الجمعة 22 آذار (مارس) 2019

مشاركات مختارة

الجمعة 22 آذار (مارس) 2019

- «أميركا الكُبرى»: الولايات المتحدة ومستعمراتها المترامية
كاظم الموسوي

لم تتوقّف التظاهرات في العراق يوماً منذ عام 2003، بعد الغزو والاحتلال. تتنوّع هذه التظاهرات وتتوزّع زمنياً ومكانياً، في المحافظات والمدن وحتى القرى والمناطق النائية. أو بقول آخر إن التظاهرات شملت العراق كلّه وباشتراك كل القطاعات والمهن والأجيال العمرية. كشفت التظاهرات الاحتجاجية عموماً عن حالة غياب السلطة وهيبة الدولة وعن شعارات مخادعة عن الديمقراطية والحريات التي جلبها الغزو والاحتلال للعراق. هذه التظاهرات رفعت شعارات مطلبية حرمت من مضامينها وأصرّت عليها الجماهير، مطالب لم تتحقق لها ولم تتوفر فرصها وظلت كل هذه الفترة الزمنية غير القليلة دون تنفيذ أو تطبيق. كما أن الشعارات المطلبية التي تميّزت بها التظاهرات في العراق قد تصاعدت أو تباينت بين موقع وآخر، ولكنها ظلت في حدود المطالب المشروعة رغم تضحيات كبيرة خسرتها فيها أو قدمتها من أجل تحقيقها. هذا يعني أن السلطات الأمنية واجهتها وأطلقت الرصاص الحي عليها مما سبّب خسائر بشرية فيها. ومعروف أن سقوط شهداء أو دماء في أية تظاهرات يعزز أو يشدّ من عزيمتها واستمرارها. وهي حالة أصبحت قاعدة اجتماعية أو قانوناً متكرراً يراكم سير التظاهرات وتصاعدها أو تموجاتها المستمرة. تبلورت أغلب الشعارات والمطالب طيلة تلك الفترة الزمنية على توفير الخدمات العامة والأعمال واحترام حقوق الإنسان والقانون. غياب الخدمات الأساسية، كانعدام الكهرباء وشحّ المياه وضعف مجال الصحة وسوء المعاملة وخراب التعليم والمدارس والتسرّب وغيرها من المشاكل المتفاقمة في هذه الخدمات الأساسية دفعت الشعب إلى التظاهر والاحتجاج وتصاعد الغضب الشعبي والاحتقان المدني وكسر الصمت. وهذا ما تكرر في أغلب التظاهرات في عموم العراق ومناطقه، سواء في جنوبه أو شماله أو وسطه، بمعنى أن سوء الإدارة والتخطيط في أداء هذه الخدمات الأساسية عمّت العراق كله، وبيّنت بتراكمها وتناقضات التعامل معها الخلل الصارخ في الأداء الرسمي والعمل الوظيفي وقدرات السلطات المحلية والمركزية.
بلا شكّ، لعب الفساد الإداري والمالي دوره البارز في تأجيج حالة التظاهر والغضب، وعمّ بأساليبه المختلفة كل مؤسسات ومكاتب الخدمات الأساسية، مما يضطر المواطن إلى الصراخ بصوت عالٍ في سبيل إيقافه وردع الفاسدين. المضحك في العراق أن أغلب الفاسدين أو الداعمين للفساد أو المروّجين لانتشاره هم في مواقع القرار السياسي وهم الذين يُعتبرون واقعياً رأس الفساد بكل أشكاله، يزعمون في تصريحات إعلامية محاربته أو الدعوة إلى مكافحته، والأغرب فيه هو التغاضي أو تغطية العناصر القائدة للفساد والمناورة في اتّساعه والسماح لأعمال أخطبوطه ومافياته وكل أصنافه. لم يعد العراق في أول قائمة الفساد في التقارير العالمية للمنظمات الدولية المتابعة أو المحققة فيه، بل أصبح مضرب المثل في نوعه وحجمه وطرقه وممارساته. دفع هذا الانتشار للفساد في العراق جماهير الشعب إلى التظاهر والاحتجاج والغضب، ولأنه مستمرّ ومتسع فالتظاهرات مقابله كذلك، في عموم العراق وعمر الغزو والاحتلال وما بعدهما.

هذا الفساد المعلَن والمخفي، ومن باب الهزل، يتحدث عنه نواب في البرلمان وفي برامج تلفزيونية علناً

لم يكتفِ الفساد الإداري بالرشوة والمحسوبية والتخلف في تسيير أمور الناس اليومية والوظيفية المعروفة، بل زاد في التعيين والتوظيف لأفراد لا علاقة لهم في الموقع الذي يحتلّونه أو من الفاشلين في إدارته علمياً ووظيفياً، وتمّ تعيينهم في لعب المحاصصة والتقسيم التحازبي والعائلي وغيرها من الأمور التي ألحقت بالأجهزة الإدارية أضراراً غير قليلة وأساءت إلى مسمّيات الدوائر أو المنظمات أو الأجهزة أو المؤسسات. ولعلّ بعض برامج النقل المباشر في عدد من القنوات الفضائية المحلية مع المواطنين في الشارع مباشرة تعطي بعض صور عن الواقع المزري فيها، ويتطلّب من السلطات المسؤولة متابعتها والردّ على الاستفسارات والطلبات والمواضيع التي يثيرها المواطنون مباشرة، بالصوت والصورة والوثيقة واللوعة الإنسانية المحرجة والمخجلة لأيّ إنسان طبيعي.
كثير من المعاملات التي يحتاج لها المواطن تُكتب باليد، رغم كل التطورات التقنية في آلات الكتابة والنشر والإنترنت، فيقع فيها الكثير من الأخطاء في الكتابة، وإذا أراد التصحيح فيُجبر على العودة إلى المربّع الأول في الطلب والمراجعات والسجلات والمساومات، والأبشع فيها المطالبة بموافقة الوزير المختص لتلك الظاهرة وتتكرر هذه الإجراءات البيروقراطية والروتينية وتهدر وقت المواطن وماله وصبره ورؤيته لبلده الذي يتراجع حتى عمّا كان عليه قبل سنوات. إضافة إلى جهل أو فقدان معرفة ما يتعلق بالعمل وخدمة المواطن. موظف لا يكتب إلّا بخط يده في طلبات مطبوعة ومخططة، وآخر لا يعرف قوانين الهجرة واتفاقية جنيف لعام 1951 للاجئين السياسيين ولا متعلقاتها وتعديلاتها وهو من الذين يقررون قبول معاملة أو ملف الهجرة أو رفضها لمن عانى بقدر عمره الزمني. فضلاً عن الفساد الآخر، المالي، والنهب للثروات والخيرات والتبذير والهدر والضياع في أصول الصرف أو التخصيص، مع ما يُنشر من أساليب لا يمكن أن تكون أو تحصل إلا في العراق الجديد..
هذا الفساد المعلَن والمخفي، ومن باب الهزل، يتحدث عنه نواب في برلمان الشعب في تصريحات وبرامج تلفزيونية علناً، وعن مشاركتهم فيه دون خوف أو خشية أو وجل من ضمير أو رقيب أو حسيب. رغم وجود منظمات حكومية تحمل أسماء الشفافية والنزاهة والمراقبة وغيرها من التسميات فقط.
تضاف بالتأكيد إلى عوامل استمرار التظاهرات في العراق النسب العالية للعاطلين عن العمل بعد تخرجهم من المعاهد والكليات وغيرها، وهؤلاء بعمر الشباب، المتطلّع للحياة والمستقبل، ويعتبر نفسه ثروة بشرية للوطن، وأدى ما عليه وينتظر أملاً له في العمل والبناء. كما أن غياب روح التجديد والتغيير في البنى والرؤى المستقبلية للبلاد يعرقل عملية التحديث والتطوير وحتى البناء والتنمية البشرية والعمران. ما يخلق أجواء وبيئات جاهزة للاحتجاج والغضب وحتى لأبعد من ذلك. وهو ما يحصل فعلياً في العراق الجديد، بعد الاحتلال والتآمر الأميركي عليه.
لذا نرى كل يوم تظاهرة أمام مباني الوزارات أو الدوائر المختصة والمتعلقة بالعمل. وتواجه أغلب الوزارات مطالب الشباب بالوعود والتحايل عليها، وكذلك المحافظات والمؤسسات المحلية الأخرى. وليس آخر التظاهرات للخريجين من مختلف الاختصاصات والمهن، بل وشملت المعلمين، الذين لبوا نداء نقابتهم إلى الإضراب ليومين عن التعليم وتعطيل الدراسة، والتشديد على تلبية مطالبهم ببرمجة التوظيف وتحسين سلم الرواتب والاهتمام بظروف المباني والتخطيط لزيادة أعدادها وتطوير المناهج الدراسية واحترام الحقوق المشروعة.
*كاتب عراقي

- غرامشي: المجتمع المدني، الهيمنة الثقافية، المثقف الجماعي
جوزف عبدالله

«أنت ميت منذ ستّين عاماً، ولكنّك حيٌّ في قلوب أولئك الذين يريدون عالَماً للفقراء فيه فرصةُ الحياة كبشر فعليين».
من رسالة - فيديو بعثها إيريك هوبسباوم إلى غرامشي عام 1997

هل يفيدنا غرامشي بما قدّمه من أفكار مفسّرة لحركة الصراع بين الطبقة العاملة والبرجوازية، وبما قدّمه من مقترحات لتطوير الأحزاب الشيوعية وسبل نضالها في الأوساط الشعبية؟ نظن أن عرض غرامشي لمفهوم المجتمع المدني ولمفهوم الحزب الثوري ولمقولة الهيمنة الثقافية ولبناء الكتلة الشعبية أو التاريخية، ولكيفية العمل للفوز بتأييد الجماهير الشعبية... على درجة كبيرة من الأهمية.

المجتمع المدني
ما هو المجتمع المدني الغرامشي؟ أو ماذا يعني غرامشي بعبارة المجتمع المدني؟ ما هي مكوناته وعناصره؟ جواب غرامشي: هناك «المؤسسات المسمّاة عادة خاصة» وهي التي تشكّل المجتمع المدني. ولكن ما هي هذه المؤسسات؟ يذكر غرامشي الكنيسة والنقابات والمدارس وغيرها. ويضع، بشكل عام، في المجتمع المدني جميع «أجهزة الهيمنة» وجميع الإيديولوجيات العملية التي تمارس نفوذها: الكنيسة والدين، والمدرسة والتعليم، والصحافة والمعلومات، والأحزاب السياسية، والنقابات... وعموماً كل أشكال الارتباط الحرّ بين المواطنين. ما موقع الاقتصاد من المجتمع المدني؟ مع أن البنية الاقتصادية ليست من المجتمع المدني، فهي من جهتها معنيّة مباشرة بدور المجتمع المدني، لأن الجدلية الغرامشية تجعل منه عنصر الوساطة بين هذه البنية الاقتصادية والدولة: «المجتمع المدني يتوسط بين البنية الاقتصادية والدولة بتشريعاتها وبسلطتها في الإكراه».
حول وظيفة المجتمع المدني، يؤكد غرامشي، على خصوصية العلاقة (أو العلاقة الوثيقة جداً) في المجتمعات الغربية منذ مطلع القرن العشرين بين الدولة والمجتمع المدني. ففي ظلّ دولة مترنّحة في المجتمعات البرجوازية الغربية غداة الحرب العالمية الأولى، سرعان ما تمّ اكتشاف بنية قوية للمجتمع المدني. لم تكن الدولة غير خندق متقدّم خلفه سلسلة قوية من القلاع والتحصينات يشكّلها هذا المجتمع المدني وتحمي الدولة. وليست هذه «التحصينات» التي تعزز «الخندق المتقدم» للدولة غير تلك المؤسسات التي ذكرناها قبل قليل («أجهزة الهيمنة») وفاعليتها في «خدمة الدولة».
لا يستنفد سياق ثنائية المجتمع المدني/الدولة دور وفاعلية المجتمع المدني. ثمة سياق آخر لكشف هذه الفاعلية، هو بالأحرى سياق ثالوث: المجتمع المدني/ المجتمع السياسي/ الدولة. ففي هذا الثالوث نجد حجر القاعدة لنظرية غرامشي في السياسة. والمجتمع المدني هو القطب الأساسي في هذا الثالوث وأهم شيء في أصالة غرامشي. فيه يتم تعريف المجتمع المدني بوصفه يضمّ جميع العلاقات الاجتماعية والمنظمات التي لا تشارك في الإنتاج الاقتصادي (المشاريع الرأسمالية) ولا في اشتغال الدولة. وعموماً، تصوّر غرامشي المجتمع المدني كمجال اجتماعي فيه تنشأ وتدور بين الأفراد والجماعات الصراعات والخلافات ذات الطابع الإيديولوجي. هو حقل مفتوح للنقاش والحوار باتجاه خلق إقناع ورضا الطبقات المغلوبة بهيمنة الطبقات السائدة والسلطة القائمة، أو بخلق الاعتراض على هذه الهيمنة واستبدالها بهيمنة نقيضة.
وبعكس المجتمع المدني، فإن المجتمع السياسي هو ميدان القسر، والإرغام، وممارسة القوة التي يمكن أن تكون عسكرية أو قانونية - إدارية، وذلك لتـأمين سيطرة البرجوازية (سيطرة عارية عند الضرورة). ومن ثم، فإن المجتمع السياسي، تبعاً لتعريفه بطابعه القسري، يقابل جانباً معيناً من الدولة، يكمن في وظائفها في الإدارة والقمع، هذه الوظائف التي تخوّلها «احتكار العنف الشرعي» (وفق تعبير ماكس فيبر). أما نظام التعليم الرسمي مثلاً، فلا يقع ضمن المجتمع السياسي كما ورد تعريفه، والذي يعادل تقريباً ما يُسمّى الصلاحيات «الملكية» للسلطة العامة، أو ما سماه بيير بورديو «اليد اليمنى للدولة» (مقابل «يدها اليسرى» التربية، الدولة الاجتماعية).

بدلاً من اتجاه العمّال لإحداث ثورة تخدم حاجاتهم ومصالحهم الجماعية، استسلموا لتعبئة النزعة القومية والاستهلاكية والترقّي الاجتماعي

الضلع الثالث لثالوث غرامشي هو الدولة ذاتها. وهي موضوع اجتماعي لا يمكن تجنّبه، وموضع إشكالٍ بلا حدود في نفس الآن. وتعريفه غير مستقرّ في نظرية غرامشي وعرضة لانزلاقات صعبة في استخدامه. ولكن يبقى للدولة معنيان يمكن التوقف عندهما. 1) الدولة جهاز متماسك بشكل صارم في المجتمع السياسي، وهذا يعني أنه مجرد جهاز للإدارة والقمع. 2) الدولة هي الوحدة العينية للمجتمع السياسي (السيطرة) والمجتمع المدني (الرضا، الهيمنة)، ما يعني «الدولة المتكاملة» أو «تمامية» الدولة.
وبهذا المعنى يعتبر غرامشي الدولة بوصفها مجمل الأنشطة السياسية والنظرية التي بفضلها لا تنجح الطبقة السائدة بتبرير سيطرتها والمحافظة عليها فحسب، بل بالحصول أيضاً على رضا (موافقة) المحكومين الفعّال. إن مفهوم الدولة الغرامشي هذا يخدم في كشف وجود علاقات سياسية للسلطة داخل المجتمع المدني بالذات، كما أن هذا المفهوم للدولة يرفض على الفور الفرضية الليبرالية القائلة بالحياد السياسي للمجتمع المدني (رفض فرضية هذا الحياد). وهذا ما يعكس تأكيد غرامشي على الجوهر السياسي لكل الحياة الاجتماعية.

المجتمع المدني: نجاح الثورة في الشرق وفشلها في الغرب
من المعروف أن الماركسية اعتبرت أن نمو الرأسمالية الصناعية سينتج طبقة عمّالية عملاقة وركوداً اقتصادياً دورياً. هذا الركود، إضافة إلى التناقضات الأخرى للرأسمالية، سيقود الغالبية العظمى من العمّال والسكّان، إلى الثورة للإطاحة بالرأسمالية، والبدء في التحوّل إلى مجتمع شيوعي. وبالتالي انطوى منطق الماركسية على أن التغيير في البنية الاقتصادية ينطوي على انقلاب في البنية السياسية والثقافية.
يُقرّ غرامشي أن الاقتصاد يوفّر قاعدة لتكوين الطبقات: العمّال، الفلاحون، البرجوازية... وأن الاقتصاد يحدّد القوة الموضوعية لكل طبقة ويؤسس في نفس الآن للحدود في العلاقات بينها. ولكن الصراعات والتحالفات التي تدور بين الطبقات تجري في ميدان السياسة والإيديولوجيا، وهو ميدان له منطقه الخاص، وليس مجرد انعكاس آلي لمنطق العلاقات الاقتصادية. ولهذا على الرغم من توقّع ماركس وإنجلس، في «البيان الشيوعي»، سيناريو الثورة البروليتارية بالاستناد إلى آليات النمو الاقتصادي الرأسمالي، فإن العمّال في البلدان الصناعية لم ينجزوا هذه «المهمة» حتى بعد عقود على هذا التوقّع.
لقد شغلت مسألة عدم نجاح الثورة في البلدان الرأسمالية الغربية عموماً حيزاً كبيراً في مناقشات قيادات الأحزاب الشيوعية، خصوصاً في مؤتمرات الأممية الشيوعية، بعد انتصار الثورة البلشفية. وبينما كان البعض من قادة «الأممية الثالثة» يبحثون عن تفسير فشل الثورات الأوروبية في سياسة ونهج القوى العمالية هناك، اتجه غرامشي لفهم الوضع السياسي والاجتماعي في مجتمعات الشرق (روسيا القيصرية) وفي المجتمعات الغربية ودولها ولأسباب صمود أنظمتها، كما لفهم الأخطاء التي ارتكبها الشيوعيون بالذات. رداً على تساؤل غرامشي: لماذا فشلت الثورة في أوروبا الغربية في عشرينيات القرن الماضي، مقابل نجاحها في «الشرق» الروسي؟ جاءت إجابته على الشكل الآتي: «في الشرق، كانت الدولة هي كل شيء، وكان المجتمع المدني بدائياً وهلامياً gélatineuse. أما في الغرب ففشل الثورة يعود إلى تبلور قوي للمجتمع المدني بالذات».
انطلق غرامشي في موقفه من التحليل الذي تقدّم به لينين. أوضح لينين في «خطاب دفاعاً عن تكتيك الأممية الشيوعية في أول تموز 1920» (في المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية، 22 حزيران/12 تموز 1921) أسباب نجاح الثورة البلشفية في روسيا وأسباب فشل الثورات في الغرب الأوروبي. وذلك في سياق مناقشته لمنطق النضال الهجومي الذي اعتمده الحزب الشيوعي الألماني والنمساوي والإيطالي، واعتراضها على الموضوعات التي عرضها الوفد الروسي، ومن ضمنها رفض التكتيك الهجومي بدون توفر شروط معينة له... (لينين، المختارات في 10 مجلدات، المجلد 10 (1920- 1923)، ترجمة الياس شاهين، دار التقدم، موسكو، 1978).
كان لينين في اقتراحاته يطالب الأحزاب الشيوعية بضرورة حصولها على «القيادة الفعلية لأغلبية الطبقة العاملة» كشرط للقيام بالثورة (ص 403). «من لا يفهم أنه ينبغي لنا أن نظفر بأغلبية الطبقة العاملة في أوروبا - حيث البروليتاريا كلها تقريباً منظّمة... فهو لن يتعلّم أبداً أي شيء إذا لم يكن بعد قد تعلّم هذا في سياق ثلاث سنوات من ثورة كبرى» (ص 404)... «لقد كنا في روسيا حزباً صغيراً، ولكنه كان معنا، بالإضافة، أغلبية سوفييتات نواب العمّال والفلاحين في عموم البلاد... فأين هذا عندكم؟ وكان معنا حوالى نصف الجيش الذي كان يضم آنذاك 10 ملايين شخص على أقل تقدير. ترى هل أغلبية الجيش معكم؟ دلّوني على بلد كهذا!» (ص 405)... «لقد انتصرنا في روسيا وانتصرنا بفائق السهولة لأننا حضّرنا ثورتنا إبّان الحرب الإمبريالية. وهذا هو الشرط الأول. كان عشرة ملايين من العمال والفلاحين مسلحين عندنا، وكان شعارنا: الصلح الفوري، بأيّ ثمن كان. وقد انتصرنا لأن مزاج أوسع الجماهير الفلاحية كان مزاجاً ثورياً مناهضاً لكبار الملاكين العقاريين... دلّوني في أوروبا على بلد تستطيعون فيه أن تجتذبوا إلى جانبكم أغلبية الفلاحين في سياق بضعة أسابيع؟» (ص 408)... «لأجل إحراز النصر، لأجل الاحتفاظ بالسلطة، لا تنبغي أغلبية الطبقة العاملة وحسب... بل تنبغي كذلك أغلبية المستَثمَرين والكادحين من سكان الريف. فهل فكّرتم في هذا؟» (ص 412).
انطلق غرامشي من هذا الموقف اللينيني، ومن ملاحظته أن روسيا القيصرية كانت تفتقر إلى مجتمع مدني صلب وراسخ (مجتمعها المدني هلامي- gélatineuse) ليساهم بحماية الطبقة المسيطرة التي تقوم سيطرتها على أجهزة العنف والقمع فحسب، وعندما ضعفت هذه الأجهزة (انحياز نصف الجيش الروسي إلى البلاشفة وأسباب أخرى) انهارت الدولة الروسية وانتصرت الثورة. وذلك بعكس ما كانت عليه الحال في الغرب حيث شكّل المجتمع المدني (النقابات، الأحزاب السياسية، الإيديولوجيا، التجربة الديمقراطية و...) سلسلة قوية من «القلاع والتحصينات» تستند إليها الدولة البرجوازية في حماية سيطرتها. وخلاصة الأمر هنا: ضعف المجتمع المدني في روسيا سهّل انتصار الثورة، بينما قوة المجتمع المدني في الغرب ساهمت في إفشال الثورة.

الهيمنة (الثقافية)
يستنتج غرامشي أن فشل العمّال في الغرب في القيام بالثورة الاشتراكية يرجع إلى أن الثقافة المهيمنة البرجوازية تحكم إيديولوجياً الطبقة العاملة ومنظّماتها. بعبارة أخرى، فإن تصورات الطبقة السائدة الثقافية، أي الإيديولوجيا الليبرالية السائدة، أثرت في خيارات جماهير العمال أكثر مما كان باستطاعة ماركس أن يعتقد. ففي المجتمعات الصناعية «المتقدمة»، أنتجت البرجوازية أدوات ثقافية خالقة لهيمنة الطبقة السائدة، البرجوازية، وأضعفت التوجه الاشتراكي. وعلى سبيل المثال فإن التعليم الإلزامي ووسائل الإعلام والثقافة الشعبية خلقا «وعياً زائفاً» لدى عمّال المجتمعات الأوروبية المتقدمة صناعياً. ومن نماذج التعبئة الليبرالية: «المنافسة الواسعة الانتشار صحّية» و«السوق تنظم نفسها ذاتياً» إلخ... وعليه فبدلاً من اتجاه العمال لإحداث ثورة تخدم بالفعل حاجاتهم ومصالحهم الجماعية، استسلموا لتعبئة النزعة القومية والاستهلاكية والترقي الاجتماعي، وأُشبعوا بروح التنافس الفردي والنجاح الشخصي أو حتى الوقوف وراء القادة البرجوازيين.
يرى غرامشي، باختصار، أن نجاح السلطة البرجوازية بالاستمرار في السلطة والصمود، لا يقتصر على القبضة الحديدية التي تُخضِع بها البروليتاريا، بل يعود ذلك أساساً إلى هيمنتها على التصورات الثقافية (الوعي) المنتشرة لدى جماهير العمال. هذه الهيمنة الثقافية تؤدي بالمغلوبين إلى تبنّي وجهة نظر الغالبين عن العالم وقبولها كـ«بديهية». وهكذا فإن سلطة البرجوازية تتحقق وتستمر من خلال نشر القيم البرجوازية عبر المدارس والكنيسة والأحزاب والمنظمات العمالية والمؤسسات العلمية والجامعات والفن ووسائل الاتصال الجماهيري... فالعديد من المراكز الثقافية تروّج للتصورات التي تغزو شيئاً فشيئاً العقول وتسمح بالحصول على موافقة (رضا) العدد الأكبر. هذا هو معنى ممارسة الدولة للهيمنة بـ«الرضا»، أي بموافقة واقتناع الطبقات المغلوبة. وهذه الهيمنة الثقافية يقوم بمعظمها المجتمع المدني وتجري في المجال الثقافي، الثقافة. والثقافة مرتبطة «عضوياً» بالسلطة وبالصراع عليها. ومن هنا فالهيمنة الثقافية مفهوم يصف السيطرة الثقافية للطبقة الحاكمة، وكذلك الدور الذي تلعبه الممارسات اليومية والمعتقدات الجماعية في تأسيس أنظمة السيطرة.
ولكن هيمنة البرجوازية ليست مطلقة ومؤبدة وراسخة لا تتزعزع. بل هي عرضة للمواجهة على المستوى الثقافي داخل المجتمع المدني. فالثقافة ميدان صراع على الهيمنة داخل المجتمع المدني. وهنا يكون الأمر عبارة عن معركة لكسب المجتمع المدني. ولما كان هذا الصراع محصلة تفاعل بين الثقافة والسياسة، فالهيمنة هي البعد الثقافي لممارسة السياسية، هذا البعد الذي ينطوي على ديناميتين متعاقبتين. أولاً، عملية إعادة تركيب للثقافة تعتمد على الإقناع الفكري والمفاوضات السياسية بغية تشكيل «كتلة شعبية». ثانياً، الانتقال إلى خطة جديدة سياسية ناتجة عن مشروع اجتماعي في طريق تحققه. وهذا الصراع على الهيمنة (الثقافية) يقوم به بشكل أساسي من يسمّى بـ«المثقّف».

الحزب الثوري: «الأمير الحديث»، المثقف العضوي، المثقف الجماعي
من هو المثقّف؟ يعتبر غرامشي جميع الناس مثقّفين، ولكنهم لا يلعبون جميعهم الدور الاجتماعي للمثقف (وظيفته العملية). يتحدّد المثقف بوظيفته التي لا تقتصر على أنه مبدع للأفكار (وبالتالي المفكّر العظيم). يقيم غرامشي أكثر من تمييز بين الناس بالنسبة للثقافة. فهناك منتج الثقافة، ومروّجها ومستهلكها. كما يميز غرامشي صنفين كبيرين من المثقّفين: 1) «المثقّف العضوي» الذي يقوم بدور مربّي ومنظّم طبقة اجتماعية. وهو لا يكتفي بوصف الحياة الاجتماعية تبعاً للقواعد العلمية فحسب، بل يعبّر بالأحرى عن تجارب ومشاعر الجموع التي لا تحسن التعبير عنها بنفسها. يرتبط «المثقّف العضوي» بطبقة، من خلال ارتباطه بنقابة، أو بمؤسسة، أو بحزب... وكلما كانت الطبقة أقوى، كمياً ونوعياً، كلما اشتدت الصلات بين المثقفين والمنظمات التي ينشطون فيها. والحال فإن هذه المنظمات مرتبطة بالطبقات الاجتماعية بالطبع. 2) «المثقّف التقليدي» الذي يريد أن يكون خارج التاريخ ليشهد على قيم مفترضة عالمية. هذا الصنف يهمله غرامشي لأنه بدون فعالية اجتماعية.
ثمة صنف آخر: المثقف العضوي للطبقة العاملة، وهو الحزب الثوري الذي سمّاه غرامشي «الأمير الحديث»، بينما سمّاه توغلياتي (Togliatti، الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي من 1927حتى 1934، ومن 1938 حتى وفاته عام 1964) «المثقف الجماعي»، ونُسبت هذه التسمية، بشكل غير صحيح، إلى غرامشي («المثقف الجماعي» عبارة كانت رائجة في أوساط الثقافة اليسارية في سردينيا). لكل طبقة اجتماعية مثقفوها، وهم مثقفون على شكل خاص بهم. الشكل الخاص للمثقفين العضويين للطبقة العاملة أو المضطهدين عموماً هو الحالة الجماعية، التي قد تكون حزباً أو ربما شيئاً آخر... المهم أن بُعْدَ الجماعية هو الأساس فيها.

الهيمنة الثقافية تؤدي بالمغلوبين إلى تبنّي وجهة نظر الغالبين عن العالم وقبولها كـ«بديهية»

يصر غرامشي على الربط بين مفاهيم تحرر الجماهير والمثقف العضوي والحزب السياسي. وهو يعطي في أعماله للحزب دور أداة بتصرف الجماهير العمّالية. هو الأداة القادرة على التعبير عن الإرادة والطموحات الجماعية لطبقة اجتماعية معينة وذلك لغرض محدد مفاده أن تبلغ الجماهير حالة الهيمنة السياسية، أي «بناء أداة هيمنة للطبقة العاملة، أو للحزب بوصفه: مثقفاً عضوياً، قيادة سياسية، مثقفاً جماعياً، أداة لتنظيم الطبقة والتوسع الاجتماعي لمشروعها ومحالفاتها، وللتقدم السياسي للكتلة الشعبية». هذا التصوّر للحزب كمنظمة عضوية للطبقة العاملة يندرج في نهج ماركس ولينين: «لا يمكن للطبقة أن تعي ذاتها كطبقة، أي إنها لا يمكنها إدراك ذاتها كمجموع متجانس إلا من خلال منظمة ما». إن نشوء هذه المنظمة يشجّع بناء الكتلة الشعبية، أي توحيد مجموع شرائح المجتمع الراغبين بتغيير قواعد الحياة الاجتماعية القائمة.
يرى غرامشي أن الحزب الثوري هو القوة القادرة على إعداد مثقفين عضويين من أجل العمّال، وهيمنة بديلة في المجتمع المدني. فالحزب يوحّد مثقفي البروليتاريا، يوحدهم مع بعضهم ويوحد ثقافتهم. وبذلك يكون هو «المثقف الجماعي» الذي يقوم بالتجارب ويواجه يومياً الوقائع السياسية، ويقيم بوتقة توحيد النظرية والممارسة. الحزب هو الأكثر قدرة على تغيير ميزان القوى الثقافية القائمة وفرض هيمنة طبقة اجتماعية، الطبقة العاملة. وإذا كانت البرجوازية يمكنها الانقسام على ذاتها، فالبروليتاريا وهي في الوضع الضعيف عليها أن لا تسمح لنفسها بذلك. وتكمن أهم مسألة في توحيد «الحزب الإيديولوجي» والحزب كـ «منظمة عملية» (باختصار: كبار المثقفين والمناضلين البسطاء)، وفي نفس الآن توحيد شتى فئات الطبقة العاملة.
يرى غرامشي أن الحزب المنظّم يتكون من «الجنود» و«الضبّاط» و«الرتباء». الجنود هم المناضلون البسطاء، هم الجمهور. يشكّل الضباط المنظرين والاستراتيجيين، وعليهم تقع مهام التربية والمركزة والضبط و«الإبداع». كما عليهم ينكبّ النشاط النظري والعملي داخل الفريق. وثمة أولوية تُعطى للضبّاط الذين «يسارعون إلى تشكيل جيش حيث لا يوجد أي شيء». أما «الرتباء» فيشكّلون أخيراً العنصر الوسيط المكلّف بنقل الأوامر، ولكنهم يقومون أيضاً بالتعليم والتنظيم والإعداد. على الرتباء أن يتمكنوا من الحلول بسرعة مكان القيادة العامة (الضبّاط) في حال انهيارها. وأهم ما في عمليات التربية الحزبية والإعداد الفكري: ربط التعليم بالأنشطة السياسية العينية، المدرسة الحزبية، الدروس بالمراسلة، العمل حول الجريدة الحزبية بوصفها أهم منظم في الحزب.

كيفية بناء الهيمنة الثقافية
كيف يمكن للحزب الثوري أن يواجه الهيمنة البرجوازية السائدة والمسيطرة على عقول الطبقات المغلوبة، وبالتالي ما العمل ليبني هيمنة ثقافية تستقطب الطبقة العاملة وجمهور الفئات الفقيرة؟ استناداً إلى غرامشي، عليه أن يعمد بداية إلى بلورة الأفكار التقدمية، الاشتراكية والبديلة عن أفكار الليبرالية. ثم العمل في الأوساط الهامشية وفي الفجوات الاجتماعية التي لا تسيطر فيها الهيمنة البرجوازية. عليه القيام بعمل صبور ومثابر. هذا ما يسميه غرامشي عمل «النمل الأبيض» (أو «دود الخشب»، أو «أرضة»)، العمل الهدّام الخفي، المؤدّي لممارسة التآكل التدريجي لجميع قواعد المجتمع الرأسمالي التقليدي. ويكون الهدف هنا هو هزيمة مثقفي الطبقة المسيطرة. مهمة خصصها غرامشي للمثقفين بالمعنى الواسع، المرتبطين عضوياً بالعمّال «المثقف الجماعي»، الحزب، «الأمير الحديث». للقيام بذلك، من الضروري اقتحام وسائل الإعلام الجماهيري، واجتياح اللغة اليومية، أو السعي لفرض مواضيعهم ومفاهيمهم في النقاش الأكاديمي والشعبي. كما يجب وضع مفاهيم النيوليبرالية ومفرداتها موضع النقد والتساؤل لتسفيهها ورفضها ووضع مواضيع ومفاهيم أخرى مكانها مثل: «كارثة بيئية»، «الراتب الأعلى»، «إعادة التوطين»، «المجانية»، «السلام الاقتصادي»، «الخدمات الجماعية»، «الشعب»، «تخلّف النمو»، «العمل المؤقت»، «المساواة الحقيقية»، «البحث عن الرفاهية»، إلخ. إن الطبيعة المعقّدة للمجتمع المدني الحديث تعني أن هزيمة الهيمنة البرجوازية وبلوغ الاشتراكية أمر مستحيل بدون «حرب مواقع» مجالها الثقافة وغرضها تحقيق الهيمنة البديلة لهيمنة البرجوازية أو هيمنة أفكار ممثليها داخل دائرة المجتمع المدني.
نأمل أن يكون هذا العرض السريع مساعداً للثوريين في بلادنا في هذه المرحلة التي اتسع فيها نفوذ الطبقة السائدة في أوساط الجماهير الشعبية، والتي خبا فيها أفق الثورة الاجتماعية وبات بعيداً، ومعه ابتعدت المعارك المباشرة بين الطبقات الاجتماعية، ما يجعل الثقافة الجبهة الأساسية للصراع الاجتماعي.
* كاتب لبناني

- ولادة حزب الله الثانية
فادي يونس

في عام 1985 كانت ولادة حزب الله الأولى. بدا في بيانه إلى المستضعفين تنظيماً جهادياً يقود ثورة من أجل جمهورية إسلامية غير آبه بالطوائف الأخرى، حاجته إلى المجتمع لا تتجاوز بيئة قوته العسكرية. وبعد ثلاثة عقود من الانتصارات العسكرية والسياسية، تمّ تجميد عضوية نائب من أبرز وجوه الحزب بسبب عبارة مسيئة لبشير الجميل.
في تفسير تلك التحوّلات، هناك تصوّر مسيطر لدى دارسي حزب الله يربطها بالطبيعة البراغماتية للحزب باعتباره لاعباً عقلانياً يضبط طموحه السياسي بالحدود الطائفية. تبدو تلك الأراء سطحيّة، إذ تتعامل مع المظهر البراغماتي من دون البحث في أسباب العقل البراغماتي لدى حزب الله. ببساطة، لا تعبّر التحولات عن عقلية براغماتية تنطلق من الحدود الطائفية بقدر ما تعبّر عن ضرورات الصراع ونتائج الحروب المستمرة.
تساعدنا دراسة حسام مطر عن حرب القوة الناعمة بين الولايات المتحدة وحزب الله في كتابه «ما بعد القتال» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ـــ 2018) على فهم تحولات حزب الله وربطها بضرورات الصراع. تظهر لنا الدراسة كيف تدفع الحرب الناعمة الأميركية حزب الله إلى إعادة بناء مشروعيّته بما يتجاوز المقاومة، ما يفتح الآفاق لفهم تحولات الحزب الداخلية ومقارباته لمختلف الملفات من الرؤية الدينية إلى محاربة الفساد الحكومي حفاظاً على مشروعيته.

إعادة تعريف معنى السيادة
يرصد مطر صراعاً مريراً بين الولايات المتحدة وحزب الله حول إعادة تعريف معنى السيادة. في مقابل سعي السياسات الأميركية إلى إعادة تشكيل مجمل الوقائع السياسية ـــــ الاجتماعية في لبنان، عمل الحزب على ضمان تفوّقه في إنتاج الحكايات وسردها بشكل مقنع مع ما يتطلبه ذلك من بناء تحالفات عابرة ومتجاوزة للخصوصية الثقافية.
بعد نجاحه في انتزاع حق الفيتو داخل السلطة التنفيذية في العام 2008، عمل الحزب على اكتساب مشروعيّته كحركة مقاومة من خلال إعادة تشكيل البيئة السياسية في لبنان وضبط خطوطها العامة من دون الغرق في وحول السلطة أو تبوّء السلطة التنفيذية. بدل أنْ يصبح حزب الله مشكلة داخلية في الإطار اللبناني، سعى إلى مشاركة الآخرين في إنشاء سرديّة وطنية، في سبيل هذه الغاية عمل على تحويل صراعه مع حركة «14 آذار» إلى مواجهة مع القوى الإمبريالية. نزع الحزب الشرعيّة عن الثورة الآذارية بالتوازي مع تعزيز هويّته اللبنانية بحيث انخرط في عملية «اللبْننة» لتأكيد ذاته كفاعل سياسيّ وطنيّ شرعيّ. عبر إعادة تعريف الأجنبي، جرّدَ «14 آذار» من شعاراتها المزيّفة في ما خصّ السيادة وأضْفى شرعيّة على علاقاته بسوريا وإيران.
ما يمكن ملاحظته من عملية احتواء القوة الناعمة الأميركية أنها تتجاوز إضعاف حركة «14 آذار» لصالح العمل على إعادة التعريف والبناء لمعنى معايير محدّدة كالسيادة والديموقراطية، وهو أمر مناقض لثقافة القناصل التي ميزت الحياة السياسية اللبنانية منذ عهد المتصرفية. صحيح أنها عملية بطيئة تتطلب سنوات عديدة من النضال اليومي وقد يطالها الفشل في محطات عديدة، لكن حين تجعل تدخّل السفراء (خاصة الأميركي) في الشؤون اللبنانية يبدو نافراً وتقيّد منظمات المجتمع المدني المموّلة أميركياً (في المناطق الشيعية) فإنّك تحدث تغييراً في البيئة السياسية بشكل لم يعهده لبنان سابقاً.
في مقابل سعي الحزب لإحداث تغييرات في الإطار السياسي الوطني، دفعتْ سياسات القوّة الناعمة الأميركية الحزب إلى تكييف مؤسساته وخطابه وسرديّاته وتطويرها بشأن هويته وثقافته وسياساته ليصبحَ أكثرَ تناسقاً مع السياق اللبناني، بل أكثرَ جاذبية في تصوّر الجمهور المحلي، وحتى يتمكّن من تحدّي رسائل القوّة الناعمة الأميركية وتقييدها ونزع المشروعية عنها وهي رسائل أرادتْ تشكيل المعايير الاجتماعية بشكل يحطّ من صورة حزب الله ويهمّش ثقافته لدى اللبنانيين: الشيعة والمسيحيين على وجه الخصوص.

إعادة إنتاج الحكاية
أعادَ حزب الله إنتاج معنى الهوية الشيعيّة بطريقة أصبحتْ فيها مقاومة إسرائيل جزءاً مندمجاً فيها. وباستخدام السرديّات والصور الشيعية الدينية المستقاة من مراجع ثقافية أساسية أسهمَ في توليد إحساسٍ قويّ بالانتماء والوحدة داخل المجتمع الشيعي. أصبحتْ تلك الهوية مرئية بقوة في الشوارع وعلى شرفات المنازل وعلى الأجساد وفي الأصوات واللغة، بفعل الجهود الثقافية للحزب. مع ذلك، لا يسعى الحزب عبر مقاربته الثقافية إلى بناء مجتمع ديني، بل إلى دمج المجتمع الشيعي ككلّ في هوية المقاومة.
تجنباً لفقدان الهوية والاغتراب الثقافي، يتسامح الحزب مع انتشار بعض المفاهيم الغربيّة ويستوعبها بهدف إعادة إنتاج معانيها وفقاً لمعتقدات الحزب واحتياجاته، خاصة أنّه يدرك أنّ هدف السياسات الأميركية ليسَ إضعاف الدين والتديّن، بل إيديولوجيته، فالمطلوب أميركياً خلق معنى غير ثوري لإيديولوجيّة الحزب بصرف النظر عن شكل التديّن.
بالرغم من رفضه للثقافة الغربية بشكل عام، لا يرتبط العداء بالثقافة، بل بالسياسات الأميركية وما تنتجه من دمار لمجتمعاتنا، لذلك يحاول احتواء جاذبية الثقافة الأميركية عبر تحويل اهتمام الجمهور إلى السياسات الأميركية داخل الشرق الأوسط، هكذا يستطيع استيعاب التحولات وتقديم صورة المقاومة لمناصريه غير المتديّنين على أنها حركة وطنية مناهضة للإمبريالية وليستْ حركة دينية معادية للغرب أو للأمْركة.
يلاحظ مطر نجاحاً كبيراً لقوة أميركا الناعمة في الرواج الواسع لأنماط الاستهلاك الغربيّة بين الشباب الشيعة، الأمر الذي يدفع الحزب إلى أن يكون أقلّ حدّة في فرض قيمه ومعاييره داخل مجال نفوذه الاجتماعي. نحن أمام ملاحظة بالغة الأهمية، إذ يمكن الاستنتاج بتراجع تيار ديني متشدّد أكسبته مشاركة الحزب في الحرب الأهلية السورية زخماً وحضوراً بين الشباب الشيعة لصالح رؤية دينية معتدلة ومتكيّفة ثقافياً، مع ما يعنيه ذلك من أثر سياسي مستقبلياً.

إعادة تعريف الصراع الاجتماعي
في الوقت الذي يتناسى فيه بعض اليساريين أدبيّات الصراع الاجتماعي ويلتحق أغلبهم بالرأسمال الخليجي، يستخدم حزب الله الكثير من أدبيات مناهضة الاستعمار للتعبير عن المطالب الاجتماعية للطبقات الفقيرة والوسطى بطريقة واقعية. لا وجود للأوهام الاقتصادية، بل يدرك العوائق البنيوية والسياسية لأيّ محاولةٍ إصلاحية. في خطاباته الانتخابية لم يطلق نصر الله وعوداً لا طاقة للحزب على تنفيذها.
يساعد الخطاب الاجتماعي، خصوصاً طرح الدولة القوية ـــ العادلة، حزب الله على تحدّي سردية الميليشيا، ويمكّنه من إعادة تقديم نفسه بطريقة تجعله قادراً على مدّ الجسور مع مختلف التشكيلات الاجتماعية ـــ الثقافية اللبنانية. لكن الخطاب الاجتماعي لا يعبّر فقط عن طموحات الحزب المستقبلية، بل أيضاً عن تحولات الطبقة الوسطى عند الشيعة، ومدى تأثيرها وتأثّرها بسياسات الحزب. يأتي مؤيّدو الحزب غالباً من الطبقات الوسطى ومن المتعلّمين تعليماً عالياً. ترى هذه الفئة في بعض المنتجات الغربية قيماً مقبولة دينياً، حتّى المتدينون منهم يظهرون أسلوباً حديثاً من التديّن من خلال إعادة تعريف بعض القيم الإسلامية بشكل أقلّ محافظة. وهذا ما يظهره الكثير من الطلاب الجامعيين الشيعة الذين أصبحوا ينتجون نمطاً جديداً من التديّن يتضمن قبولاً لقيم وسلوكيات جديدة.
يعمل الحزب على احتواء هذه الظاهرة من خلال سياسات واقعية تجمع ما بين القبول والتأثير والاحتواء لجوانب مختلفة من هذا التحوّل. في الجانب الثقافي، يسعى ليكون أكثر انفتاحاً وتسامحاً بغية اجتذاب غير الملتزمين والحدّ من عملية التديّن الحديث. في الجانب الاجتماعي لم يعد بإمكان الحزب ربط مشروعيته بمقاومته، لقد تجاوز الواقع تلك المرحلة وأصبح الحزب أمام «طبقة وسطى شيعية» تؤيد المقاومة، لكن مصالحها مرتبطة بفاعلية الحزب في القضايا الداخلية، أهمها محاربة الفساد ومعالجة الوضع البيئي. باختصار، تُعيد الطبقة الوسطى الشيعية تعريف القيم والممارسات الدينية، دافعةً حزب الله إلى تحرير العمل الاجتماعي من الإطار الخيري إلى الانخراط الفاعل في الدولة وفي رسم السياسات العامة مستقبلاً.

خاتمة
في البداية كانت الانطلاقة استجابة لمنطق الحرب. انتصر حزب الله في الحروب، لكن منطق الصراع أجبره على قبول أنماط جديدة من التديّن، كما أعاد تشكيل بعض أوجه بيئته الاجتماعية. يسأل مطر في ختام دراسته الأكاديمية إلى أيّ مدى سيتمكن الحزب من الاستمرار في تحديث أدواته وحفظ قيمه الأصيلة في آنٍ واحد؟ تاركاً لنا الاستنتاج: بقدر ما تُغيّر الحرب من حزب الله تُسهم في ولادةٍ جديدة للحزب ملامحها الاعتدال الديني والانفتاح الثقافي والانخراط الفاعل في السلطة التنفيذية، وهو ما يزيد من تعقيدات الصراع الطائفي ويسرّع في انهيار اتفاق الطائف.
*باحث لبناني

- الجولان السوري المحتلّ: خزّان المياه والنبيذ لإسرائيل
ضياء علي
«إنّ من ينزل عن هضبة الجولان، يكون قد تخلّى عن أمن إسرائيل»
اسحق رابين [1]

سيطرت إسرائيل خلال وبعد حرب 1967 على حوالى 80% من مساحة هضبة الجولان بواقع 1158 كلم مربّع، واستعادت سوريا 100 كلم مربّع منها في حرب تشرين 1973. حتى يوم الرابع من حزيران 1967 كان عدد سكان الجولان ما يقارب 130.000 نسمة يقيمون في أكثر من 139 قرية وتجمّع سكّاني ومزرعة، ويعيشون أنماطاً اجتماعية بين بدو وحضر وينتمون إلى اثنيّات مختلفة (عرب تركمان وشركس) معظمهم من المسلمين السنّة ومنهم مسيحيون (2). خلال شهر من الاحتلال بقي منهم حوالى 6000 شخص مجتمعين في الطرف الشمالي الغربي من المنطقة. يعيش اليوم في الجولان السوري المحتلّ ما يقارب 26,000 سوري، في الخمس قرى المتبقّية وهي: مجدل شمس - أكبر هذه القرى- وبقعاتا، ومسعدة وعين قنيه، والغجر، معظمهم من الموحدين الدروز وجزء بسيط من الطائفة العلوية يتمركزون في قرية الغجر.

التطهير العرقي وضمّ الجولان المحتل
كان الجولان، قبل احتلال إسرائيل له في حرب حزيران/ يونيو 1967، مثالاً للتنوّع الإثني والطائفي في سورية. فعلى أرضه عاش، بوئام، الشركس والتركمان والأكراد والأرمن والعرب. وازدهر التسامح والتدامج بين مختلف طوائفه، كالسنّة والمسيحيين والدروز والعلويين والإسماعيليين والشيعة، فكأن الجولان صورة مصغّرة لسورية التقليدية التي خرجت من تحت أنقاض الإمبراطورية العثمانية وانبثقت، كدولة حرّة مع الملك فيصل الأول، ودشّنت بقيادة سلطان باشا الأطرش ثورتها الكبرى ضد الانتداب الفرنسي بشعار «الدين لله والوطن للجميع».(3)
بحسب المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه فإن التطهير العرقي هو «جهد يرمي إلى تحويل بلد مختلط عرقياً إلى بلد متجانس من خلال طرد جماعة من الناس وتحويلهم إلى لاجئين مع هدم البيوت التي تم إجلاؤهم عنها»(4). وبدون شك فإن فكرة الترحيل لها جذورها العميقة والممتدة في العقلية الصهيونية، فها هو حاييم وايزمن يقول في خطاب ألقاه أمام الاتحاد الصهيوني الإنكليزي سنة 1919: «عندما أقول وطناً قومياً يهودياً فإنني أعني خلق أوضاع تسمح لنا، بينما نحن نطوّر البلد، بأن نُدخل إليه عدداً وفيراً من المهاجرين، وأن نقيم في نهاية الأمر مجتمعاً في فلسطين بحيث تصبح فلسطين يهودية كما هي إنكلترا إنكليزية أو أميركا أميركية»(5).
وما كشفه شبتاي ليفي الذي كان عميلاً لشراء الأراضي لحساب الجمعية الفلسطينية للاستعمار اليهودي (بيكا)، التي أسسها البارون روتشيلد، في مذكراته، أن البارون أشاد بنشاطه في سبيل شراء الأراضي، فكتب يقول: «أشار عليّ بأن أتابع نشاطي المعهود لكنه قال إنه من الأفضل ألا نرحّل العرب إلى سوريا وشرق الأردن، فهما جزء من أرض إسرائيل، بل إلى بلاد ما وراء النهرين (العراق)» (6). وما قاله رحبعام زئيفي في اجتماع قيادة هيئة الأركان الإسرائيلية يوم التاسع من حزيران بأنه «علينا أن نحصل على هضبة نظيفة من السكّان» (7).
إن «منطق الاستعمار الاستيطاني هو الإزالة» كما يقول باتريك وولف، بمعنى إزالة السكّان الأصليين والجلوس مكانهم بقوّة السلاح. وإن ما حدث في الجولان هو تطهير عرقي حقيقي، مارسته إسرائيل خلال وبعد عدوان 67، بهدف استكمال المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني. إذ ما معنى أن يُهجَّر ما يقارب 130 ألف نسمة من أصل 139 ألف؟
إذن نحن أمام محو عنيف ومتصاعد للمنطقة بأكملها استمرّ ما يقارب الستة أشهر التي تلت الحرب حيث تضمّن هدم قرى وقطع مصادر تزويد السكّان بالمياه والغذاء، وتهديدات بالقتل لكل من رفض الترحيل. فالجولان سقط في 9 حزيران / يونيو 1967 ولم يكد يمضي شهر واحد فقط حتى كانت الجرافات الإسرائيلية تباشر تدمير القرى العربية ومحو معالمها عقب رحيل السكّان نحو المناطق غير الخاضعة للاحتلال (8).

ما حدث في الجولان هو تطهير عرقي حقيقي مارسته إسرائيل خلال وبعد عدوان 67

وما حدث مع سكّان قرية سحيتا واحد من الأمثلة على ذلك، حيث قام الجيش الإسرائيلي بإخلائهم ونقلهم إلى قرية مسعدة، بعد أن وعدتهم سلطات الاحتلال بعدم المساس ببيوتهم وبأنها ستعيدهم إلى القرية بعد أن تتحسن الظروف. لكن ما حدث أن الجيش الإسرائيلي قام بهدم كل البيوت بعد إخلاء القرية من السكّان، وحتى اليوم لم يسمح الاحتلال للسكّان بالعودة وأُعلنت القرية وجزء كبير من أراضيها منطقة عسكرية مغلقة ممنوع على السكّان دخولها (9).
تجلّت السيطرة الإسرائيلية على الجولان من خلال سنّ الكنيست الإسرائيلي عام 1981 قانوناً يقضي بضمّه وتطبيق القوانين الإسرائيلية عليه، فعملت إسرائيل على فرض الجنسية الإسرائيلية بالقوة على السكّان، إلا أنهم رفضوا ذلك رفضاً قاطعاً وتمسكوا بهويتهم القومية العربية، وألقوا ببطاقات الهوية الإسرائيلية على جوانب الطرقات، فدفعوا ثمناً لموقفهم الرافض وتعرّضوا للتنكيل والاعتقال وحكم على عدد منهم أحكام عالية ومورست ضد عدد كبير منهم سياسة الاعتقال الإداري التي تستند إلى قوانين الطوارئ التي سنّتها بريطانيا عام 1945. وعملت حكومة إسرائيل وبشكل مستمر على استبعاد السكّان من المشاركة في إقرار برامج وسياسات التخطيط الذي يتمّ بشكل مركزي ومن الأعلى للأسفل، وتعقيد شروط البناء والعمران وسياسة هدم البيوت، والتمييز في النظام التعليمي حيث يتمّ العمل على نزع أي صفة قومية عروبية عن سكان الجولان من خلال فصل مدارس الجولان عن القسم العربي في جهاز التعليم وضمها للقسم الدرزي وإنشاء برامج تعليمية خاصة بالدروز بهدف تعزيز هويتهم الطائفية على حساب الهوية القومية، عدا عن كون الجولانيين لا يشاركون بإعداد هذه المناهج التعليمية (10).

الاستيطان في الجولان
منذ اليوم الأول للاحتلال أعلنت إسرائيل أن الجولان منطقة عسكرية مغلقة يحظر على الناس دخولها، حتى يتسنّى لها استكمال مخطط «التطهير» والسيطرة بعيداً عن الضجة ووسائل الإعلام، وبالتالي تكون قد ثبّتت أمراً واقعاً لا يمكن تغييره، وبعد شهر واحد فقط من الاحتلال كانت أول مستوطنة تقيمها إسرائيل في المناطق المحتلة هي في الجولان في 14 تموز / يوليو 1967 وهو كيبوتس «ميروم هجولان» (11).
في أواخر عام 1970 قال دافيد بن غوريون: «إن الضرورة تحتّم حالياً وفي أقرب وقت ممكن، إقامة عشرين مستوطنة يهودية في هضبة الجولان بالإضافة إلى المستوطنات القائمة حالياً. ذلك أن هذه الوسيلة في نظري هي من أنجح الوسائل التي يمكن بواسطتها إبقاء هذه الهضبة تحت سيطرتنا. إن العالم حينذاك لن يبادر إلى طرد اليهود من هذه المنطقة» (12).
أقامت إسرائيل في الجولان المحتل 34 مستوطنة يسكنها حوالى 26 ألف مستوطن يعيشون على أنقاض القرى العربية المدمَّرة، أكبر هذه المستوطنات من حيث عدد سكانها هي مستوطنة «كتسرين» وفيها 8,141 مستوطن، بُنيت عام 1973 تحتوي على عدد من الخدمات الاجتماعية ومراكز التسوق ومركز مجتمعي وحديقة حيوانات وتمتاز بكثرة الحدائق وطبيعتها الجاذبة للسيّاح (13). تليها مستوطنة «خسفين» بُنيت عام 1978 ويسكنها حوالى 1,455 مستوطن وتتميز بنمط حياة ديني وهي بمثابة مركز تعليمي للصهيونية الدينية في الجولان المحتل، أقام الاحتلال على مقربة منها محمية «نوفيس آيريس» الطبيعية (14). وأصغر هذه المستوطنات هي مستوطنة «نمرود» تأسست عام 1982 وهي أعلى مستوطنة في الأراضي المحتلة وتسكنها حوالى 13 عائلة إسرائيلية (15).
حين نلقي نظرة سريعة على خريطة الاستيطان في الجولان نلاحظ أن للعامل العسكري أهمية استراتيجية في توزيع المستوطنات، فهي تنتشر في نطاقين: الأول يمتد على شكل قوس يبدأ من سفوح جبل الشيخ قرب بانياس ثم يسير بمحاذاة خط وقف إطلاق النار (10/06/1967) على امتداد المحور الرئيسي (طريق مسعدة ــــــ القنيطرة ــــــ الرفيد ــــــ الحمة) فيما يتمركز النطاق الثاني في جنوب غرب الجولان عند حدود (04/06/1967) بمحاذاة الشواطئ الشرقية لبحيرة طبريا (16). ونجد أن هناك عدداً ليس بالقليل من المستوطنات مقابل عدد قليل من ساكنيها، فمعظمها لا يتجاوز بمعدله الـ 700 مستوطن لكلّ واحدة. وهذا ما يفسّره كل من نيف غوردون وموريل رام في مقالهما حول التطهير العرقي وتشكيل أنماط جغرافيا الاستعمار الاستيطاني (17)، إذ افترضا «وجود علاقة بين الاكتمال النسبي للتطهير العرقي ونوع الاستعمار الاستيطاني الذي يجري إنتاجه، أي بشكل أوضح، فإن درجة ونسبة التطهير العرقي هي ما حدّد طبيعة الوجود الاستعماري وحدوده، ومثال ذلك الضفة الغربية والجولان، فالأولى كان فيها التطهير نسبياً، وبالتالي تم الضخ باتجاه إقامة استيطان مدني بالقوة العسكرية بشكل مكثّف واعتبار المستوطنين تقنية للسيطرة على السكان الأصليين ومنعهم من إقامة دولتهم. أما في الجولان فلم يكن هناك حاجة كبيرة لوجود عدد كبير من المستوطنين فدرجة التطهير العرقي كانت عالية وشبه كاملة». من أصل 139 قرية سورية بقيت 5 قرى تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي والباقي تم هدمها ومحوها بالكامل وطرد أهلها، وبالتالي فإن أعداد المستوطنين اليهود في الجولان يعد كافياً لتأمين التوازن الديمغرافي في هذه المنطقة.

الاستثمارات في الجولان وصناعة النبيذ
تشير قاعدة البيانات التابعة لـ «مركز الأبحاث الإسرائيلي المستقل» (Who Profits 18) إلى وجود 73 شركة عاملة ومستثمرة في الجولان المحتل، معظمها من القطاع الخاص، 48 منها إسرائيلية ومقرّها الرئيس إسرائيل، و17 شركة مقرها الرئيسي مستوطنات الجولان السوري المحتلّ، والعدد المتبقّي يتوزع ما بين شركات تقع مقراتها في الضفة الغربية المحتلة وأخرى عالمية صينية وأميركية وكورية جنوبية وهولندية. وحين ننظر بشكل سريع تظهر أمامنا الاستثمارات الأكثر حضوراً في هذه المنطقة وهي الاستثمارات الزراعية والصناعات الغذائية والصناعات التحويلة المعتمدة في غالبيتها على الموارد التي توفرها طبيعة الأرض في الجولان المحتل، حيث يشكل هذا المجال من الاستثمارات حوالى الثلث من مجموع ما يتم استثماره واستغلاله في مناطق الجولان وهي نسبة ليست بالبسيطة، والملفت أن كل هذه الشركات هي إسرائيلية مقرّها «إسرائيل» أو مستوطنات الجولان والضفة الغربية. ومثال ذلك شركة Aluma الزراعية التي تعمل على تصدير منتجات المستوطنات من خضار وفواكه، وشركة Assaf Winery لصناعة النبيذ ومقرها مستوطنة «كدمات تسفي»، وشركة Barkan Wineries العاملة في نفس المجال والتي تعتبر واحدة من أكبر مصانع النبيذ في إسرائيل والتي تقوم باستغلال أراضي جنوب الجولان للحصول على العنب، وشركة Bazelet Hagolan Winery لتصنيع النبيذ أيضاً من عنب الجولان، المشتهر بجودته العالية ولذّته، وشركة Beresheet لزراعة وتسويق الفاكهة الموسمية مثل التفاح والكرز... إلخ، ولهذه الشركة التي مقرها الجولان فروع كثيرة في مستوطناته. وإذا تتبعنا باقي القائمة فإن صناعة النبيذ من العنب الجولاني تأخذ الحيّز الأكبر بين الاستثمارات والصناعات. العنب الذي هُجّر وطُرد أصحابه وحُرموا منه في سياق استكمال مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.
تعمل باقي الشركات في قطاعات متنوعة منها ما يعمل في مجال التزويد بالغاز والكهرباء والماء مثل شركة Afek oil and gaz، ومنها ما يعمل في مجال أعمال البناء مثل شركة Agrotop وهي شركة إسرائيلية عالمية منخرطة أكثر في أعمال بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشركة Airbnb الأميركية العاملة في مجال حجوزات السكن السياحية والتي سحبت استثماراتها مؤخراً من الأراضي المحتلة مستجيبة لدعوات حركة المقاطعة العالمية (19). وشركة Altice الهولندية العاملة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، وهذه الشركة متورطة بالعمل في مجالات السيطرة والأمن والمراقبة. وهناك عدد من البنوك مثل Bank ostar hahayal الذي يقدّم الخدمات المالية والمصرفية للمستوطنين في الجولان والضفة الغربية وشرقي القدس. وشركة E.P.R Systems للتكنولوجيا المتطورة ومقرّها الرئيسي في الضفة الغربية المحتلة، تعمل على تطوير البرمجيات المتخصصة بأنظمة المعلومات والأنظمة المالية في المستوطنات. وشركة Hyundai Heavy Industries الكورية الجنوبية وهي من بين أكبر خمس شركات للصناعات الثقيلة في العالم، تعمل في المناطق المحتلّة في مجال مراقبة السكان والخدمات والمعدات المتخصصة في بناء المستوطنات.
أما بالنسبة إلى النفط ففي عام 2016 أعلنت لجنة المنطقة الشمالية أنها سمحت لشركة Afek الإسرائيلية باستمرار التنقيب على النفط في منطقة الجولان المحتلّ لمدة عامَين آخرين، على الرغم من الاعتراض الذي قدّمته جمعية الدفاع عن البيئة بحجة أن القوانين واللوائح لا تتيح للشركة الاستمرار في عمليات التنقيب لأكثر من عام واحد ولما فيها من «أضرار على المياه والصحة العامة في إسرائيل» بحسب تعبير الجمعية. فيما ردّت الشركة بأن استمرار عمليات الحفر يتيح لها «التأكد من وجود خزان نفط تجاري كبير في جنوب الجولان والذي قد يؤدي إلى انتعاش اقتصادي وتقليص للفجوات الاجتماعية في إسرائيل» (20).

إسرائيل ومياه الجولان
ترفض إسرائيل منذ قيامها، الفصل بين ثلاث قضايا رئيسة وهي: الأرض والمياه والأمن بما يخص الحدود على وجه الخصوص، وتعتبرها قضايا متصلة ذات أهمية واحدة. يمثّل الجولان خزان المياه الاستراتيجي ومصدر الثروة المائية الرئيسي بالنسبة إلى إسرائيل (21). هذا ما أكده إسحق رابين أمام أعضاء الكنيست، قائلاً: «ما من قوة في العالم ستزيحنا مقدار أنملة، إن لم يقم سلام، سلام حقيقي وسلام كامل مع الترتيبات الأمنية (...) كان رأيي ولا يزال، أن ثمة قدراً كبيراً من المخاطر الأمنية في أي تنازلات أمنية لسوريا. نحن نضع الكثير في الميزان ــــــ الأمن والسلام معاً ــــــ لكننا لن نوقّع أي اتفاق سلام مع دمشق إن لم نكن مقتنعين بأن أمننا مضمون» (22). وكذلك جاء تأكيد بنيامين نتنياهو على أهمية السيطرة على مصادر المياه لتحقيق الأمن المائي لملايين المستعمرين اليهود بقوله: «إن معظم العمق الاستراتيجي والثروة المائية هما عنصران هامان أيضاً، لدى الحديث عن مستقبل هضبة الجولان، فالجولان تسيطر على مصادر نهر الأردن وبحيرة طبريا، أي على 40% أخرى من احتياطي المياه في إسرائيل والتنازل عن هذه السيطرة، يعني أن نضع في أيدي السوريين القوة لتجفيف إسرائيل» (23).
إن ما ورد في كتاب «الصهيونية والسياسة العالمية» الذي صدر عام 1921 بأن «مستقبل فلسطين بأكمله هو في أيدي الدولة التي تبسط سيطرتها على الليطاني واليرموك ومنابع الأردن، ما يعني السيطرة على الجولان» (24) هو خير دليل على المعرفة والإدراك المبكر أهمية المنطقة في الأمن المائي لمشروع الدولة القادم أي إسرائيل. فمنطقة الجولان المحتلة تمتاز بغزارة مياه الأمطار التي تسقط عليها سنوياً خلال ثمانية أشهر وذلك بما يقارب 1.38 مليار متر مكعب سنوياً، فهي تعتبر أغزر أمطار سوريا. وتطلّ على مرتفعات الجولان قمة جبل الشيخ الذي تكسوه الثلوج طوال العام ويحتوي على أكبر مخزون مياه في المنطقة العربية. وبسبب غزارة مياه الأمطار التي تسقط على الجولان وتركيبته الجيولوجية فإن ذلك يساعد على تخزين المياه في جوف الأرض وبالتالي فإن المنطقة غنية بالمياه الجوفية والينابيع والآبار مثل: بيت جن والوزاني والنخيلة والدب والصيادة والكثير من الينابيع والآبار الجوفية التي تشكّل روافد أساسية لنهر الأردن ونهر اليرموك ووادي الرقاد وبحيرة طبريا وبحيرة مسعدة (25).
وفي سبيل مأسسة وتثبيت السيطرة على موارد الجولان المائية أقامت إسرائيل عدداً من المشاريع مثل: مشروع بركة رام (برخوت رام) وهي عبارة عن فتحة بركانية قديمة (حوالى 400 ألف متر مكعب) وهي مصدر رئيس لمياه الزراعة في المناطق الشمالية من الجولان التي تستغلّها شركة «ميكيروت» الإسرائيلية لصالح الزراعة في المستوطنات (26)، ومشروع مجمّع القنيطرة المائي الذي نفّذته شركة «مي جولان» الزراعية الإسرائيلية في عام 2006 على مساحة 200 دونم وعلى بعد أمتار قليلة من خط وقف إطلاق النار عام 1973 بين سوريا وإسرائيل (27).
إن أهمية المياه بالنسبة إلى المنطقة وإلى إسرائيل تجعل منها عاملاً حاسماً في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، لما للأمن المائي من أهمية وارتباط بمسألة الأمن الغذائي، وبالتالي فإن الاحتلال سيتمسّك بكل قوته بمنطقة الجولان حتى يضمن استمرار حياة ملايين اليهود الذين يعيشون داخل حدوده.

خلاصة
تعمل إسرائيل وبشكل حثيث على تثبيت وجودها في الجولان من خلال مضاعفة الجهد الاستيطاني وتنفيذ مشاريع استثمارية فيه، ومحاولة استغلال كل الموارد الموجودة في هذه المنطقة، واستقطاب رؤوس الأموال والمستوطنين للاستقرار في الجولان المحتلّ وربطهم بمصالح يتم تنفيذها في هذه المنطقة. وبالتالي فإن إسرائيل تعمل على تثبيت هذا الواقع لجعله غير قابل للتغيير أو منع العرب من التفكير في تغييره، مراهنة بذلك على تكثيف الاستيطان وزيادة الاستثمارات فيه. إسرائيل اليوم، بعد واحد وأربعين عاماً، أصبحت تتحدث عن «وجود تاريخي» لليهود في الجولان. وتمارس ضغوطاتها بشكل مستمر على الإدارة الأميركية الحالية للاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان (28). ولا تكاد تخلو دعاية انتخابية لأي من الأحزاب الصهيونية المتنافسة من التأكيد على «العمق الاستراتيجي لإسرائيل في الجولان المحتل»، فقبل أيام وأثناء جولة انتخابية، قال رئيس قائمة «درع إسرائيل» بني غانتس: «لن ننزل عن مرتفعات الجولان» (29)، مكرراً تصريح رابين التاريخي بحرفيته.
إلا أن ذلك، وبكل تأكيد، لا يعني أنها النهاية والقدر المحتوم. ولا يمكن أن تكون الكلمة الأخيرة دائماً لإسرائيل في كلّ شيء. فأهل الجولان الباقون ما زالوا متمسكين بهويتهم وعروبتهم بينما تشهد المنطقة كلها متغيّرات كبيرة، وإسرائيل نفسها تدرك جيداً أن ليس كل هذه المتغيرات في صالحها

*صحافي فلسطيني وطالب ماجستير
«دراسات إسرائيلية» في جامعة بيرزيت

المراجع
بالعربية
. بابيه، إيلان. التطهير العرقي في فلسطين. ترجمة أحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تموز 2007)

. مصالحة، نور الدين. طرد الفلسطينيين: مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين 1882 – 1948.) بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، كانون الثاني 1992)

. نتنياهو، بنيامين. مكان تحت الشمس. ترجمة محمد عودة الدويري (عمان: دار الجليل للنشر، 2015).
. أبو فخر، صقر. “الجولان: شهادات نازحين عن أيام الحرب والحاضر”. مجلة الدراسات الفلسطينية. المجلد 11. العدد 42 (ربيع 2000)

. إبراهيم، حنان علي. “الجولان في الاستراتيجية الإسرائيلية”. مجلة دراسات وبحوث الوطن العربي. العدد 13 (كانون الثاني، 2003)

. الدجاني، هشام. “المطامع الصهيونية في الجولان”. شؤون فلسطين. العدد 124 (1982)

. بريك، نزيه. “تقرير الحق بالسكن، الجولان المحتل”. المرصد – المركز العربي لحقوق الانسان في الجولان. (أيلول 2017)

. “حديث صحفي لرئيس الحكومة الإسرائيلية يعترض فيه على إطار مفاوضات التسوية ويكرر رفضه الانسحاب التام من الجولان”. مجلة الدراسات الفلسطينية. المجلد 3، العدد 12 (خريف1992).

. حيدر، محمود. “الجولان والأمن المائي”. شؤون الأوسط. العدد 48 (كانون الثاني 1996).

. زريق، إيليا. “الصهيونية والاستعمار”. عمران. العدد 218 (ربيع 2014).

. غوردون، نيف، رام. “التطهير الاثني وتشكيل أنماط جغرافيا الاستعمار الاستيطاني”. ترجمة ياسين السيد. قضايا إسرائيلية. العدد 62.

. فخر الدين، منير. “السوريون في الجولان: بين الثورة والنظام والاحتلال”. مجلة الدراسات الفلسطينية. العدد 104 (خريف 2015).

. إبراهيم، عامر. “المحو والترحيل في الجولان السوري المحتل: حول سياسات توطين المستعمر والترانسفير المفاهيمي”. ملفات النكبة. 5 حزيران 2018. شوهد في 25 كانون أول 2018.

. “بنيامين نتنياهو: هضبة الجولان ستبقى دائماً تحت السيادة الإسرائيلية”. مختارات من الصحف العبرية.9 تشرين أول 2018.

. “نتنياهو لبولتون: الجولان مهم لأمن إسرائيل ولذا لن ننسحب منه”. مختارات من الصحف العبرية. 7 كانون أول 2019.

. “المياه في الجولان”. موقع الجولان. 2 كانون ثاني 2006. شوهد في 4 كانون ثاني 2019.

بالأجنبية

. “استهجان إسرائيلي في ظل اغلاق الشركة لفروعها في مستوطنات الضفة الغربية”. بي بي سي بالإنجليزية. شوهد بتاريخ 8 كانون ثاني 2019.

. “بركة رام”. مساع أحار. شوهد في 23 كانون اول 2018
. “حول خسفين”. إتر هابيت. شوهد في 2 كانون ثاني 2019
. “حول كتسرين”. إتر هابيت. شوهد في 2 كانون ثاني 2019
. “حول نمرود”. إتر هابيت. شوهد في 2 كانون ثاني 2019

. قاعدة بيانات مركز الأبحاث الإسرائيلي المستقل who profits . تمت زيارة القاعدة في 28 كانون أول 2018.

. “لجنة المنطقة توافق على استمرار التنقيب عن النفط في الجولان لمدة عامين آخرين”. تشتيوت. شوهد في 9 كانون ثاني 2019

. “متر من سوريا: تم بناء خزان مياه كبير قبالة القنيطرة”. يديعوت أحرنوت. 29 آب 2006. شوهد في 9 كانون ثاني 2019



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 80 / 2184493

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2184493 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40