الجمعة 1 آذار (مارس) 2019

مختارات

الجمعة 1 آذار (مارس) 2019

- بين عرب وارسو وعرب القدس
أحمد الصباهي (فلسطين)

اضح أن المشهد العربي الإسرائيلي في وارسو حمل مشهدا مغايرا عن التجمعات الدولية ومؤتمرات السلام التي شارك فيها العرب والإسرائيليون سابقا، فبعد أن كان التقليد أن يلقي كل طرف خطابا معدا مسبقا من دون نقاشات، تحول مؤتمر وارسو هذه المرة الى جلسة أسئلة ونقاشات ولقاءات بين رئيس الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزراء الخارجية العرب.
وقد سجل هذا المؤتمر نتائج ضعيفة، نظرا للخلاف في الرؤية حول كيفية التعامل مع إيران بين الأوروبيين والأميركيين، لكن لا نستطيع القول إلا أن نتنياهو سجل انتصارا إعلاميا، كان مطلوبا لترجمته أصواتا انتخابية، عبر لقاءاته مع “عرب التطبيع”، في مشهد مخزٍ، تناوب فيه الوزراء بالعلن التهجم على إيران، والدفاع عن المحتل الإسرائيلي.
وقد مارس نتنياهو هواياته القديمة الجديدة بتسريب معلومات للصحافة الإسرائيلية قبيل انعقاد المؤتمر بزيارته خمس دول عربية، كما تعمد نشر لقاءاته الخاصة مع بعض الوزراء العرب على هامش المؤتمر بحيل متعدّدة، والنتيجة واحدة، أيها الفلسطينييون نجحت في التطبيع مع العرب من غير تقديم أي ثمن لكم.
لكن ما هو الثمن الذي جناه “عرب وارسو” في ما يخص إيران، الجواب لا شيء، لأن الفشل كان ذريعا بربط الملف الفلسطيني بالملف الإيراني، بمعنى تصفية القضية الفلسطينية وفق الرؤية الإسرائيلية، وإجبار الفلسطيني على تلك الرؤية باعتبار أن نتنياهو سيحارب نيابة عنهم “الخطر الإيراني”، وهو لن يقدم جنديا واحدا، وسجلوا فشلا كذلك في إقناع السلطة الفلسطينية لحضور المؤتمر، فظهر الى العلن ما كان سابقا في السر، وسيشكل هذا المؤتمر سابقة علنية ستتكرر لاحقا، عبر زيارات علنية إسرائيلية الى البلاد العربية.
والسؤال الذي أطرحه على “عرب وارسو”: ما شأننا كفلسطينيين وخلافاتكم مع إيران، لماذا يجب أن تقحمونا، بل وننساق خلف مشروعكم بالقوة ونسحق قضيتنا من أجل حروبكم العبثية مع إيران، فهل فلسطين أرخص من بلادكم؟ والله إن بلادنا عزيزة علينا، وتستحق منا النضال من أجلها وليست للبيع لا كرمى لعيونكم ولا لنتنياهو.
ماذا يعرض علينا “عرب وارسو” غير الذي نعرفه، ألم يقرأوا تقرير أستاذة العلوم السياسية في “الجامعة المفتوحة في إسرائيل”، تمار هيرمان، والذي نشر في مركز دراسات الشرق الأدنى تحت عنوان “هل قادة المنطقة على توافق مع الرأي العام؟ القضية الإسرائيلة - الفلسطينية” حيث أفاد هذا التقرير أن 6% فقط من المستطلع آراؤهم في التقرير يريدون التوصل الى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، وكذلك يحمّل 80% من “اليمين” و59% من “الوسط” الفلسطينيين مسؤولية الفشل في التوصل الى اتفاق سلام.
إذا كان الشعب الإسرائيلي المحتل يرفض، بأغلبيته، السلام مع الفلسطيني، ويحمله زورا فشل السلام، وإذا كان التهويد وسرقة الأراضي تسير على قدم وساق، و“حلم الدولة” الفلسطينية ضاع الى لا رجعة، هل المطلوب أن نصفي قضيتنا ونسلم ما تبقى من بلادنا ونعترف للإسرائيلي بالقليل والكثير كرمى لعيون نتنياهو من أجل حربكم العبثية مع إيران؟ خسئتم.
إن هذا النوع الرخيص من العرب لا يمثلنا، وإن عرب القدس هم العرب الأقحاح الذين افتتحوا بابا أغلق على المسجد الأقصى (باب الرحمة) منذ العام 2003 بصدورهم العارية، وأقاموا الصلاة في مصلاه، وأعلنوا قبل كتابة هذا السطور عن تعيين إمام لهذا المصلى، هؤلاء هم “عرب القدس”، الذين يمثلون الضمير الحي لكل حر وعربي. فبين “عرب وارسو” لعرب القدس حكاية خنوع وتخلي، وبين عرب القدس والمحتل الإسرائيلي حكاية صمود وكفاح وتضحية.
مشهد الاجتماع الوزاري العربي التطبيعي مع الاحتلال في وارسو اقتلع بأيدي المقدسيين عبر مشهدية تحطيم السلاسل الحديدية الإسرائيلية لباب الرحمة، وكان لسان حالهم واضحا، معركتنا هنا مع المحتل الإسرائيلي، ولا تعنينا لقاءاتكم مع نتنياهو، فنحن لا نعتمد عليكم، ولا تعنينا حروبكم العبثية مع إيران، التقطوا صورا ما شئتم مع نتنياهو وسنلتقط صورا مع شهدائنا وجرحانا.. هو خيار لا ثالث له إما عرب وارسو أوعرب القدس.

- عن تضخّم العبث الفلسطيني
نواف التميمي

كل ما حقّقه الزعيم وينستون تشرشل من تأييد شعبي، بعدما قاد بريطانيا العظمى، إلى الانتصار، في الحرب العالمية الثانية، على العدوان الألماني النازي، لم يشفع له، فقد خسر الانتخابات العامة وخرج من مقر رئاسة الوزراء إلى مقاعد المعارضة، واكتفى بمقولته الشهيرة: “الحاكم الممتاز هو الذي يعرف كيف يدخل الحكم، ويغادره، سواء بإرادته أو بإرادة الشعب”. ولنا في التاريخ الإسلامي شاهد مماثل، عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب القائد خالد بن الوليد عن قيادة الجيش، وولى مكانه أبا عبيدة عامر بن الجراح، وكان ذلك في وسط معركة اليرموك، مع أن خالداً لم يُهزم في أي معركة، وكان الروم يخشوْنه أكثر من غيره. وبرّر عمر، رضي الله عنه، سبب عزل خالد، بقوله: “ما عزلْتُه عن خيانة، ولكن خشيت أن ‏يقال: إنه صانع النصر. أو خشية أن يفتن الناس به”.
تقفز حادثتا خسارة تشرشل للانتخابات، على الرغم من انتصاره في الحرب، وعزل القائد خالد بن الوليد، على الرغم من بطولاته، وسط عبثٍ يتضخم في الأوساط الفلسطينية عنوانه “فوّضناك”، مقابل “ارحل”، الأولى موجة يركبها أتباع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، والثانية حملة معاكسة يمتطيها معارضوه. وما بين “فوّضناك” و“ارحل”، يدوخ جل الشعب وسط دوامة أسئلةٍ، في محاولةٍ يائسة لفهم كل هذا العبث واللامعقول، الدائرة فصولهما على المسرح الفلسطيني. هل فعلاً يحتاج الرئيس الفلسطيني تفويضاً من أجل المضي في ما اشتقّه طريقاً ونهجاً منذ نصف قرن؟ ثم مَن خَوّل مَن لمنح تفويضٍ مفتوح، أو شيكٍ على بياض، للرئيس محمود عباس أو غيره، للتصرّف بالشأن الفلسطيني في غياب الشرعيات كلها، أو تغييبها؟ وإذا كان مصير تشرشل الذي عاد إلى الشعب البريطاني بنصر تاريخي، “أقصيناك”، وإذا كان مصير خالد بن الوليد “عزلناك”، فهل من الطبيعي أو المعقول أن يُكافأ محمود عباس بـ “فوّضناك” لقاء كل الفشل الفاحش الذي أصاب نهجه منذ ما قبل أوسلو، وليس انتهاءً بوارسو. ثم أليس في مسيرات التسحيج والأغاني من “فوّضناك يا ريس” إلى “يا أبو مازن بدنا ياك” و“ما نرضى بديلك”، إهانة لعقول ملايين الفلسطينيين ممن حلِموا بدولةٍ فلسطينيةٍ لا عبودية ولا أصنام فيها. وكيف للرئيس الفلسطيني نفسه أن يقبل شعبوية وغوغائية التنظيم/ القبيلة، بينما هو يُناطح العالم بزعمه بناء دولة مؤسسات.
“فوّضناك” و“بايعناك” ليستا الرد المُقنع لإحباط “صفقة القرن”، أو كبح موجات التطبيع المجاني التي تجتاح عواصم عربية. وبالتأكيد، ليستا الأجدى في مواجهة الاحتلال أو حماية الشرعية والرئيس. وكان الأجدر بمن أطلق هاتين الحملتين أن يخرج إلى الشوارع، لمواجهة دوريات الاحتلال التي ترابط على باب دار الرئيس، وتعتقل يومياً عشرات الشبان، وتعتدي على الحرائر المرابطات في المسجد الأقصى. إذا كان أتباع “فوّضناك” مخلصين لرئيسهم حقاً، فعليهم أن يتصدّوا لمشاريع جاريد كوشنير وجيسون غرينبلات، وسيدهما دونالد ترامب، بتصعيد المقاومة بكل أشكالها، لا أن يرموا كرة اللهب في حضن الرئيس بزعم “فوّضناك”، ويورّطوا الرجل بتفويضٍ لا حول ولا قوة له عليه، وكأن لسان حالهم يردّد مقولة قوم موسى لنبيهم “فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ”.
وفي المقابل، ليست حملتا “ارحل” أو “عباس لا يمثلنا” أفضل سلوكاً. وإنما هما وجه آخر للعبث الساري في الجسم الفلسطيني، وتعبران عن حالة العجز التي آل إليها الحال الفلسطيني. ليست حملة “ارحل”، المُتّهمة بالتساوق مع مساعي الاحتلال لعزل الرئيس الفلسطيني، بريئة تماماً، لا سيما في التوقيت، والأوْلى بأصحابها تضميد ما أصاب الجسم الفلسطيني من تقرّحات بدلاً من نكئها.
الصحيح أن يكون التفويض للمقاومة، ولا شيء غيرها جدير به. والرحيل لا يكون إلا للاحتلال ومغتصباته. لا تفويض إلا لمؤسساتٍ شرعيةٍ مُنتخبة تحمل المشروع الوطني، وتعبر عن إرادة الشعب في التحرير والاستقلال، على أساس الثوابت الوطنية، حتى يرحل الاحتلال عن آخره.

- النظام السياسي الفلسطيني في مخاض التحوّلات الكبرى.
مروان عبدالعال

لا شك أبداً في نوايا الداعين إلى الحوار والوحدة وإنهاء الانقسام، فطالما كانت هذه الدعوات، تنمّ عن حرص وغيرة، بل عن حزن وألم شديدين، على الحال الذي وصلت إليه الساحة الفلسطينية والقضية الوطنية. لكن إرجاع السياسة إلى خانة النوايا هو المقتل، وكما قيل «طريق الجحيم معبّدة بالنوايا الحسنة».
يجب أن لا يغيب عن بالنا أن السياسة علم، مرتبط بالمجتمع والاقتصاد والمصالح المتناقضة والمتعارضة للشرائح الاجتماعية وتشكيلاتها السياسية. وهي بذلك لها قواعدها التي يجب أن تُحترم وتراعى في التفكير والممارسة، وعدا ذلك، نكون أمام طقوس تستجدي علاج المريض، بردّ عين الحاسد! ليست المسألة أن تعلن موقفاً مع الوحدة وضد الانقسام، أو العكس، إنما هي في أي وحدة نريد؟ على ماذا نتوحد؟ وكيف يمكن تحقيق الوحدة؟ بعد هذه المتغيّرات التي جرت عميقاً في الواقع، وأحدثت تحولات لا يمكن التغاضي عنها، والاكتفاء بوجدانيات وعواطف، وصفاء نية وحرص الداعين إلى الوحدة وإنهاء الانقسام.

«أوسلو» ليس رزنامة معلّقة على حائط، ولم تسقط أوراقه لخمسة وعشرين عاماً، دون أثر يذكر، في الاجتماع والاقتصاد والثقافة، كما السياسة. لقد فعل فعله في كل شيء، وعلينا أن نعترف أننا أمام حقائق جديدة. حقائق جذرية، لا تكتفي في تبدّل مواقف بعض القوى أو القيادات، أيّاً كانت. نحن أمام مرحلة جديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. مرحلة جديدة، تعني أن كل المسمّيات السابقة فقدت معانيها، فقدت مضامينها، وتشكّلت في الواقع معطيات جديدة لم تتبلور بعد أسماؤها وعناوينها. قد تستعصي على الفهم حيناً، أو لا تلقى القبول أحياناً، لكنها الفاعلة حقيقة في تقرير وجهات السير، ولا يمكن فهم ما يجري بدون الغوص فيها وإدراك ملموس لمكوناتها.
أين هو اليمين الفلسطيني، الذي مثل شرائح البرجوازية الوطنية تاريخياً التي ناضلت لبناء دولتها وتحقيق الاستقلال، وبالتالي غدا شريكا في النضال الوطني، كأحد قوى الثورة على الصعيد الفلسطيني؟ ما هي المتغيرات التي حدثت في أوساطه؟ وأين أصبح من أهدافه وتطلعاته؟ هل ما زال اليسار ذاته، تدل عليه القوى السياسية ذاتها ارتباطاً ببرامجها ومواقفها وشعاراتها الورقية؟ أم أن مضمون ممارسته السياسية فعلياً، تظهره في موقع آخر؟ هل ما زال على يسار ما يمثله اليمين من مصالح وتطلعات؟ ماذا جرى للبرنامج المرحلي؟ هل مازال مرحلياً؟ وماذا يعني ذلك بالنسبة إلى النظام السياسي الذي حمله وتوحد حوله كقاسم مشترك؟ هل ما زال يشكّل أساساً لإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني؟
يجوز لنا دائماً، أن نفكر في الوحدة وإنهاء الانقسام، وأن نتطلع لرص الصفوف، وتوحيد إرادة الشعب الفلسطيني في النضال، لكن هل يمكن تحقيق ذلك خارج هذا السياق من التفكير والإجابة عن هذه الأسئلة؟ بين الرغبة في الشفاء والقدرة على التغلب على المرض فرق شاسع، لا يدرك كنهه إلا من بإمكانه تشخيص المرض ومعرفة أسبابه وسبل العلاج منه والتي تحتاج لزوماً إلى أكثر بكثير من نصائح وعظات وتمنيات، وقلباً أبيض.
فهل ما زالت منظمة التحرير الفلسطينية، في الميثاق والتشكيل والأهداف، تعني ما كانت تعنيه سابقاً؟ هل ما زالت هذا الكيان المعنوي الجامع، والمؤسسة الأم التي تجمع مصالح ومطامح وتطلعات معظم الشعب الفلسطيني؟
لم تكن «منظمة التحرير الفلسطينية» خارج سياق فهم المشروع الصهيوني وأهدافه ومراميه، ولم تكن خارج النضال القومي لمواجهة هذا المشروع. لقد تشكلت وتبلورت ارتباطاً بمتغيرات الواقع ومعطياته على الصعيد القومي العربي، وتبدل مضمونها ارتباطاً بتبدلات هذا الواقع، لتعبر في أوج دورها عن كتلة تاريخية تجمع مصالح وتطلعات مختلف تجمعات وشرائح الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج من اليمين إلى اليسار وما بينهما، بل وحملت مشاعر وآمال وتطلعات الشعوب العربية، وفي أوج الصعود القومي للنضال ضد المستعمر، حملت مهمة التحرير الوطني الفلسطيني والقومي العربي. فقد عبرت عن ذلك من خلال ميثاقها ومؤسساتها وبرامجها التي لم تترك «كبيرة أو صغيرة» إلا ولامسته ككيان معنوي لشعب مشتت، أقام نظاماً سياسياً يجري إعداده افتراضياً لتحقيق مهمة الحضور الفعلي من خلال التحرير. صحيح أن الوعاء الطبيعي والحاضن لمشروع التحرير، هو البيئة القومية التي منحته شرعية الحضور المعنوي كجزء منها، وأمّنت له الشرعية الدولية، كممثل وحيد للشعب الفلسطيني ونضاله التحرري، ولكن كل هذه الشرعية التي تحققت لمنظمة التحرير الفلسطينية عربياً ودولياً، ما كانت لتكون لولا الأساس الذي قامت عليه من مشروعية المطالب والمطامح التي عبرت عنها ممثلة لكل تجمعات الشعب الفلسطيني وشرائحه الاجتماعية، بل وفئاته العمرية أيضاً.
في محاولة لفهم دور ووظيفة «منظمة التحرير الفلسطينية»، ومشروعية تمثيلها الوطني للشعب الفلسطيني، فإنّ هذا التمثيل يستمدّ قوته من تماثلها مع الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني أينما كان وحيثما وجد، أي في تكريسها لأحقية الحضور الوطني الفلسطيني على الخريطة العالمية، وتساوي المنظمة ككيان معنوي، الوطن الافتراضي، والانتماء لفلسطين في النسب والتاريخ والجغرافيا والثقافة، يساوي الانتماء للمنظمة. وهذا خارج حسابات المواقف السياسية المباشرة.
في بحث تمثيل المنظمة لكلّ ذلك، لا بد من التوقف أمام ثلاثة مفاصل رئيسية:

المنظمة/ مشروع تحرري شامل
في هذا البعد تسمو المنظمة إلى مصاف المقدّس، بحملها لمشروع تحرر وطني شامل يكثف حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية. آمال وتطلعات مختلف تجمعاته وشرائحه الاجتماعية وقطاعاته الشعبية. أي وظيفة صهر مكونات وطاقات الشعب الفلسطيني، ومنعها من الذوبان والتلاشي بفعل التشرد والتشتت، ومواجهة كل المؤثرات التي يتعرض لها الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده. ولا يرتبط ذلك بالمواقف السياسية الجارية للقوى السياسية المنضوية في إطار المنظمة، السياسة اليومية، بل من خلال ميثاقها ومؤسساتها ووظائفها والسياسات العليا التي تحكم عمل هذه المؤسسات التي تسعى لبلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية كفاعل على الصعيد العالمي في مختلف المجالات، العلمية والثقافية والتربوية، والفن والأدب، والمسرح والسينما، كما الاقتصاد والسياسة... إلخ.
لقد لعبت المنظمة هذا الدور فيما مضى، لكنه للأسف تهشّم وتهمّش، بفعل طغيان أجندة «أوسلو»، الذي سعى وعن عمد، لتضخيم السلطة على حساب المنظمة. وُضعت المنظمة تحت مقصلة الاتفاقات التفصيلية لإجهاض هذه الوظيفة، فنال ذلك من صدقية دورها وتمثيلها. لم يدرك فريق «أوسلو» أهمية إعطاء هامش يفصل بين دور المنظمة السياسي كمرجعية سياسية عليا مقررة في الشأن السياسي، ووظيفتها الوطنية التمثيلية الموازية للهوية الوطنية الفلسطينية، مشروع تحرري شامل.

المنظمة / جبهة وطنية عريضة
الكارثي في ما تقدّم، هو إجهاض المشروع التحرري الشامل، وتحوّل المنظمة إلى مشروع سياسي لفريق بعينه، ووجود أي فصيل فيها مرهون بموقف سياسي تفصيلي إزاء أي قضية. أي إنها باتت تحمل مشروع «أوسلو» السياسي حصراً. لقد استعصت إمكانية ضم المنظمة لكل القوى السياسية الأساسية الفاعلة على مساحة النضال الوطني الفلسطيني. حتى البرنامج المرحلي الذي شكل قاسماً مشتركاً فيما مضى، سقط بفعل ميكانزمات التدمير التي خلّفها «أوسلو» في الجسد الفلسطيني.
إذا أريد لمواجهة صفقة القرن أن تشكل قاسماً مشتركاً جديداً يجمع مختلف القوى الفلسطينية، يفترض أن نناقش في وحدة الموقع الذي ننطلق منه لمواجهة هذه الصفقة، ووحدة الهدف الذي نسعى لتحقيقه من خلال إسقاطها. ثمة من يواجه صفقة القرن على قاعدة «أوسلو» ودفاعاً عنه، وبالتالي فإن «أوسلو» يشكّل البرنامج النهائي له وليس المرحلي فقط. وفي أحسن الأحوال يعتبر آخرون «أوسلو» هو البرنامج المرحلي. إن القاسم المشترك الحقيقي الجديد ينطلق من أساس لا يمكن المواربة فيه، وهو فشل «أوسلو» في أن يكون مساراً يوصل إلى البرنامج المرحلي، عوضاً عن أنه يضع علامة استفهام كبرى حول البرنامج المرحلي ذاته.

مؤثرات البيئة العربية في إنتاج وإعادة إنتاج النظام السياسي
لا يمكن إنكار دور البيئة القومية في بلورة دور «منظمة التحرير الفلسطينية» ووظيفتها في كل مرحلة من المراحل التي مرّت بها منذ تأسيسها، فحجم التداخل بين المنظومتين (العربية والفلسطينية) لا يمكن التغاضي عن مؤثراته في دور المنظمة وتوجهاتها. في النهاية إن هذا الكيان الافتراضي يتكئ على منظومة قائمة في الواقع يستمد قوته منها لأداء دوره ووظيفته. لقد أسس النظام الرسمي العربي المنظمة بصيغتها التقليدية (1964)، ثم أعادت الناصرية تشكيلها بصيغتها الناصرية (1969)، وكان للنكسة آثارها في بلورة صيغتها الوطنية الجديدة، والاعتراف بتمثيلها الكلي والحصري للشعب الفلسطيني عام 1974. ثم كان لتداعيات العدوان على العراق وما تمخض عنه ورافقه من متغيرات دولية، أثره الواضح في إعادة إنتاج المنظمة بصيغتها «الأوسلوية». وكحصيلة لفوضى ما سمي بـ «الربيع العربي»، الذي أطاح بالمنظومة العربية بصيغتها القديمة، وجعل منها مجموعة من الأحلاف المذهبية الجهوية، أدوات للأجندات الدولية في مواجهة القوى الإقليمية، وعلى حساب القضية المركزية للأمة العربية، يأتي مؤتمر وارسو كمحطة مفصلية في سياق بلورة ملامح الصراع القادم وأطرافه في المنطقة والعالم.
إن فشل «أوسلو» هو فشل برنامج اليمين و«اليسار الهامشي»، وهو الوقت المناسب ليتقدّم «اليسار النقيض» ببرنامجه

في هذه المرحلة الضبابية وعدم نضوج النتائج، تقف «منظمة التحرير الفلسطينية» عند مفترق طرق جدّي، في حالة انتظار، بين حالين، ولأن الحالة الوسط ما بين الحالين ممنوعة، فشل الحوار الفلسطيني مراراً وتكراراً، وفشلت مساعي إنهاء الانقسام مرات ومرات، وسوف تفشل طالما لا تتوفر بيئة عربية مؤاتية لإفراز صيغة وسطية. فإما أن تكون جزءاً من المنظومة العربية ومعنية بالتزاماتها ارتباطاً بصفقة القرن، وحالة العداء الإقليمي لإيران ومحور المقاومة، وتنام على وعد ما سيقدمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ويتماشى مع ما تقبله «إسرائيل»، بحدود روابط قرى، أو أن تكون قادرة على إعادة إنتاج نفسها كمشروع تحرري شامل، ليس في مواجهة «إسرائيل» وحدها بل في مواجهة البيئة العربية أيضاً.

اليمين الفلسطيني خارج تمثيله التاريخي
عند مفترق الطرق هذا، يقف اليوم ما يسمّى باليمين الفلسطيني على رأس المنظمة والسلطة وحركة «فتح». عندما تبلور المشروع الوطني الفلسطيني في مواجهة النكبة أواخر خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضي، مثلت حركة التحرير الوطني «فتح»، مشروع البرجوازية الوطنية الفلسطينية، التي دمّر أساسها مشروع الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وحرمها من بناء دولتها وتحقيق استقلالها، وقد كثف هذا المشروع مصلحة مختلف شرائح الشعب الفلسطيني، وهكذا تبوّأت موقعها على رأس النظام السياسي الفلسطيني، «منظمة التحرير الفلسطينية». ظلّت حركة «فتح»، أمينة لتمثيلها الأساسي لمشروع البرجوازية الوطنية الفلسطينية، ولم تتأخر في أن تكون مع شريكها النظام الرسمي العربي في دخول التسوية في مؤتمر مدريد، عندما توفرت البيئة العربية المناسبة لإنهاء الصراع، حين أفرزت حرب الخليج الثانية عودة النظام العربي إلى الخيار المصري في التسوية.
إن ديناميات الفعل العميقة التي أحدثها «أوسلو» في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الفلسطيني، أجهضت مشروع البرجوازية الوطنية الذي مثلته «فتح» طوال تاريخها، فقد أنهى مشروع الاستقلال الوطني، وحوّل أجزاء واسعة من هذه البرجوازية إلى سمسار مستفيد تابع للاحتلال. بالإمكان الحديث عن الكثير من المنافع الاقتصادية لفئات حصرية، عبر وكالات وشراكات مع الشركات الإسرائيلية، إلا أن المنافع لا يمكن حصرها في الاقتصاد المباشر، فهي تستشري مثل الغدد السرطانية، وتنتشر على مساحة البنية الاجتماعية، في المناصب والمكاسب والرشاوى، في الثقافة والإعلام والفن، في الأجهزة الأمنية والإدارات المدنية، في أجهزة التعليم والقضاء وغيرها.. إلخ.
للتبعية الاقتصادية تمثيلها السياسي، وهو حكماً على حساب شرائح أخرى من هذه البرجوازية الوطنية، وهي ليست محصورة في فصيل حركة «فتح»، وإن كانت تمثّلها سياسياً، لكن الشرائح الاجتماعية الاقتصادية المستفيدة من منافع «أوسلو» أوسع من أن يضمّها فصيل وحده، أو حتى أن يمثلها فصيل بعينه. فهل ما زال اليمين الفلسطيني المتشكّل تاريخياً مع تأسيس حركة «فتح» و «منظمة التحرير»، هو بالمضمون والمعنى والمسمى ذاته أو يعيش حالياً صراع بلورة المشروع السياسي، مع فشل «أوسلو» في إنتاج دولة واستقلال وطني، سعت له البرجوازية الوطنية الفلسطينية تاريخياً؟

اليسار الفلسطيني خارج دوره التاريخي

السؤال الذي يلي هو، أين يقف اليسار الفلسطيني؟ وما هو موقعه من مأزق اليمين في تحقيق الاستقلال والدولة؟ حين نتحدث عن أن المنافع والمكاسب أوسع من أن يضمّها أو يمثلها فصيل بعينه، فإننا لا نستثني اليسار، فهو أيضاً في صراع مع ما مثّل تاريخياً ويمثل حالياً، فهو حكماً جزء من هذه البنية الاجتماعية الاقتصادية السياسية الإدارية، التي استشرت فيها غدد «أوسلو» السرطانية، واليسار هنا، ليس في مسميات الفصائل ودورها السياسي فقط، بل في الشرائح الاجتماعية التي تقاسمت بنى الأجهزة الأمنية والمدنية والسياسية، طبعاً بقدر حجمه السياسي، كمعيار لتحديد الحصة في المكاسب والمنافع، أي إنه تحوّل إلى هامش لليمين في تراتبية المنافع والمكاسب وأحجامها. لقد أُفرغ من مضمونه السياسي المفترض أن يكون حكماً على نقيض اليمين. إنها شراكة وإن اختلفت النسب والأحجام، وتبعاً لذلك يتحدد هامش الاختلاف السياسي.
لقد أُخذ على اليسار انضباطه بذات القواعد التي وضعها اليمين في التفكير والممارسة في ظاهرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، ولم يتمكن من ممارسة القطيعة الفكرية لتشكيل منهجية ممارسة تجعله متمايزاً عن اليمين، والحقيقة أنه ما زال يمارس فعل الانضباط ذاته، لقواعد لعبة يضعها اليمين ويستلهمها اليسار.
إنه جزء لا يتجزأ من مأزق المشروع الوطني، حين تحوّل من اليسار النقيض إلى اليسار الهامشي، في التمثيل الاجتماعي للشرائح الاجتماعية ومصالحها، وفي التمثيل السياسي لثوابت المشروع الوطني. إن أزمة المشروع الوطني، بالترجمة الملموسة، هي الفشل في تحقيق البرنامج المُجمَع عليه وطنياً وذلك نتيجة لمشروع «أوسلو»، ويتعمّق المأزق أكثر فأكثر حين يريد البعض نشر الأوهام بأن «أوسلو» هو المشروع الوطني ذاته.
البداية الحقيقية للخروج من المأزق، لا بد أن تمرّ من الإقرار بأن «أوسلو» لم يمكن مساراً صالحاً لتحقيق المشروع الوطني، بل هو دمّر البرنامج المرحلي، ووضع أمامه علامة استفهام كبرى، حين كشف عن ضعف منهجي في فهم المرحلية في تحقيق الأهداف الاستراتيجية، حيث تحوّل إلى هبوط متدرّج في سقف المقبول وصولاً إلى روابط القرى. ومهما حاول اليسار عبثاً أن يتنصّل من بعض التفسيرات، فإن البرنامج المرحلي في أحسن حالاته والذي يشكل مطلباً بعيد المنال حالياً، هو صيغة حلّ الدولتين. بمعنى أن البرنامج المرحلي بصيغته المُجمَع عليها وطنياً قد انتهى إلى غير رجعة، ولم يعد ممكناً إعادته إلى الحياة، ليشكّل قاسماً مشتركاً يمثّل إجماعاً لغالبية الشرائح الاجتماعية للشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته، وبرنامجاً سياسياً يعيد بناء النظام السياسي الفلسطيني على أساسه، ويجدد من خلاله دوره ووظيفته.
إن فشل «أوسلو» هو فشل برنامج اليمين و«اليسار الهامشي»، وهو الوقت المناسب ليتقدم «اليسار النقيض» ببرنامجه القائم على فكرة دولة فلسطين الديمقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني، والتي يعيش مواطنوها بمساواة كاملة بدون تمييز في الحقوق والواجبات. ويسعى لتحويله إلى برنامج إجماع وطني، وفق منهجية جديدة، لا تختزل البرنامج المرحلي في الهدف، ولجزء من الشعب الفلسطيني على حساب بقية الأجزاء، بل مرحلية في بناء قدرات الشعب الفلسطيني وقواه الحية، مرحلية في السعي لامتلاك عناصر القوة، وتعظيمها مرحلة بعد أخرى، في استراتيجيات عمل نضالية تراكمية، على طريق تحقيق الهدف الاستراتيجي.

*عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين

- هل يجازف نتنياهو باللجوء إلى «مبدأ بيغن»؟

علي دريج

هي من المرّات النادرة التي يخرج فيها الأمين العام لـ«حزب الله» على الهواء خلال برنامج حوار العام مع قناة «الميادين» (في 26 كانون الثاني الماضي) ويوجّه فيها رسالة تهديد قاسية ومباشرة إلى رئيس وزارء إسرائيلي، كما فعل مع بنيامين نتنياهو عندما خاطبه قائلاً: «عليك أن تكون حذراً في التمادي فيما تقوم به في سوريا فلا تخطئ التقدير وتجرّ المنطقة إلى مواجهة كبرى».
وتجاوز الإسرائيلي الخطوط الحمر بانتهاكاته المتكررة للسيادتين السورية واللبنانية ولجوئه إلى استخدام الأجواء اللبنانية لضرب أهداف لمحور المقاومة في سوريا، ليس وحده السبب الرئيسي وراء تحذير نصرالله لنتنياهو بعدم الخطأ، وبالتالي كبح جموحه في سوريا، وجعله يعيد النظر في خطورة الإقدام على تغيير معادلة توازن الردع القائمة في الجنوب والتي حاول الإخلال بها عدة مرات في الآونة الأخيرة، بل ثمة ما هو أخطر من ذلك، ويتعلق بحفلة الجنون التي كانت بدأتها إسرائيل في سوريا وتستمر منذ سنوات، والتي قد تصل إلى حد استهداف الطائرات المدنية سواء في سوريا أو لبنان، بذريعة نقل أسلحة إيرانية لحزب الله.

أكثر من ذلك، فإن التخبّط الأميركي على خلفية قرار دونالد ترامب الانسحاب من سوريا، ساهم، في اتساع الخلاف بين كلٍّ من الرئيس الأميركي ونتنياهو، حيث يرى الأخير أن طرد إيران من سوريا هو جوهر استراتيجيته العسكرية والدبلوماسية، في حين يرى ترامب ضرورة الضغط على إيران لإجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات، وعدم الزجّ بالقوات الأميركية في مواجهات مع إيران، مستبعداً إمكانية حسم الخلاف معها عبر جبهات القتال في سوريا أو العراق أو التوصل إلى تفاهمات مع طهران أو حتى التعاون العسكري معها في بعض المجالات.
كما أن نتنياهو يشعر بالحنق من عدم مشاركة ترامب مشاعره تجاه الخطر الإيراني المتنامي على أعتاب إسرائيل. إضافة إلى ذلك فإن المسؤولين الإسرائيليين قد أصابهم الذهول من موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي أكد لهم أن «موسكو قد عملت ما يكفي لإبعاد القوات الإيرانية عن الحدود الإسرائيلية والأردنية»، وادعائه أن طلب إسرائيل المزيد «سيعرّض مصالح روسيا للخطر». حتى جون بولتون المعروف بتأييده ودفاعه عن إسرائيل، لم يكن أكثر ودّية مع نتنياهو عندما قابله في 6 كانون الثاني 2019، حيث اكتفى بالتأكيد على دعم الولايات المتحدة حق إسرائيل في الدفاع عن النفس ومواصلة العمل معها في مواجهة التهديد الإيراني، دون التعرض للخطط العسكرية التي تمت مناقشتها بين الطرفين من قبل. ودفعت تلك المواقف المتراخية، حسب التوصيف الإسرائيلي، بنتنياهو لعقد اجتماع مع ضباط المهام الخاصة والمدراء الأمنيين والتأكيد لهم أنه: «بينما تدير الولايات المتحدة الحرب الاقتصادية في مواجهة إيران فقد باتت وحيدة للقيام بالحملة العسكرية». في المقابل نصرالله العارف بعقلية قادة العدو جيداً، والذي أجاد التعامل معهم خلال سنوات الصراع الطويلة، يعي حجم التخبط الذي يعانيه قادة العدو وفي مقدمتهم نتنياهو، نتيجة فشلهم الذريع في إيقاف ما تطلق عليه تل أبيب «برنامج الصواريخ الدقيقة لحزب الله»، وقد اعترف النائب السابق لهيئة الأركان الإسرائيلية يئير غـولان حين أكـد في تصريح في 22 تشرين الثاني 2017، أن «الجهود الإسرائيلية لاحتواء برنامج الصواريخ الدقيقة حتى اللحظة يعتبر محدوداً، خاصة أن نقل المعدات جواً بدلاً من الطرق البرية، يشكّل بحدّ ذاته تهديداً لإسرائيل في حالتي التغاضي أو الرد على حد سواء».
قد لا يتورّع نتنياهو عن الدخول في مغامرة ارتجالية (شخصية) غير محسوبة، وهذا ما ألمح إليه نصرالله، بذريعة القضاء على خطر مشروع الصواريخ الموجّهة

ورغم تسليم المقاومة ونصرالله بعقلانية إسرائيل في ما يتعلق باتخاذ قرار شن الحرب على حزب الله كما أثبتت التجارب، إلا أن نتنياهو المثقل بالأزمات السياسية والفضائح القضائية والباحث عن فرصة للخروج من المآزق التي تحيط به من كافة الجوانب، يطمح لأن يقدّم نفسه أمام الشعب الإسرائيلي بمثابة المنقذ، قد لا يتورّع بالتالي عن الدخول في مغامرة ارتجالية (شخصية) غير محسوبة وهذا ما ألمح إليه نصرالله، بذريعة القضاء على خطر مشروع الصواريخ الموجهة التابع للحزب والذي يشكّل تهديداً لأمنه الاستراتيجي، ويحد من قدرة سلاح الجو الإسرائيلي على استهداف المنشآت العسكرية في المنطقة، حيث يسود الاعتقاد في تل أبيب بلجوء إيران إلى نقل الأسلحة الاستراتيجية إلى حلفائها في لبنان جواً، وهو ما بدأت إسرائيل بالترويج له في الآونة الأخيرة وتحذير العالم من أنها لن تقف مكتوفة اليدين أو تسمح باستمرار هذا الأمر.
وانطلاقاً من هذا الواقع يجد قادة العدو أنفسهم أمام خيارات محدودة جداً، فهم يدركون، أن خيار إسقاط طائرة إيرانية فوق الأراضي اللبنانية، يُعدّ أمراً صعباً للغاية، إذ يتطلب ذلك الحصول على معلومات استخباراتية دقيقة وقاطعة، خصوصاً أن إسقاط طائرة «بوينغ» مدنية سيعود بعواقب وخيمة، وسيتسبب بموجة غضب عالمية حتى وإن أثبتت تل أبيب أن الطائرة المسقطة تحمل أسلحة استراتيجية.
لكن الخطورة تكمن في حديث نتنياهو عن إمكانية اتخاذ تل أبيب قرارات صعبة، وتقديم «تضحيات»، وهذا يدل على أن الحكومة الإسرائيلية تضع خططاً تشمل جميع السيناريوهات بما في ذلك اتخاذ قرار شنّ حرب إقليمية قد يسبّبها تهوّر نتنياهو، وهو الخيار الأقسى الذي يمكن أن يتخذه منذ توليه رئاسة الوزراء في عام 2009، وهو ما يضعه نصر الله في الحسبان، ولا يسقط من توقعاته استسهال نتنياهو الذهاب في هذا الاتجاه، والذي حذر نصرالله الجهر به في حوار العام، متجنّباً الوقوع في فخ الحرب النفسية، بعكس رئيس وزارء العدو الذي وجد نفسه يقدم خدمات مباشرة للمقاومة بزرعه الخوف والرعب في نفوس المستوطنين والداخل الإسرائيلي من خلال تهويله لخطر الأنفاق.
وعليه يمكن القول إن نصرالله صعّد من لهجته مع نتنياهو، لجعله يفكّر ألف مرة قبل الانزلاق في مقامرة من هذا النوع نظراً إلى تداعياتها الاستراتيجية المرعبة على إسرائيل قبل غيرها لا سيما أن إسرائيل تجهل إلى حد كبير القدرات الحقيقية لحزب الله فكيف بمحور المقاومة ككل، وما عزز هذا الواقع الدراسة التي نشرها موقع «المونيتر» في 30 تشرين الثاني 2019، عن التحديات التي تواجه تل أبيب في تعاملها مع إيران وحزب الله.
تكشف الدراسة أن المجلس الوزاري المصغّر في تل أبيب اعتبر في إحدى جلساته في أواخر عام 2018، أن «مشروع الصواريخ الدقيقة لحزب الله وإيران، خط أحمر وتقع مهمة إفشاله على رأس الأولويات الأمنية الإسرائيلية، وهو ما ينذر بإمكانية توسيع القوات الإسرائيلية عملياتها الجوية لتشمل مواقع لبنانية، بعد أن اقتصرت على ضرب أهداف في الأراضي السورية خلال العامين الماضيين». وتتابع الدراسة أن «هذا الأمر قد يدفع إسرائيل إلى شنّ هجمات ضد مواقع محدّدة في مطار بيروت كما فعلت من قبل في سوريا عندما هاجمت المقاتلات الإسرائيلية مركز بحوث وقوافل إمداد وطائرات شحن حطّت في مطار دمشق الدولي».
ووفقاً للدراسة فـإن التصعيد الإيراني يضع إسرائيل أمام خيارات معقّدة، إذ لم تخُض أية حكومة إسرائيلية حرباً إقليمية بسبب تزايد قوة خصم مجاور لها، بل كانت تعتمد مفاهيم الأمن الاستباقي في منع أية قوة من التوصل إلى تقنيات متطورة يمكن أن تهدّد أمنها، بما في ذلك تدمير المفاعل النووي العراقي عام 1981، وتدمير المفاعل السوري عام 2007، وهو ما يُعرف باسم مبدأ «بيغن»، نسبة إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن الـذي تبنّى سياسة منع أعداء إسرائيل من تطوير أسلحة نووية مهما كانت التكلفة.
أما التحدي الأكبر بالنسبة إلى تل أبيب، فيتمثل في طريقة التعامل مع تطوير إيران منظومات الصواريخ الموجهة في لبنان، وكيف سيكون وضعها الأمني في حال تمكّن «حزب الله» من حيازة مئات الأسلحة الصاروخية واستهداف إسرائيل بها. وهل يرقى مشروع الصواريخ الدقيقة إلى مستوى التهديد الذي يتطلب تطبيق «مبدأ بيغن» على أساسه في الأراضي اللبنانية؟
*كاتب لبناني



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 141 / 2184488

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2184488 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40