتلميع البطريرك ورجاله، هجومها على المحكمة، كما كان متوقعًا، وسارعوا الى تبجيل ما قدّمه محامو البطريركية باسم موكلهم الغيور على مصلحة عقارات فلسطين والمدافع عن الوطن، حتى أحتسب بعضهم جهوده في تعداد المعجزات والبطولات، ثم قرأنا بأسف، تمامًا كما قرأنا قبل عامين، بيان بطاركة الكنائس في القدس، يتقدمهم اسم ثيوفولس وهم يهاجمون محاكم إسرائيل وقضاتها، وكأن شيئًا لم يحصل داخل أروقة البطريركية، وجميع الحيثيات التي ناقشها القضاة في المحكمتين لم تكن سوى افتراءات أو مجرد خزعبلات أوجدوها بأنفسهم تجنيًا واعتباطًا.

مذبحة العقارات الفلسطينية مستمرة، وقبالتها يقف أهل البلاد وهم لا يرون ولا يتكلمون ولا يسمعون

لن يناقش عاقل دور المحاكم الاسرائيلية في تسويغ سياسات اسرائيل الرسمية، خاصة في ما يتعلق بحقوق المواطنين العرب، وبالتحديد في كل ما يتعلق بملكية الأراضي والعقارات التي شرعنت القوانين التعسفية سرقتها والاستحواذ عليها؛ ولكن بين هذه الحقائق والواقع، وما كشفته الوثائق والبيّنات والشهادات في هذه المحكمة، يوجد بعد شاسع، فالبطريركية خسرت استئنافها بعد تنازلها الطوعي عن معظم ادّعاءاتها الأولية، كما أوردها محاميها في ذلك الوقت، ريناطو ياراك يوم 18/6/2007 حين بعثها للشركات مدّعيًا بشكل يستدعي التساؤل، بعد عامين من افتضاح القضية، بطلان الصفقات، فحينها أشار الى وجود عيوب جوهرية في التوكيل المعطى لباباديموس، وهو الرجل الأهم ّ في هذه المسألة ، وكذلك ادّعى بأن المشترين لم يدفعوا مقابل العقارات، وشكك ايضًا في حقيقة توقيع باباديموس على العقود باسم البطريركية وأهليته لذلك، وأن البدل المدفوع مقابلها كان أقل من أسعارها في السوق، بما يبطل صحتها، وأنهى بضرورة إبطالها لأن المجمع المقدس، السينود، لم يصادق عليها، كما يقتضي قانون البيع في الكنيسة.
لقد تنازلت البطريركية عن معظم هذه الادعاءات، كما كتب قاضي المحكمة العليا مكررًا استغرابه كما عبرت عنه قاضية المحكمة المركزية، واستبدلت البطريركية ادعاءاتها في نهاية عام 2014، بشكل مفاجئ، بادعاء يفيد بأن الصفقات ملوثة وفاسدة، لأنها أبرمت بعد أن وعد باباديموس، من قبل عطيرت كوهانيم، برشوة مقدارها مليون دولار، وكذلك برشوة للبطريرك المعزول ايرينيوس.
لن أثقل عليكم بكلام من عندي، وسأكتفي بالعودة إلى ما كتبه القضاة في قرارهم وفيه ما يكشف ويقنع ويوجع: «فلم تثبت البطريركية ادعاءاتها.. ولم تأتِ بأي بينة تشير إلى فساد شخصي ضد أيرينيوس، ولم تثبت أن باياديموس تسلم رشوة… لم تستدع البطريركية للشهادة لا باباديموس ولا أيرينيوس، علمًا بأن باباديموس تقدم بمبادرته بطلب إلى المحكمة في عام 2010 لضمّه كطرف في التقاضي، كي لا يقوم الأطراف بتشويه سمعته واسمه غيابيًا، وفي خطوة مستهجنة لم يوافق محامو البطريرك ثيوفولس على طلبه، بل تعمدوا ترك القرار للمحكمة، التي رفضت بدورها الطلب، مشيرة إلى استهجانها من موقف البطريركية. «لم يستطع المطران أريستارخوس، الذي ظهر كشاهد باسم البطريركية، الإدلاء بأي شهادة حول تسلم باباديموس لرشوة أو وعد بها، وذلك لأنه لم يكن شريكًا حقيقيًا في تفاصيل القضية ساعة حصولها». ثم أضاف القضاة في قرارهم: «إن الادعاء المركزي، ان لم يكن الوحيد المتبقي، الذي وضعته البطريركية على طاولتنا يتعلق بفساد تلك الصفقات الثلاث نتيجة لوعد قطع لبابديموس على شكل رشوة؛ وبالنسبة لايرينيوس لم تحضر البطركية أي بينات تشير الى تورطه الشخصي في عملية فساد مالي». «لم تعتمد البطريركية في ادعائها ضد قانونية الصفقات الا على ادعاء الرشوة، وذلك في مراحل متأخرة من إجراءات المحاكمة (التي استمرت تسعة أعوام) حيث تنازل محاموها عن معظم الادعاءات الاخرى التي ضمنها المحامي ياراك في رسالته عام 2007» . «على جميع الأحوال فقد أوضح الكاهن ايسيخيوس في شهادته أمام المحكمة، بعد أن عرف على نفسه كمدير للدائرة المالية وكنائب للبطريرك، بأن المشكلة الوحيدة مع تلك الصفقات كانت أنها نفذت من قبل ايرينيوس بدون موافقة السينود/المجمع المقدس»، ولم يتطرق في شهادته الى موضوع الرشوة.
في النهاية فلقد أقرت المحكمة بأن البطريركية لم تنجح باقناعها بوجود رشوة لباباديموس، وذلك ليس فقط لعدم استدعائه للشهادة بل لعدم استدعائها ايضا لممثل شركة «عطيرت كوهنيم» ماتي دان، الذي، حسب الادعاء، كان هو صاحب العرض في رشوة باباديموس؛ في حين «لم يظهر أمامنا أي دليل ولم يُدّعَ بالاصل، بأن أيًا كان قد قام برشوة ايرينيوس ماليًا، بل كانت الرشوة، حسب ادعاء البطريركية، متمثلة باعطائه وعدًا باعتراف دولة اسرائيل به كبطريرك على الكنيسة».
قامت المحكمة بتفنيد ذلك الادعاء وأثبتت بما قدم أو ما لم يقدم لها، عدم صحته، حيث تبين مما قدم لها من وثائق أنه «بتاريخ 18/1/2004 أوصى طاقم الوزراء الاسرائيلي الخاص بقضية اعتراف اسرائيل بايرينيوس كبطريرك، ثم قبلت الحكومة الاسرائيلية بعد أسبوع هذه التوصية وأقرتها» بدون علاقة مع ما قامت به «عطيرت كوهانيم»، كما جاء في القرار.
لقد كتب القضاة في النهاية ما مفاده: «لقد فشلت البطريركية بإثبات ادعائها بأن جميع الأموال المدفوعة مقابل الصفقات لم تودع في حساباتها، فقد اتضح بأن الأموال دفعت، إما بواسطة شيكات بنكية، أو حوالات أودعت في حسابها مباشرة؛ وبناءً عليه فلا تستطيع البطريركية ان تمسك الحبل بطرفيه فتدعي، من جهة ، ببطلان الصفقات ومن جهة اخرى تحتفظ لنفسها بالاموال» .
ثم يكتب القضاة: «لقد قامت البطريركية بتقديم شكوى ضد باباديموس بحجة انه سرق دفاتر شيكاتها، وقام باستعمالها بدون اذن ملائم، ولكن، مع هذا، ولأسباب نجهلها ، لم تقدم البطركية أي شكوى ضده بخصوص القضية التي أمامنا.. ولذلك وعلى هذه الخلفية، فإن موقف البطركية وخيارها بعدم تقديم شكوى ضده يستدعي الاستهجان». لن اثقل عليكم بمزيد مما كتبه القضاة في سبع عشرة صفحة كاملة، فلهذه الأسباب التي ذكرت ولغيرها، كما جاء في القرارين، رفضت المحكمة استئناف البطركية وثبتت عمليًا، كما توقعنا، حقوق الشركات الاستيطانية في العقارات موضوع الدعوى.
أما لنا فلم يبق إلا أن نقول لمن يريد أن يسمع وللتاريخ: لم تكن تلك الصفقات نهاية السقوط، فمذبحة العقارات الفلسطينية استمرت ومستمرة، وقبالتها يقف أهل البلاد كثلاثة قرود الصين وهم لا يرون ولا يتكلمون ولا يسمعون.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 104 / 2184502

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

14 من الزوار الآن

2184502 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40