الجمعة 15 شباط (فبراير) 2019

«إسرائيل فالي» ومغامرة الدور الجديد

التصعيد الأميركي ضد إيران... قديم بقِدَم الثورة
الجمعة 15 شباط (فبراير) 2019

- التصعيد الأميركي ضد إيران... قديم بقِدَم الثورة / حسن حردان

إن العداء الذي تكنّه الولايات المتحدة الأميركية للجمهورية الإسلامية الإيرانية قديم قدم الثورة الإسلامية التي ألحقت الهزيمة بنظام الشاه حليف واشنطن وحامي مصالحها في أهمّ منطقة في العالم، من حيث مخزون النفط الذي يشكّل سرّ الاهتمام والتركيز الأميركي الغربي بالمنطقة والذي استدعى زرع الكيان الصهيوني في قلبها. وقد زاد هذا العداء بسبب السياسات التي انتهجتها طهران لناحية دعم القضية الفلسطينية ومقاومتها، ودعم المقاومة في لبنان، وتشكيلها مع سورية قوّة هامّة أسهمت في منع المشروع الأميركي الصهيوني من استكمال فرض سيطرته على المنطقة، واستطراداً تصفية القضية الفلسطينية.
لذلك لم يكن مستغرباً استحضار الهجوم على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومحاولة إثارة مناخات العداء بينها وبين العرب، حيث توالت المواقف التي تتهم طهران بالتدخل في اليمن وفي البحرين، وفي الوقوف وراء ما يحصل فيهما من ثورة شعبية. تصعيد الحملة ضد إيران يأتي في هذه المرحلة العاصفة في الوطن العربي والتي لا تصبّ في مصلحة المشروع الأميركي المترنّح أصلاً نتيجة الفشل المتواصل في تحقيق أهدافه في ساحات الصراع الرئيسية، خاصّة أن الهجوم الممنهج قد جاء متزامناً مع فوز ترامب بالرئاسة الأميركية وإعلانه الانسحاب من الاتّفاق النووي والعودة إلى سياسة العقوبات والحصار ضدّ إيران. هذا الأمر يدلّ على أن الهجوم تمّ بقرار أميركي، وتنفّذه الأنظمة العربية التي تدور في فلك السياسة الأميركية وهو ما يعكس ارتباط هذه الأنظمة العربية بالولايات المتحدة، وجهوزيتها لتنفيذ إملاءاتها، وتوجهاتها حتى وإن كانت لا تخدم مصالح الدول العربية.
لكن هذا الهجوم على إيران ومحاولة اتّهامها بالتدخل في لبنان، والبحرين واليمن وسورية، وأنها تسعى إلى بسط هيمنتها على الدول العربية ليس جديداً، وإنّما يمكن القول إنه بدأ تنفيذه عقب انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وكان من نتائجه التسبّب بحصول الحرب الإيرانية العراقية، التي كان الهدف منها استنزاف الثورة الصاعدة ولجم اندفاعتها الثورية، والعمل بشكل رئيسيّ على تدمير قوّة البلدين، ومنع ولادة أيّ دولة قوية يمكن في المستقبل أن تشكّل مصدر تهديد للعدو الصهيوني، والمشروع الاستعماري في المنطقة.
عاد تصاعد هذا الهجوم بعد أن تمكّنت إيران من لملمة جراحها، وإعادة بناء قوتها، والتركيز على النهوض الاقتصادي والعلمي، وخاصة لناحية العمل على امتلاك القدرة الذاتية لإنتاج الطاقة النووية للأغراض السلمية، واشتدّت حدّة على خلفية دعم إيران للمقاومة في لبنان وفلسطين، وتحالفها الاستراتيجي مع الجمهورية العربية السورية، ما أدى إلى تمكين المقاومة من إلحاق الهزيمة بالعدو الصهيوني في لبنان عامي 2000 و2006، وفي قطاع غزة أعوام 2008 و2009 و2014.
وبعد أن وجدت واشنطن أنّ استخدام القوة ضد إيران، أمر محفوف بالمخاطر، ومغامرة قد تنقلب عليها، عمدت إلى استخدام سلاح الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة لإثارة العداء بوجه إيران، وحرف الصراع في المنطقة عن مساره الحقيقي، وتحويله من صراع مع المشروع الأميركي الصهيوني وحلفائه، إلى صراع بين العرب وإيران بهدف إشغال الجميع في صراعات ثانوية وإراحة أميركا، والكيان الصهيوني وتمكينهما من فرض أهدافهما الاستعمارية في المنطقة، لا سيما المشروع الشرق أوسطي الجديد.
وإذا كان الهدف من كلّ ذلك محاولة منع إيران من امتلاك القوة التكنولوجية واستطراداً القوة العسكرية المتطورة حتى لا يحدث اختلالاً في توازن القوى في الشرق الأوسط في غير مصلحة الكيان الصهيوني، فما هو الهدف من محاولة حشر إيران بما يجري في البحرين واليمن عبر اتّهامها بأنها تقف وراء الثورة الشعبية هناك؟
1 ـ استخدام ذريعة اتّهام إيران بالتدخل في البحرين واليمن لأجل تبرير التدخل العسكري للتحالف السعودي لقمع الثورة الشعبية هناك، واستطراداً منع أيّ تغيير يلبّي طموحات الشعب بالإصلاح السياسي والديمقراطي بالقوة، لأنّ مثل هذا التغيير في حال حصل تحت ضغط الثورة الشعبية سوف يشكّل مناخاً يشجّع على الثورة في دول الخليج، وامتداد عدواه إلى السعودية التي ترتبط بحدود مشتركة مع البحرين واليمن، فيما استطلاعات الرأي تؤشّر إلى أن الشعب السعودي بأغلبيته معادٍ للسياسة الأميركية الداعمة للعدوان الصهيوني في فلسطين، وهو غير راضٍ عن سياسة الارتباط بأميركا التي تمتصّ عائدات النفط السعودي الضخمة، فيما شريحة الفقراء يزداد عددها، ويسود الحرمان المناطق الشرقية، رغم غنى المملكة السعودية. بالتالي فإنّ الهدف الأول هو السيطرة على الثورة في البحرين واليمن وإجهاض أهدافها التغييرية، وبالتالي منع امتدادها إلى السعودية المهيّأة أكثر من غيرها.

يتحول التهجّم على إيران إلى مادة تستخدمها واشنطن في اتجاهات متعددة تصبّ جميعها في خدمة مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية

2 ـ محاولة إثارة الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة عبر تصوير الثورة في البحرين بأنها تقتصر على أبناء الطائفة الشيعية المدعومة من إيران، وبالتالي العمل على محاصرة هذه الثورة بالفتنة، وتأليب الشارع الخليجي ضدّها، وتوفير الغطاء الشعبي لعملية القمع الدموية التي قامت وتقوم بها القوات السعودية، فيما تُتهم إيران بالوقوف وراء ما يحصل من ثورة في اليمن بقيادة «أنصار الله». على أن الوقائع تؤكّد أن الثورة البحرينية يشترك فيها جميع شرائح المجتمع. أما في اليمن فإن التظاهرات المليونية المتكرّرة في شوارع صنعاء الداعمة لـ «أنصار الله» والقوى الوطنية في مواجهة قوى العدوان على اليمن تبرهن بشكل لا لبس فيه على أن هناك ثورة شعبية يمنية تسعى للتحرر من الهيمنة الأميركية ــ السعودية.
3 ـ تحويل الصراع انطلاقاً من البحرين واليمن إلى صراع عربي ــ إيراني، وسنّي ــ شيعي لقطع الطريق على أيّة احتجاجات شعبية قد تحصل في دول الخليج الموالية أنظمتها للولايات المتحدة، وبالتالي تجنيب هذه المنطقة الحيوية للمصالح الأميركية تداعيات زلزال الثورات العربية ضد الأنظمة الفاسدة، والمستبدة، والتابعة لأميركا، والتي يرتبط بعضها علانية بعلاقات مع العدو الصهيوني، وبعضها الآخر بالسرّ.
وبالتالي ضمان المحافظة على النظام اليمني التابع للرياض وواشنطن وكذلك الإبقاء على النظام القائم في البحرين وسياساته التي تخدم استراتيجية الولايات المتحدة مع وجود القاعدة الرئيسية لأسطولها الخامس في البحرين على شواطئ الخليج العربي، الهدف منها بالطبع حماية هذا الشريان الحيوي للملاحة الدولية، وتأمين خط إمدادات البترول ليستمرّ بالتدفّق بشكل يومي في شرايين صناعة واقتصاد الغرب.
4 ـ الإبقاء على حالة الحذر في العلاقات الخليجية الإيرانية، ومنع أيّ تقارب، أو تفاعل إيجابي حتى تحول واشنطن دون إمكانية استغناء الدول الخليجية عنها، ومنع أيّ تطوّر سياسي يعزّز استقلال دول وشعوب المنطقة.
5 ـ إعادة التصويب على إيران وافتعال التوتر معها، لأجل حرف الأنظار عن ما يجري في المنطقة من انتصارات لمحور المقاومة واستمرار الثورات التحررية في اليمن والبحرين.
فالإدارة الأميركية وجدت أن أفضل سبيل لتغيير المسار الحاصل في الوطن العربي هو إشغال العرب في صراعات وحروب إرهابية ثانوية تلهيهم عن الاهتمام في أوضاعهم، والعمل على تغيير السياسات المدمرة لأوطانهم واقتصاداتهم. من خلال هذه السياسة تريد واشنطن تغيير اتجاه التطورات لمصلحة استراتيجيتها في المنطقة والتي تقوم على احتواء الثورات، وتفجير صراعات وقلاقل في قلب معسكر الدول، والقوى المقاومة للمشروع الأميركي تارة من خلال محاولة تحويل الصراع مع المشروع الاستعماري إلى صراع عربي ــ إيراني، وتارة ثانية من خلال محاولة إثارة الفتنة السنّية ـ الشيعية، وتارة ثالثة من خلال تفجير الاضطرابات في سورية وإرباك الساحة اللبنانية وبالتالي شلّ فعالية وقدرات معسكر المقاومة والممانعة في المنطقة. الخطة الأميركية على هذا الصعيد تجسدت في ثلاثة اتجاهات:
اتجاه أول: إرباك إيران وإشغالها في مهمة التصدي للفتنة السنية ــ الشيعية، والعمل على امتصاص حالة التوتر الناتجة عن محاولة إثارة عداء العرب ضدها، ووضعها في حالة دفاع عن النفس، ومحاولة إعادة إنعاش القوى المعارضة للنظام داخل إيران، والتي كشفت وثائق «ويكليكيس» تنسيقها مع جهاز المخابرات الأميركية لتفجير الاضطرابات في طهران.
اتجاه ثانٍ: الانسحاب من الاتفاق النووي ومحاولة إعادة تشكيل جبهة دولية لمحاصرة إيران وحظر تصدير نفطها لإضعاف وارداتها الاقتصادية ومنعها من دعم قوى المقاومة وإيجاد المناخات المواتية لتغيير نظام الجمهورية الإسلامية. وهو هدف أميركي دائم ومستمر، ويتمثل في أن الإبقاء على حالة التوتر في العلاقات الإيرانية الخليجية وإثارة المخاوف والقلق لدى دول الخليج من تنامي القوة الإيرانية وخطرها عليها، يسمح لواشنطن في دفع هذه الدول إلى عقد الصفقات الضخمة لشراء السلاح الأميركي تحت حجة «مواجهة الخطر الإيراني».
وهكذا يتحوّل التهجّم على إيران إلى مادة تستخدمها واشنطن في اتجاهات متعددة تصبّ جميعها في خدمة مصالحها الاقتصادية واستراتيجيتها في المنطقة.
سبل مواجهة المخطّط الأميركي
لا شكّ أن هذا المخطط الأميركي يستدعي من قوى المقاومة والمواجهة، وجميع الحركات والقوى التقدمية التحرّك لمواجهته وإحباط أهدافه الخطيرة، وتنبيه الدول الخليجية إلى الأفخاخ التي تنصبها لها واشنطن من وراء هذا المخطط لابتزاز أموالها، وإبقائها خاضعة وتابعة لها، وتحتاج دائماً إلى حمايتها. مواجهة هذا المشروع الفتنوي إنّما تتم من خلال العمل على كشف زيف المخطط الأميركي، وفضح التدخل الفعلي الذي تمارسه أميركا في شؤون دول المنطقة، والإضاءة على أهمية التعاون والتنسيق والتفاعل بين إيران والدول العربية المعزز بروابط الدين، وعلاقات الجوار، والعمل على إيجاد صيغ للتعاون بين دول المنطقة في شتى المجالات بما يحمي استقلالها وسيادتها ويجنّبها الدخول في صراعات تريد الدول الاستعمارية إيقاعها فيها لتبقى مسيطرة ومهيمنة عليها ولتنهب ثروات النفط والغاز. من هنا فإن مصلحة العرب، وفي المقدمة الدول العربية المقابلة والمجاورة لإيران إقامة أفضل العلاقات معها على قاعدة التفاعل والتعاون والتنسيق الذي يحقق أمن المنطقة واستقلال دولها.

* كاتب وإعلامي عربي / عن الاخبار

- «إسرائيل فالي» ومغامرة الدور الجديد / حسام مطر

ارتبط المشروع الصهيوني في بلادنا، منذ البداية، بالمصالح الغربية المتمثلة في محاولة إخضاع شعوب المنطقة والهيمنة عليها. خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وفي سياق احتواء مشروع محمد علي في المشرق والذي لامس حدود الآستانة (قلق الأوروبيون حينها من طلب السلطان الدعم من روسيا وقدوم أسطولها إلى المتوسط) قدمت بريطانيا الدعم للسلطان العثماني. وفي هذا السياق، طلب وزير خارجية بريطانيا “بالمرستن” من سفيره في إسطنبول محاولة إقناع السلطان وحاشيته بأن الحكومة الإنكليزية ترى أن الوقت أصبح مناسباً لفتح فلسطين أمام هجرة اليهود. وأهمية فلسطين بالنسبة إلى البريطانيين كانت لضمان السيطرة على قناة السويس، باعتبارها نقطة ارتكاز على طريق الحرير من الهند إلى المتوسط.
وخلال الحرب العالمية الأولى، حاول الألمان إقناع العثمانيين بالتعاون مع الطموحات الصهيونية في فلسطين لجذب الموارد اليهودية، بعيداً عن بريطانيا. ففي عام 1914، أبلغت وزارة الخارجية الألمانية سفيرها في القسطنطينية بأنه: “لا يمكن إنكار أن مما يشكل تماماً، في اللحظة الراهنة، حكمة من الباب العالي، هو أن يحاول من خلال المعاملة المتساهلة مع الصهيونية كسب تعاطف اليهودية العالمية، وخاصة في أميركا”. ولذا كان من جملة المبررات التي قدمها بلفور لدعم إقامة “الوطن اليهودي” حجة التصدي لجهود ألمانيا لاجتذاب الصهانية.
في المحصلة، كانت قدرة المناورة لدى الحركة الصهيونية ومواردها في لحظة احتدام صراع القوى الدولية عاملاً حاسماً في تحويل “الحل الصهيوني” إلى واقع صلب. ومنذ العدوان الثلاثي على مصر، ومن ثم الحروب العربية ــــ الإسرائيلية في حقبة الحرب الباردة، سعت “إسرائيل” إلى التأكيد دوماً للقوى الغربية أنها تمثل خياراً ضرورياً وشريكاً لا غنى عنه لإخضاع المنطقة وسحق مشاريع الاستقلال والتحرر الوطني والتكامل الإقليمي. منذ البداية، لم يكن الرهان الغربي على اليهود الصهاينة نابعاً من فراغ، بل من نجاحهم في إقناع الغربيين بقدرتهم وكفاءتهم على أداء دور وظيفي فاعل داخل المنطقة، انطلاقاً من “الدولة اليهودية”.

التحول إلى عبء
تمكّن الكيان الصهيوني من أداء هذا الدور حتى نهاية الحرب الباردة من خلال امتلاك قدرة المبادرة الاستراتيجية داخل المنطقة ونقل الحرب إلى أرض الخصوم وخوضها على جبهات متوازية. ألحقت القوة العسكرية الإسرائيلية أضراراً جسيمة بمشاريع قومية واستقلالية متقدمة، كما في التجربة الناصرية واستلحقت معظم النظام الرسمي العربي وقوّضت النفوذ السوفياتي داخل المنطقة. بإثبات كفاءتها في المبادرة الاستراتيجية، تمكّنت “إسرائيل” من اجتذاب دعم غربي هائل وإقناع الغرب بأن عوائد دعمها مالياً واقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً تتجاوز بكثير الأعباء المادية والسياسية والأخلاقية المترتبة على الغرب نتيجة دعمه حروب “إسرائيل” وانتهاكاتها الصارخة.
لكن مع نهاية الحرب الباردة وخضوع أغلب أنظمة المنطقة للولايات المتحدة، ظهرت نقاشات في واشنطن حول استمرار جدوى دعم “إسرائيل”. سارع قادة الكيان الصهيوني الى تأكيد جدوى كيانهم من خلال محاولة الاستثمار في البيئة الإقليمية الجديدة بطرح فكرة “الشرق الأوسط الجديد” لصاحبها شيمون بيريز. بنى بيريز جزءاً من أطروحته على أن التطور والتوسع الذي بدأ يبرز في الأنظمة الصاروخية التقليدية وغير التقليدية لا حل عسكرياً له، وقد قوّض فكرة العمق الجغرافي الآمن. ولذا نادى بيريز بالاندماج التنموي والاقتصادي الإقليمي، بما يتيح لإسرائيل الاستفادة من ريادتها التكنولوجية ونفوذها الدولي لتصبح مركز الإقليم وعقدة مواصلاته المطلة على المتوسط نحو العالم.
إلا أن مشروع المقاومة بدأ منذ أواسط التسعينيات يثبت نفسه كمتغير قادر على إعادة تشكيل قواعد اللعبة الإقليمية. حاول الكيان الصهيوني استخدام قدراته العسكرية لامتصاص صعود قوى المقاومة لكن من دون جدوى، وصولاً إلى تحرير جنوب لبنان وقطاع غزة. إلا أنه رغم ذلك كان لدى الصهاينة اعتقاد بأنهم ما زالوا قادرين على استخدام المبادرة الاستراتيجية واستعادة التوازن وسحق قوى المقاومة، وتقاطع مع هذا الظن، الحاجة إلى إثبات الذات والفائدة للإمبراطورية الأميركية المتهالكة الغارقة في الصحراء العراقية بعد غزو 2003.
بناءً على هذه المعطيات، بادرت “إسرائيل”، بطلب أميركي، عام 2006 نحو حرب واسعة ضد حزب الله لتكتشف بمحصلة الحرب أنها أمام واقع مختلف تماماً، وأن التراكم الكمي لقوى المقاومة قد أدى إلى تحول نوعي لم يعد من السهل تداركه. وتعزز هذا الإدراك مع العجز عن حل تحدي المقاومة الفلسطينية في غزة. مع هذا التراجع الوظيفي لإسرائيل، ومع ما توصل إليه تقرير بايكر ــــ هاملتون عن ضرر الدعم الأميركي لـ“تل أبيب” وسياساتها العدوانية على المشروع الأميركي في المنطقة، استجد النقاش الأميركي عن جدوى الدعم الأميركي الهائل للكيان الصهيوني. ومنذ حينها، يكرّس باحثو معهد واشنطن الصهيوني عشرات المقالات والدراسات تحت عنوان إثبات جدوى دعم “إسرائيل” للأمن القومي الأميركي.

نحو الردع الجاري
مع هذا التراجع الذي بدأ يصبح سهل الإدراك من أعداء “إسرائيل”، انتقلت جهود الكيان نحو تعزيز العمليات الأمنية (اغتيال الحاج عماد مغنية ومساعد الرئيس السوري محمد سليمان وكوادر من حركة حماس مثل محمود المبحوح) وتعزيز القدرات الدفاعية (ولا سيما على الصعيد الصاروخي)، والضربات التكتيكية (الغارة الإسرائيلية على المفاعل المزعوم في دير الزور 2007) والهجمات السيبيرية على المنشآت النووية الإيرانية وتفعيل الحملات الإعلامية والدبلوماسية ودعم جهود العقوبات الأميركية والتحريض عليها. كل هذه الإجراءات والسياسات هدفت على الأقل إلى منع قوى المقاومة من مراكمة عناصر القوة والتشبيك وتوحيد الجبهات، بانتظار أن تلوح فرصة تتيح لـ“إسرائيل” استعادة المبادرة، وهو ما كان مع اندلاع الحرب السورية.
قدمت ظروف الحرب السورية فرصة مثالية لـ“إسرائيل”، إلا أنها بالمحصلة كشفت لها أنها خسرت قدرة المبادرة الاستراتيجية. فرغم ما حملته الحرب من استنزاف وانكشاف لمحور المقاومة، سوريا وحزب الله على وجه التحديد، لم تغامر “إسرائيل” بالذهاب نحو الحرب، برغم ما تلقته من تحريض وتشجيع لسلوك هذا الخيار. إن أحد أبرز نجاحات محور المقاومة في ردع “إسرائيل” يتمثل في دمج الجبهة الداخلية الإسرائيلية بالكامل في أي حرب مقبلة وكشفها أمام منظومة هائلة من القدرة النارية. استعاض كيان الاحتلال عن المبادرة الاستراتيجية بتفعيل “الردع الجاري” أو الضربات التكتيكية لضبط تعاظم قدرات محور المقاومة.
خلال الحرب السورية، حاول الصهاينة تطوير المبادرة التكتيكية وتنشيطها تحت عنوان منع تعاظم قدرات حزب الله في ما يخص الاستحواذ على أسلحة دقيقة كاسرة للتوازن ونقلها ومنع إيران من تثبيت وجودها العسكري في سوريا، سواء المباشر أو عبر القوى الحليفة (وهذا ما يطلق عليه “المعركة بين حروب”). وأخذ قادة العدو يكررون التأكيد على هذه الخطوط الحمر التي سيلتزم كيانهم بها ولو كانت كلفتها التدحرج نحو الحرب (إحدى الأفكار التي طُرحت تمثّلت في أن تستفيد “إسرائيل” من تفوقها الناري الهائل وتنفيذ ضربة لعدة أيام، ثم إيقاف الحرب من طرف واحد). بعد عام 2013 تحديداً، عزز الصهاينة هجماتهم داخل سوريا تحت العناوين الآنفة الذكر، ثم أخذت الهجمات بالتزايد ولا سيما حين اتضح أن مشروع إسقاط الدولة السورية سلك مساراً مختلفاً.
في آذار 2018، حاول يانيف فريدمان قراءة تجربة “إسرائيل” في الرد على تحدي حركة فتح في لبنان بين 1970 – 1972 لاستكشاف فوائد نظرية الاستنزاف، في ظل التحديات الجديدة التي يواجهها الكيان. يعتقد فريدمان بأن التفوق الاقتصادي والتكنولوجي لـ“إسرائيل” يمنحها الأفضلية على خصومها في حرب الاستنزاف، إذ إنها ستفرض عليهم أثماناً وتكاليف باهظة ستقوض قوتهم على المدى الطويل، وفي المقابل سيكون الضرر اللاحق بإسرائيل محدوداً ومقبولاً داخلياً، وحتى على مستوى المشروعية لن يعارض المجتمع الدولي هذه الضربات الموضعية كونها محدودة وتجري في إطار الرد والدفاع. يستذكر الكاتب مقولة لرئيس الأركان أليعازر عندما عرض عليه اجتياح بيروت عام 1972 رداً على تصعيد حركة فتح:
“أنا شخصياً، لا أومن برد عملاني استراتيجي وحيد تنتهي به الحرب. لو كنت أعتقد جازماً بأن احتلال بيروت سينهي الحرب لكنت اقترحت ذلك. أعتقد بأن الأسلوب هو أسلوب تراكم العمل الفعال الدؤوب وتحميل الدول المجاورة عبئاً ثقيلاً وجعل ذلك لا يطاق”.
تهدف الهجمات التكتيكية إلى منع تعاظم قوة الخصم واستنزافه، ومن خلال ذلك إما أن يتحقق نوع من التراكم يسمح بالحسم العسكري وإما أن يضرب إرادة القتال عند الخصم وإغراقه باليأس. فالضربات التكتيكية ينبغي أن تكون جزءاً من معركة أكبر يفترض أن تظهر نتائجها بشكل متدرج وموزون. إلا أن كيان العدو، مع انتهاء الأعمال العسكرية الأساسية داخل سوريا، بدأ يكتشف أن قدرته على العمل التكتيكي بدأت تتقلص إلى حدود واسعة. بدأ محور المقاومة في الأشهر الأخيرة بإظهار جرأة أكبر في التصدي للضربات الإسرائيلية داخل سوريا (إسقاط طائرة أف 16 فوق الجولان)، وقد صرح السيد حسن نصر الله في أكثر من مناسبة بأنه أصبح من الضروري إيجاد حل لاحتواء هذه الهجمات. ثم تفاقمت المعضلة الصهيونية بعد حادثة التسبب بإسقاط طائرة روسية وتقييد موسكو “حرية العمل” فوق سوريا. بالتوازي، لا تزال إسرائيل مردوعة عن محاولة تحريك توازن الردع في لبنان ولو بعمل تكتيكي، وقد نجح حزب الله طوال السنوات الماضية في إدخال عناصر ردع إضافية إلى العقل الإسرائيلي كبّلته وعقّدت حساباته.

«إسرائيل فالي»
إذاً، “إسرائيل”، التي فقدت مبادرتها الاستراتيجية، تتراجع قدرتها على العمل التكتيكي، وكل ذلك في إقليم يتغيّر ويتحول بشكل غير قابل للتنبؤ، وميزته الأساسية تراجع منظومة الهيمنة الأميركية، فيما يواصل خصومها مراكمة قدراتهم التي تتيح ردع “إسرائيل” ودفعها إلى خلف الجدران (بالمعنى الحرفي)، وهذا ما يجعل الكيان مكشوفاً أكثر لمخاطر أمنية هائلة. إن تراجع قدرة إسرائيل على شن الحروب يقوض دورها الوظيفي، بينما يضع تراجع مبادرتها التكتيكية مستقبلها على المحك لأنه بذلك يصطف عنصر الوقت إلى جانب أعدائها.
وتذهب بعض القراءات الإسرائيلية إلى أن نجاح إيران في بناء قدرة تقليدية في سوريا سيكون “مظلة” لتستكمل طهران برنامجها النووي. ويبرز القلق الإسرائيلي من نمو القدرات التقليدية لمحور المقاومة، في حديث لعوزي روبين (مؤسس برنامج الدفاع الصاروخي الإسرائيلي) بقوله: “ذهلت قبل سنتين خلال حديثي مع بروفسور في جامعة جنوب كاليفورنيا يدرّس صفوف الماجستير والدكتوراه هندسة طيران أن 20% من الطلاب هناك إيرانيون يأتون من إيران، وأغلبهم يعودون إليها”. بالمحصلة، لا تحتمل تل أبيب خسارة هامش الحركة التكتيكية وتسعى الى استكشاف هامش جديد، سواء من خلال الضغوط الدبلوماسية الدولية أو التفاوض مع الروس أو تفعيل العمل الأمني أو محاولة تحريك موزونة لمسار ينهي توازنات ما بعد 2006 في الجبهة الشمالية.

لا تحتمل تل أبيب خسارة هامش الحركة التكتيكية وتسعى إلى استكشاف هامش جديد

يتحدث الصهاينة أن مسار العمل الحالي ضد محور المقاومة ثلاثي الأضلاع، اقتصادي (فرض عقوبات مالية واقتصادية) ودبلوماسي ــــ قانوني (ولا سيما محاولة جر أوروبا للتشدد ضد إيران وحزب الله) والنشاط الحركي أو العمليات التكتيكية. يبدو أن الرؤية الإسرائيلية الاستراتيجية الحالية تقوم على إعادة إنتاج الدور الوظيفي للكيان، بعد اضمحلال الدور السابق أي دور “إسبارطة” أو القوة الصلبة. الاستراتيجية تقوم على مكون عسكري دفاعي في الجوهر وهجومي على المستوى التكتيكي لحماية الردع الإسرائيلي، فيما تنقل “تل أبيب” السباق إلى حلبة أخرى وإلى دور وظيفي آخر جوهره “ناعم” هو استعادة لمشروع بيريز للشرق الأوسط الجديد، أي تحويل “إسرائيل” إلى المركز التكنولوجي والاقتصادي والشبكي للشرق الأوسط المتهالك والمشتعل, «اسرائيل فالي» (كمثل «سيليكون فالي» الأميركي).
هذا الدور الجديد يتمظهر في تكثيف الصهاينة مسار التطبيع وإطلاق مشاريع ومقترحات للتشبيك الاقتصادي الإقليمي، كما في الغاز المصري (جرى أخيراً تأسيس “منتدى غاز شرقي البحر المتوسط” ويضم مصر و“إسرائيل” واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن) ومشروع تحلية المياه مع الأردن ومقترح خط الغاز الممول إماراتياً نحو أوروبا وفكرة خط السكة الحديد نحو الخليج. وأخيراً، تحدث نتنياهو مفاخراً عن الثورة التكنولوجية في “إسرائيل” وعن دمجها في القطاعات التقليدية (مثل الزراعة)، والحديثة (مثل صناعة السيارات والأمن السايبري)، ما يضع الكيان في “موقع ريادي في العالم”. ويختم نتنياهو: “نحن 1% من سكان العالم، ونحصل على 20% من الاستثمارات العالمية والخاصة في مجال الإنترنت”.
وفي مؤتمر “سايبرتك”، تحدث نتنياهو عن “دبلوماسية السايبر” حيث تعزز “إسرائيل” صناعات السايبر الدفاعية بشكل هائل وتستخدمها للنفوذ والتشبيك في العلاقات الثنائية على المستوى الدولي. وأكمل نتنياهو “إن ثورة البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي تسمح للدول الصغيرة بأن تكون دولاً كبرى ... إذا قمتم بذلك، فالعالم سيجد طريقه إليكم”.
يحاجج تشاك جي فرايليك (نائب سابق لمستشار الأمن القومي الإسرائيلي، وزميل كبير في مركز بلفر حالياً) في مقال عمّا يمكن لإسرائيل أن تخطط لخمسين عام مقبلة لو أرادت تقليد ما نشرته إيران أخيراً عن “النموذج الإسلامي الإيراني للتقدم”، بأن “الدول العربية كلها تقريباً في أزمات ... وسببت أزمة لاجئين في أوروبا... بإمكان اقتصاد إسرائيل المزدهر أن يؤدي دور مغناطيس اقتصادي ــــ اجتماعي ليس بإمكان أي حدود أن تعيقه، تخيّل الأمر بعد 50 سنة من اليوم”. ويكمل أنه يمكن لإسرائيل أن تؤثر في اتجاهات الأحداث عبر “خطة مارشال للشرق الأوسط”، على نسق خطة مارشال الأميركية لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. (9 كانون الثاني 2019).

خاتمة
من خلال هذا الدور المزمع، تسعى تل أبيب إلى إقناع الغرب بقدرتها على “تحديث” المنطقة وإخماد الحركات الوطنية فيها واستتباع دولها. إن “إسرائيل” تسعى إلى ربط الحياة اليومية لشعوب المنطقة ومصالحهم الاقتصادية بها لتعيد إنتاج هوياتهم وتصوراتهم من موقع مركزي ومتفوق، وبذلك تريد “إسرائيل” القول لشعوب المنطقة، وليس للأنظمة فقط، إن وجودها ليس طبيعياً فحسب، بل ضروري. فالكيان الذي لم يعد قادراً على التوسع الميداني لتأمين عمق جغرافي (إسرائيل الكبرى) والذي تقلصت فوقه المظلة الأميركية يسعى إلى تأمين عمق سياسي إقليمي بديل.
ولتتمكن “إسرائيل” من بناء هذا الدور الجديد، لا بد لها من مقدار متقدم من الردع ضد محور المقاومة، وإخماد المقاومة داخل فلسطين، وإطلاق مسار التطبيع، وتعزيز مشروعيتها العالمية وتحسين صورتها، وإدامة الانقسامات والحواجز بين دول المنطقة وشعوبها، ومنع صعود مراكز اقتصادية إقليمية مناوئة. هذه المتطلبات يمكن أن يكون إسقاطها أجندة عمل لأي حركة شعبية أو سياسية أو نخبوية تبغي مقاومة المشروع الصهيوني. ففي موازاة الاستمرار في تكريس عقم “إسرائيل” العسكري، لا بد من السعي إلى منعها من إعادة إنتاج دورها الإقليمي أي التحول إلى مركز اقتصادي وتكنولوجي وشبكي إقليمي. إن نجاح مشروع المقاومة على هذا الصعيد سيعيد تذكير الصهاينة بمقولة كارل هارتل (السفير النمسوي لدى الكيان خلال خمسينيات القرن الماضي) بأن “إسرائيل شاءت أو أبت، ليست إلا عبارة عن رذاذ من أوروبا التي دمرها هتلر، بقي ملتصقاً على سواحل آسيا الصغرى”.

* أستاذ جامعي / عن الاخبار

- همروجة وارسو / وليد شرارة

مؤتمر وارسو مثال جديد على مدى تحول السياسة إلى فنٍّ استعراضي. كان الهدف المركزي المعلَن للمؤتمر، عند بدء الإعداد لعقده من قِبَل الإدارة الأميركية، هو مواجهة إيران. لكن رغبة الإدارة في تأمين أوسع مشاركة ممكنة في المؤتمر، وإدراكها جدية الخلافات بينها وبين الأطراف الأوروبية الوازنة، كألمانيا وفرنسا والمفوضية الأوروبية وحتى بريطانيا، حول كيفية مقاربة الملف الإيراني، دفعاها إلى ربطه بهدف آخر وهو «الترويج لمستقبل السلام والأمن في الشرق الأوسط».
أتى عزوف تركيا وروسيا عن المشاركة فيه، وإدانة السلطة الفلسطينية له، وضعف مستوى تمثيل الأطراف الأوروبية المذكورة، ليظهر مجدداً عجز الولايات المتحدة عن فرض أجندتها على لاعبين سياسيين معنيين بأبرز القضايا التي يتطرق لها المؤتمر، على رغم أن بعضهم لا يزال حليفاً لها. من الصعب الاقتناع بأن هذه النتيجة لم تكن متوقعة من قِبَل أركان إدارة دونالد ترامب وبقية المشاركين بحماسة في همروجة وارسو. اعتبارات أخرى، سياسية وانتخابية، يغلب عليها البعد الاستعراضي، تشكل الخلفية الفعلية للمؤتمر، وتحتلّ حيزاً أساسياً في حسابات «نجومه» الأميركيين والإسرائيليين وبعض الخليجيين.

ضرورة طمأنة الحلفاء
ليس سراً أن إيران عدو مشترك لجميع أطراف وارسو. لا يفوّت أي منهم فرصة لاتهامها بأنها مصدر كل الشرور في العالم، والتنسيق بينهم ضدها بات معروفاً. لا يحتاج هذا التنسيق العملي، والمستمر منذ فترة غير قصيرة، إلى عقد مؤتمر دولي، خصوصاً بحضور جهات أخرى تطرح مقاربة مختلفة للعلاقة مع طهران، وتعارض بدرجة أو أخرى مقاربة واشنطن ووكلائها. يُعقد المؤتمر في سياق شرق أوسطي من سماته البارزة تزايد مخاوف الوكلاء المحليين للولايات المتحدة، إسرائيل والسعودية أساساً، مما يعنيه الانسحاب المعلن لقواتها من سوريا، وما يؤشر عليه من تراجع نسبي لأولوية الإقليم وشؤونه في جدول أعمالها. احتواء الصين وما يترتب عليه من سياسات وحشد للقوى بات يحتلّ موقع الأولوية الأولى بالنسبة إلى الإدارة الأميركية بدفع من رئيسها، على رغم معارضة تيار قوي في داخلها. تلي هذه الأولوية أيضاً أولوية أخرى وهي استعادة السيطرة على أميركا الوسطى واللاتينية، وهو ما كشفته سلسلة التطورات التي حدثت في البرازيل وفنزويلا، وتحويلها مجدداً إلى حديقة خلفية مغلقة أمام تمدد النفوذ الصيني والروسي.
لا يعني هذا التغير في جدول الأولويات فقدان الشرق الأوسط أهميته الاستراتيجية في نظر واشنطن، لكنه قد يعني، كما قال آموس هاريل كبير المعلّقين في قضايا الأمن والدفاع في «هآرتس»، أن هذه المنطقة ستكون أقل حضوراً على المستوى اليومي، وأن الحلفاء سيضطرون إلى التعامل مع تحديات متصاعدة بدرجة أكبر من الاعتماد على النفس، في بيئة إقليمية متغيرة لغير مصلحتهم. قدرة الولايات المتحدة على التحكم بشؤون العالم متراجعة وبسرعة، وما سمّاه عدد من أهم خبرائها الاستراتيجيين «الغرق» في الشرق الأوسط تم على حساب التصدي لتحديات أخطر وأكبر على موقعها كقوة مهيمنة، كالصعود الصيني وعودة روسيا إلى الساحة الدولية. لم تكن هذه القناعة بعيدة عن إعلان الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عن سياسة الاستدارة نحو آسيا، ولا حتى عن قراره التوصل إلى اتفاق مع إيران حول ملفها النووي، يكون بمثابة فكّ اشتباك، للتفرغ لمواجهة الصين.
التيار الصقوري في الإدارة الحالية بقيادة جون بولتون يحذر من مغبة قيام إيران، وحتى روسيا وتركيا، بملء الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأميركي في الإقليم، ويدفع إلى اعتماد استراتيجية أكثر عدوانية ضد الأولى، تؤدي إلى احتواء نفوذها الإقليمي وإضعاف نظامها وزعزعة استقراره، قبل التفرغ لمناطق أخرى. ليس من المصادفة تكاثر العمليات الإرهابية التي تشنّها مجموعات انفصالية مدعومة أميركياً في إيران، وآخرها عملية وقعت خلال انعقاد مؤتمر وارسو. ستواصل الإدارة سياساتها المعادية لهذا البلد بوسائل وأدوات مختلفة، كالعقوبات الاقتصادية والحصار والضغوط، مراهنة على إمكانية النجاح في إضعاف نظامه، أو حتى التسبب بإسقاطه إن كان ذلك ممكناً. غير أنها مجبرة على مواجهة تحديات أخرى في الآن نفسه. يستدعي هذا الواقع طمأنة الحلفاء المحليين إلى أن أولويات واشنطن الراهنة لا تعني تخلّيها عنهم، وأنها تحرص على بناء جبهة عالمية للدفاع عنهم. ترامب يعي أن قراره الانسحاب من سوريا تسبّب بامتعاض شديد لدى حلفائه الإسرائيليين والسعوديين، الذين أوعزوا إلى جماعات الضغط المرتبطة بهم في أميركا بمهاجمة القرار، وهو لا يريد فقدان دعم اللوبي الصهيوني القوي وأنصار إسرائيل الكثر، لأن هدفه الأول هو تأمين شروط إعادة انتخابه لولاية ثانية. وظيفة مؤتمر وارسو من منظور إدارة ترامب هي التأكيد على أنها لن تتخلى عن التزاماتها تجاه الحلفاء مهما تغيرت الظروف.

التطبيع مع العرب كورقة انتخابية
تحكم الاعتبارات الانتخابية العديد من مواقف وقرارات بنيامين نتنياهو في الآونة الأخيرة. منطق واحد يربط بين إعلانه عن مسؤولية إسرائيل عن مئات الغارات على أهداف في سوريا، والذي أثار غضب أوساط عسكرية صهيونية رأت فيه خرقاً لسياسة الغموض البناء المتبعة حيال هذا الأمر، وإصراره على التطبيع العلني مع قادة ومسؤولين عرب، وهو السعي المحموم لكسب أصوات الإسرائيليين مع اقتراب الانتخابات. فالجهر بوجود علاقات تعاون وتنسيق مع بلدان عربية، على رغم عدم تسوية القضية الفلسطينية، يعزز ـــ من منظور نتنياهو ـــ من صدقية النهج الذي اعتمده طوال فترة حكمه أمام الرأي العام، ويثبت أنه نجح في تحقيق إنجازات كبرى على المستويين السياسي والاستراتيجي بالنسبة إلى إسرائيل، من دون تقديم أي تنازلات تذكر. همروجة وارسو فرصة لتلميع صورة رجل متهم وزوجته بعدة قضايا فساد، كفيلة بأن تقوده مباشرة إلى السجن في حال خسارته الانتخابات.

المذعورون
ممالك الخليج وإماراته قد تكون الأكثر ذعراً من إمكانية تراجع النفوذ الأميركي في الإقليم. هذا هو الدافع الأول لمسارعتها هي الأخرى إلى التطبيع المكشوف مع إسرائيل. العلاقة معها، بالإضافة إلى كونها إذعاناً لطلب من الحليف الأميركي بغية كسب المزيد من رضاه، جزء من عملية تعزيز لشراكات جديدة ضمن سياسة تحوّط استراتيجي لأنظمة تشعر بأن بقاءها مهدد عندما تتراجع الحماية الخارجية. دونالد ترامب كان محقاً عندما أكد مراراً وتكراراً أن النظام السعودي ما كان ليبقى لأيام لولا الحماية الأميركية. همروجة وارسو فرصة للظهور جنباً إلى جنب مع حلفاء أقوياء، يمنح الوقوف معهم شعوراً بالأمن والطمأنينة لعائلات حاكمة مرعوبة من المستقبل. فالمتغيرات العاصفة التي تشهدها المنطقة يصعب التنبؤ بتداعياتها عليهم.

- عن الاخبار



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 132 / 2184632

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2184632 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 18


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40