الجمعة 4 كانون الثاني (يناير) 2019

إن تنازلات القيادة الفلسطينية الخطيرة، التي تتعدى...

الجمعة 4 كانون الثاني (يناير) 2019

- تنفيذ مخطط تصفية القضية الفلسطينية / عبد الجواد صالح

وافق الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات على اشتراط شولتز الاستجابة الحرفية للصيغة التي طلبتها إدارة ريغان منه مقابل اشتراك «منظمة التحرير» في المفاوضات. فأعلن في مؤتمر في جنيف بتاريخ ١٤/١٢/١٩٨٨ النص المشترط عليه، وهو إدانته ورفضه الكفاح المسلح والتخلي عنه، ونبذ الإرهاب، وأن الرغبة في السلام استراتيجية وليست تكتيكاً ولن يتراجع عنها إطلاقاً، وقبول المنظمة القرارين 242 و338 أساساً للمفاوضات مع إسرائيل التي اعترف بحقها في الوجود، ثم إلغاء ميثاق المنظمة بكلمة فرنسية واحدة: «كادوك».
بدأت المفاوضات بين «منظمة التحرير الفلسطينية» وإسرائيل على أساس وثيقة «إعلان المبادئ» التي قدمتها الإدارة الأميركية كمرجعية للمفاوضات بين المنظمة وإسرائيل، وكانت التنازلات التي اشترطها شولتز مقدمة لسلسلة من التنازلات التي حولت المفاوضات إلى مهزلة. بدأ تنازل المفاوض الفلسطيني وقيادته السياسية عما هو دون مستوى مرجعية المفاوضات التي وضعتها حليفة إسرائيل في وثيقة «إعلان المبادئ». إذ تنازلت القيادة الفلسطينية عن مبدأ الولاية التي نصت عليها المادة الرابعة من الوثيقة التي اعترف بها الطرفان كمرجعية للمفاوضات، ونصها: «اعتبار الطرفين الضفة الغربية وقطاع غزة وحدة مناطقية واحدة يجب المحافظة على وحدتها وسلامتها خلال الفترة الانتقالية».
التزاماً بالمادة الرابعة، رفض د. حيدر عبد الشافي، رئيس فريق المفاوضات في المرحلة العلنية، التنازل عن مبدأ الولاية عندما أصر على ضرورة التوقف عن بناء المستوطنات تحت مظلة المفاوضات، فهذا النشاط من شأنه تغيير الحقائق على الأرض ويتناقض مع الولاية التي نصت عليها المادة الرابعة. ولكن القيادة الفلسطينية ضربت عرض الحائط بموقف عبد الشافي، وقامت بالتفاوض من وراء ظهره في مفاوضات أوسلو السرية، بينما استمر الاستعمار الاستيطاني في نهب الأرض الفلسطينية تحت مظلة المفاوضات، حتى أصبح عدد المستوطنين أكثر من نصف مليون، معظمهم ملتزمون الأيديولوجية الصهيونية التي لا تؤمن بأي حق لشعب فلسطيني بالعيش على هذه الأرض.
واستطراداً لهذه التنازلات العبثية، غضت السلطة النظر عن المطالبة بانسحاب جيش الاحتلال من ٩٠٪ من منطقة «ج» بعد تولي المجلس التشريعي أعماله بثمانية عشر شهراً كما تنص «أوسلو»، إذ تشكل المنطقة «ج» 60% من الضفة الغربية، وهي التي تشكل الفضاء الزراعي، إضافة إلى كونها الرصيد لاحتياجات الأجيال المقبلة. ثم تُركت المنطقة بكليتها نهباً للمستوطنات التي مزقت الضفة إلى كانتونات محاصرة معدومة التواصل الجغرافي، بينما الكيان الصهيوني ماض بإجراءات غير مسبوقة تستهدف تهويد فلسطين من البحر إلى النهر، إذ يتولى مستعمروها منذ اليوم الأول ممارسة مناورات التطهير العرقي من حرق للعائلات، وغزو للقرى، وحرق لسيارات المواطنين، وتدمير لآلاف الدونمات من مزارع الزيتون والقمح من أجل حرمان الناس ضمان أمنهم الغذائي والأمني، بينما وقفت السلطة متفرجة كأن ما يجري ليس من مسؤولياتها لأنه يجري في بلاد الواق واق، ونسيت وعودها لشعبها بالسعي إلى نيل عضوية الأمم المتحدة عبر اللجوء إلى القضاء الدولي، دون أن تفعل حتى اللحظة.

تصل تنازلات القيادة إلى حد التآمر باعترافها بمبدأ التبادلية، أي تبادل الأرض المصادرة لمصلحة المستوطنات

وأدهى وأمر أنها تجاهلت وتنكرت لأهم وثيقتين أمميتين، أولاهما توصية محكمة العدل الدولية وثانيتهما تقرير ستون، وكلتاهما فضحت الكيان الصهيوني وإجراءاته التعسفية التي تدينه بجرائم حرب! وتصل تنازلات القيادة الفلسطينية الى حد التآمر باعترافها بمبدأ التبادلية، أي تبادل الأرض الفلسطينية المصادرة لمصلحة بناء المستوطنات التي بنيت على أرض القدس والوطن المحتل كافة بتبادلها بأراض في النقب، وبعض هذه الأراضي مستخدم كمكب للنفايات الذرية! ولا تتغاضى هذه القيادة عن أخطار المستوطنات فحسب، بل تتنكر لعشرات قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة التي تدينها كجرائم حرب، ولذلك تطالب بعض هذه القرارات بتفكيكها وإزالتها من الوجود، لتأتي هذه القيادة الفلسطينية وتمنحها الشرعية!
إنّ الطامة الكبرى آتية لا مفر منها بعد هذا الانحراف عن الأهداف الوطنية، إذ كان من المفترض بمقتضى «إعلان المبادئ» عند نهاية السنة الثانية وقبل بداية الثالثة من المرحلة الانتقالية التفاوض حول قضايا المرحلة النهائية كما تنص المادة «الخامسة» من الوثيقة وعلى رأسها قضايا القدس، اللاجئين، المستوطنات، المياه والحدود. لكن المفاوضات حول هذه القضايا، لم تجْر. وقد قررت شخصياً بصفتي عضواً في المجلس التشريعي الأول، قبل نهاية السنة الثانية من المرحلة الانتقالية، وهو الوقت الذي كان يجب فيه بحث قضايا المرحلة لنهائية حسب «إعلان المبادئ»، تقديم مشاريع قوانين تغطي وجهة نظري وأمل الشعب الفلسطيني بشأن جميع قضايا المرحلة النهائية، وكان هدفي التعرف الى توجهات هذه القيادة وكشف حقيقة تواطئها، فبادرت إلى تقديم أول مشروع قانون عن أول قضية من قضايا المرحلة النهائية وهي القدس عاصمة فلسطين، ولكن رئيس المجلس السيد أحمد قريع رفض مشروع القانون الذي قدمته، ما زاد شكي وخوفي.
ثم فوجئت بطلب رئيس المجلس تمديد فترة «التشريعي» الأول عند نهاية المرحلة الانتقالية عام 1999، وجن جنوني عندما لم يربط الرئيس طلب التمديد بقضايا المرحلة النهائية، فطلبت نقطة نظام وخاطبت أعضاء المجلس: أيعقل أيها الإخوة والأخوات أن يمدد لـ«التشريعي» دون ربط عملية التمديد بقضايا المرحلة النهائية التي كان يجب إنهاء التفاوض عليها قبل أن نمدد «التشريعي». فإن فعلتم ذلك، أيها الإخوة والأخوات، فإنكم شركاء في الجريمة، وترتكبونها خدمة لنتنياهو، مجاناً!
وفجأة صرخ صوت: أوقفوا الميكروفون «عنه». فقطعوه. نظرت باتجاه الصوت فإذا به أمين سر الرئاسة السيد الطيب عبد الرحيم، وهو ليس عضواً في المجلس! رجعت بنظري نحو رئيس المجلس واعترضت على الانصياع لأمر من هو غير عضو مجلس، واستطردت قائلاً: هل تريدون التنازل عن أهم قضايا الوطن، قضايا المرحلة النهائية وعلى رأسها القدس وحق العودة والاستيطان والحدود والمياه، كل ذلك لنتنياهو وبالمجان؟! القدس، التي تضم في القلب المسجد الأقصى الذي بارك الله من حوله ومسجد الصخرة التي صعد محمد عليه الصلاة والسلام إلى السماء منها، القدس التي تضم بين جناحيها كنيسة القيامة، وجميع هذه المقدسات روح الأمة وهويتها ووحدتها القومية، نلقي بها في الهاوية؟ ماذا يقول شعبكم الذي اختار الخيمة ورفض التوطين حتى يضمن العودة إلى مدنه وقراه؟ وماذا أنتم فاعلون عندما تتنازلون عن أرضكم للاستيطان، فهل نسيتم عملية التطهير العرقي لشعبنا عام 1948؟
أستحلفكم بالله والوطن أيها الإخوة والأخوات تأجيل هذا الاجتماع إلى الغد، لمنح المجلس فرصة البحث مطولاً وبالتفصيل لأبعاد هذا الموقف الخطير الذي من شأنه تصفية القضية. أما خيارنا الثاني، اليتيم، فعلينا أن نعلن نهاية المرحلة الانتقالية، ونعلن باسم سيادة الشعب العربي الفلسطيني بدء معركة التحرر من الاحتلال.
ولكن، لم يخرج من لم يرضع الشجاعة من حليب أمه، حتى من بين من ادّعى المعارضة فينطق بكلمة يتيمة واحدة: أثَنُّي! لَأنْقذَ القضية من الانزلاق في ما هي فيه اليوم! وعاد رئيس المجلس التشريعي ليقدم قانون القدس الذي رفضه سابقاً بعدما وجد مخرجاً لإمراره في وثيقة جرى التفاوض عليها سرّاً بخصوص قضايا المرحلة النهائية تُعرف بوثيقة أبو مازن ــــ بيلين، إذ توصلا إلى حل تصبح بموجبه «القدس الغربية والشرقية» عاصمة للكيان الصهيوني! واتفقا على تسمية المدينة باسمين، أولاهما «يروشولايم» اسم عاصمة الكيان الصهيوني، وباللاتينية Jerusalem. أما التسمية الثانية، فهي بالعربية القدس، وباللاتينية Al Quds وهذا اسم العاصمة الفلسطينية، ولكن هذه العاصمة الفلسطينية ليس لها علاقة بالقدس الشرقية التي تحوي كنوز التراث الإسلامي والمسيحي العربيين!
ولإخراج وإمرار حلهما، ضمّ الثنائي عباس وبيلين أبو ديس والعيزرية إلى «يروشولايم»، ثم قسمت «يروشولايم» وخرجت منها العيزرية وأبو ديس بفعل الساحرين ليصبح اسمهما القدس، لكن دون أقصاها وصخرتها وقيامتها. وهنا يلحّ سؤال خطر على بال عالم بما يدور حوله: لماذا وكيف خطر على بال السيد محمود عباس نقل مسؤولية الأماكن المقدسة في القدس من مسؤولية الدولة الأردنية كدولة وحكومة إلى العائلة الهاشمية ممثلة بالملك عبد الله الثاني؟ولتوكيد هذا الخذلان حول القدس، سبق أن غضت السلطة الطرف عن طرد مؤسسات فلسطينية معظمها لم تعرف المنظمة بتأسيسها أو بمن يديرها، وهي مؤسسات مقاتلة في سبيل الدفاع عن القدس والصامدين دفاعاً عنها وعن فلسطين، فلم تبذل الجهود المطلوبة لإبقاء هذه المؤسسات في القدس، استناداً إلى القانون الدولي الذي يفرض على السلطة المحتلة التعامل مع الأفراد والمؤسسات الواقعة تحت إدارتها وفق ما يمليه هذا القانون الدولي.
ومؤشر آخر حول ذلك البؤس إعلان عباس، وهو رئيس «منظمة التحرير»، قراره الشخصي برفض حقه بالعودة إلى بلدته صفد التي هُجر وأهله منها بالقوة، وهو موقف ينسجم مع ما نصت عليه وثيقته المشتركة مع بيلين. وللتاريخ أيضاً، فعندما عُين عباس رئيساً للوزراء، عرضَ عليَّ الوزارة في حكومته، فسألته ما برنامجك؟ ـــ المفاوضات. أجاب! فسألته: هل لديك اقتناع بأن الارتكاز على التفاوض سيحرر شبراً من أرض فلسطين؟ فأجاب بنعم. فقلت له: إذا أعطاك شارون شبراً من الأرض بواسطة المفاوضات وحدها، فسأعطيك روحي! لن يحدث هذا دون أن تصبح غاندي الفلسطيني وتعمل على تعبئة مئات الآلاف من الرجال والنساء، عائلات مع أطفالها، تسير كموج البحر، عراة الصدور، موجة إثر موجة لفتح القدس، حتى يكل الجندي الصهيوني من القتل. وعندها لديّ الاستعداد لأكون معك جندياً، كتفي بكتفك في وزارتك، رغم أنني أتفق مع القانون الدولي الذي يقر مقاومة الاحتلال وأي ظلم أو ظالم بكل الوسائل التي يمتلكها الإنسان، بما فيها الكفاح المسلح. ولكنني معك، الآن في النضال السياسي، وتعبئة كتل شعبية. لقد حقق العمل التطوعي تحرير جبال بيت دقو من خطر البيع لليهود أكثر ما حققته نوعية الكفاح المسلح الذي مارستموه! وتبين لي أنه غير مقتنع واقعاً وحقيقة بالكفاح السياسي كما خاضه غاندي، وكما خضته بنفسي.
قال لي: إنك تحمّلني عبئاً فوق طاقتي لا أستطيع حمله. فقلت له، ولكن كيف يمكن أن تحقق المشروع الوطني الفلسطيني، مشروع «فتح» الوطني! ماذا ستفعل إذاً؟ فردّ: سأفاوض. فافترقنا. والشيء بالشيء يذكر، فعندما كنا أعضاء في «اللجنة التنفيذية»، وبعد مؤتمر بغداد الذي تقرر فيه رصد موازنة لدعم صمود الشعب العربي الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، بإدارة «منظمة التحرير» والأردن، إذ ترأس عباس رئاسة لجنة المنظمة وكنت أحد أعضائها. وقفت ضد الفريقين في وجهات النظر في أول لقاء مشترك، حول مرجعية الداخل! إذ اقترح الأردن، الذي كان يترأس وفدها رجل مخابرات من أصل فلسطيني، منح صلاحيات تحديد المستفيدين وأهداف الاستثمار لموظفي الحكومة الأردنية الذين أصبحوا موظفين لدى الحكم العسكري الصهيوني ويأتمرون بأمره، فعارضت ذلك واقترحت أن يكون رؤساء البلديات المنتخبون مباشرة من الشعب هم أصحاب القرار وأي مشاريع للتنمية والصمود.
أما منح الموظفين هذا الدور، فكأنكم تمنحونه للحكام العسكريين الصهاينة أصحاب الدور الذي يستهدف إفقار الناس ليهاجروا من قراهم ومدنهم. وأما التوجه إلى «رش» المبالغ في الداخل، بغض النظر عن وجهة استثمارها، فإنها ستكون أداة تخريب نفسية ومالية للإنسان الفلسطيني، لا أداة للدعم وللصمود. وكانت عملياً وفعلياً أداة تخريب وإفساد! وعند رجوعنا، ذهب السيد عباس إلى الرئيس الراحل وطلب منه إعفائي من عضوية اللجنة الفلسطينية وأكد طلبه: أنا أو عبد الجواد صالح، فنال ما أراد. وتم تنفيذ سياسة «رشّ» المال وتحقق معه الفساد والإفساد وتساوى العميل والمناضل والفقير والغني. حزنت لمصير الصمود أن غياب حياة برلمانية في إطار «منظمة التحرير» يفقدها أداة الردع والتوازن. وتحقق تخوفي من نشر الفساد وتبديد مال الناس التي تقاتل بصدورها العارية!
والمعضلة أن المنظمة لم تقم بعملية تقويم حتى يستفاد من مثل هذه التجربة، ولعل الغاية من هذه الممارسات هي الوصول إلى المرحلة التي نعيشها اليوم. كانت معركتي في الأيام الأولى للمجلس التشريعي، بالتعاون مع مجموعة من أعضاء «فتح»؛ على رأسها أبو علي شاهين، العمل على صياغة دستور لخدمة المرحلة الانتقالية سمي القانون الأساسي، فقد قاتلنا ونجحنا في تبني نظام برلماني، لكننا فشلنا في تأسيس منصب رئيس وزراء اقترحته شخصياً، بينما نجح الضغط الأميركي في ما بعد.
وللتاريخ، عندما تسلم أبو مازن رئاسة الوزراء طلبت شخصياً من الرئيس الراحل إصدار قرار من المجلس المركزي ضد اتفاق أبو مازن ـــ بيلين لتوكيد أن المنظمة لا تعترف بهذا الاتفاق الذي أطاح أهم الثوابت الفلسطينية، فرفض اقتراحي. وجاء الرئيس الأميركي ليلبس ثوب السيد عباس كما في مصالحة الدم الفلسطينية، لإمرار كل التنازلات التي قدمتها السلطة، قبل ظهور هذا الرئيس، على حساب القضية ومصير الشعب: القدس، وحق عودة اللاجئين، والمستوطنات، وبقية قضايا الحل النهائي، التي مسخت الأهم منها الواحدة تلو الأخرى في وثيقته أبو مازن ـــ بيلين.

أضاعت القيادة ربع قرن من حياة الشعب وانتهت بتفريغ جهود الأجهزة الفلسطينية لخدمة الاستيطان

إن تنازلات القيادة الفلسطينية الخطيرة، التي تتعدى الوضع الجنائي، افتخر كبير مفاوضي هذه القيادة بتبجح التنازل عن أهمها عند منح الكيان الصهيوني أكبر «يروشلايم» لم يحلم بها، كما جاء في وثائق فضائية «الجزيرة»! لقد أضاعت هذه القيادة ربع قرن من حياة الشعب وحلمه بمفاوضات عبثية انتهت بتفريغ جهود الأجهزة الأمنية الفلسطينية لخدمة أمن الاستيطان على حساب صمود الشعب الفلسطيني. ودمّر عباس النظام الديموقراطي الفلسطيني، ومؤسساته ذات الطبيعة السيادية، وعلى رأس ذلك نسف الدستور، وهو القانون الأساس الناظم لحياة المجتمع والمحدد لحقوق المواطن وواجباته، ثم شطب الانتخابات الرئاسية والتشريعية، ثم احتلّ كرسي الرئاسة عنوة دون شرعية دستورية، ثم جمّد المجلس التشريعي بهدف تدمير السلطة التشريعية، وحرمان الشعب دور المجلس الرقابي على السلطة التنفيذية، وإلغاء دوره التخطيطي والتنموي للمال العام والاقتصاد الوطني، وتغييب تطوير الموارد البشرية من خلال الإشراف على الموازنة العامة والتصديق عليها، وحل محل هذا النظام الديموقراطي نظام بوليسي ديكتاتوري!
أما الاحتلال ومستوطنوه، فراكموا يومياً مناورات حيّة للتطهير العرقي للشعب الفلسطيني. ولزيادة تعقيد المعقد يُنشر خبر إشكالي الهدف مفاده أن رد فعل رئيس السلطة على مبادرة السلام الأميركية سيتوقف على مدى قدرته على تحقيق الربح الشخصي منها. فهو في الثالثة والثمانين من العمر، مريض، وأيامه في الحكم اقتربت من النهاية، إذ تتمحور قراراته وتسيطر على أفكاره مسألة تراثه الذي سيخلّفه من وراءه.
ويُشهد له على المستوى التنفيذي أنه أصدر أوامره بالتصدي وضرب إخوتنا المسيحيين الذين اعترضوا سلمياً طريق البطريرك اليوناني لكنيسة المهد، بسبب بيعه حياً كاملاً هو من أحد أهم أحياء القدس لشركة صهيونية، وكان وقفاً تملكه الرعية المسيحية التي ثارت ضده. ولا أدري مدى صحة ما قيل بتناول السيد عباس في الليلة نفسها عشاءه على مائدة هذا السمسار الذي يساهم في تهويد مدينة القدس. يبدو أن عباس يخطط لتكريس مجلس مركزي من أصحاب الكروش، ميزتهم الوحيدة أنهم «أختام كاوتشوك»، بدلاً من «التشريعي» الذي يختار الناس عضوه بعد أن يكونوا قد خبروا معدنه، إذ يعزز «التشريعي» الحكم البرلماني، ويحقق التشريع الأقرب تعبيراً عن مصالح الناس. كما يمتلك «التشريعي» آليات عمل من شأنها تطوير الثروات الطبيعية والبشرية ينفذها من يمثل الشعب والخاضعون لتقويمه، وليس موظفين همهم خدمة أنفسهم. والأهم هو الدور الرقابي على السلطة التنفيذية من الرئيس إلى الوزير وصلاحية خلعهم. أما «المركزي»، فهو مجرد سوق عكاظ، ينتخب لجنة من المنتفعين، تخرج من الاجتماع وتصدر وثيقة بالقرارات التي يريدها الرئيس ولا ينفذ غير ما يريد. فمنذ كم سنة اتخذ قرار وقف التنسيق الأمني ولم ينفذ!
ليس أمام السيد عباس سوى فرصة واحدة تخلّد ذكراه إيجابياً، وتحرم الاحتلال تنفيذ حرب أهلية محسوبة، وتحمي الشعب من ويلاتها، وهي إصداره فوراً مرسوماً يقضي بتحديد موعد إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية ومحلية. فهذه الخطوة تمنح الشعب أولاً فسحة لترميم وإعادة تأهيل المجتمع لاسترداد روحه ودوره للتفكير في أمن الشعب الفلسطيني ومستقبله، وفي الوقت نفسه تُتيح للناس تقويم تجربة المفاوضات ونتائجها لتضع استراتيجية نهضوية للتحرر من الاحتلال. إنّ اتخاذ قرار إجراء الانتخابات الشاملة يمكن أن يتضمّن الخلاص للشعب، شريطة قيام قواه الوطنية الفعالة بتنظيم قائمة تشكل أكثرية أعضاء المجلس التشريعي لخوض الانتخابات كمجموعة تضمن القدرة على ضرورة التغيير وإحداثه كضرورة لتوحيد الشعب على برنامج مقاوم.
وعلى الناس الذين يريدون التغيير التحرك لتعبئة قيادة مؤهلة لإدارة دفة سفينة الشعب إلى شاطئ الأمان، ولإنقاذه من التدهور نحو هاوية لا خروج منها. إن أسباب فشل تحقيق الوحدة الوطنية منذ عشر سنوات لا تزيلها وسائل الإقناع المستخدمة التي لا تجدي نفعاً في نهاية الأمر إلا بالانتخابات لأن واسطتها الشعب وخاصة إذا ضمنت الشفافية. إن هذه الانتخابات المتوخاة، وأقولها بكل ثقة، ستبطل فعالية المستعمر، وستعمل على إبداع مناخات الصمود التي ستمنع وتحد من محاولات الترحيل من التنفيذ. وإن صفقة القرن، كحقيقة منفذة على الأرض، لا تحتاج إلى مزيد من المفاوضات، بل إلى توقيع «فلسطيني» لمنح الشرعية لأطول احتلال شهده التاريخ مقدمة للتهجير. إنّ إفشال الصفقة ممكن ويجب أن يتحقق، ولن يحققه غير إجراء انتخابات شاملة.

* الرئيس الأسبق لبلدية البيرة ــــ فلسطين المحتلّة

- الانسحاب الأميركي من سوريا وأبعاده / أسعد أبو خليل

أثار القرار الأميركي المُفاجئ بالانسحاب من سوريا، مترافقاً مع قرار آخر بتقليص قوة الاحتلال الأميركي في أفغانستان، الكثير من الردود والاستنكار والاستفظاع، في العاصمة واشنطن وفي العالم العربي. ولم يكن الموعد المحدّد لوصول تلك القوّة الأميركيّة إلى سوريا معروفاً، وهو حتماً سبق الإعلان الأميركي الرسمي عام ٢٠١٤، عندما وافق الكونغرس على برنامج «تدريب وتجهيز» فصائل في قوّات المعارضة المسلّحة. والتدخّل والاحتلال الأميركي قلّما يبدأ بصفة احتلال أو حتى تدخّل مباشر أو إعلان حرب، إذ إنه يُغلَّف دوماً بعناوين استشارة ومساعدة. هاري ترومان أطلق على الحرب الأميركيّة المّدمِّرة ضد كوريا الشماليّة «عمل شرطة» وكان الاحتلال الأميركي لفيتنام قد بدأ تحت شعار «الاستشارة العسكريّة» للأصدقاء المحليّين.
أسباب التزييف في عناوين التدخّل العسكري الأميركي هي دستوريّة، إذ إن الدستورَ يخوّلُ الكونغرس، لا الرئيس، صلاحيّة إعلان الحرب. وعليه، إن الرؤساء الأميركيّين عبر التاريخ زيّفوا حروبهم الخارجيّة بعناوين مختلفة حتى لا يحتاج الرئيس إلى تقديم طلب رسمي للكونغرس لإعلان الحرب. ولم يُعلن الكونغرس الحرب رسميّاً إلا في خمس حروب فقط (ضد بريطانيا وإسبانيا والمكسيك ثم الحربَين العالميَّتين) مع أن أميركا خاضت أكثر من ١٤٠ حرباً وتدخلات عسكريّة في تاريخها، أي أن أميركا كانت في حالة حرب (مُعلنة أو غير مُعلنة في الغالب) في ٢٢٠ سنة من تاريخها، وهذا نحو ٩٣٪ من تاريخها (يكفي أن نتذكّر أن أميركا غزت لبنان مرتين في القرن الماضي). هذه جمهوريّة حربيّة وهي لم تتوقّف عن شن الحروب، المباشرة أو غير المباشرة، وخصوصاً منذ انتشائها بنصر الحرب العالميّة الثانية.
كانت الثقافة العربيّة (من خلال الإعلام) في الخمسينيّات والستينيّات تعترضُ على التدخّلات الأميركيّة في شؤون البلاد، في حين أن الإعلام العربي اليوم (تحت سيطرة النظام السعودي والقطري بالغالب) بات يعيبُ على الحكومة الأميركيّة إحجامها وتردّدها وانكفاءها ــــ المزعوم ــــ حول العالم. وعناوين بعض الصحف القطريّة هذا الأسبوع كانت تعبّرُ عن حالة حداد لانسحاب القوّات الأميركيّة من سوريا. إن العدد الرسمي للقوّات الأميركيّة في سوريا هو ٢٠٠٠ جندي فقط، لكن العدد هو أكثر من ذلك لأن العدد الرسمي يشمل هؤلاء الذين يشاركون في مهمّات غير سريّة، فيما هناك حتماً قوّات إضافيّة تشارك في عمليّات سريّة غير مُعلنة للمخابرات والقوّات الأميركيّة. لكن التدخّل الأميركي في سوريا سبق موعد الإعلان الرسمي، وقد أخطأ الأستاذ في جامعة هارفرد ستيفن ولت، في مقالته في مجلّة «فورين بوليسي»، عندما لاحظَ أن أميركا لا تكترث لمَن يحكم سوريا. أميركا لها طبعاً تاريخ من التدخلات والانقلابات في سوريا ابتداء من عام ١٩٤٩، ومن المؤكّد أن انقلاب الانفصال عام ١٩٦١ كان بدعم وتدبير مباشر من الحكومة الأميركيّة وإن كان الإفراج الأميركي الانتقائي عن الأرشيف لا يشمل ذلك (بعد).
نحن نعلم من «ويكيليكس» اليوم أن الحكومة الأميركيّة بدأت الإعداد لقلب النظام السوري قبل اندلاع الانتفاضة الشعبيّة والحرب السوريّة (على الأرجح أن تأريخ الحرب السوريّة سيلحظُ انطلاق مسارَين مختلفَين فيها: مسارُ انتفاضة شعبيّة سوريّة حقيقيّة ذات بعد اجتماعي ــــ طبقي ــــ سياسي وهي مبنيّة على معارضة ظلم نظام تحوّلَ من جمهوريّة إلى حكم عائلة وراثي، ومسارٌ مختلفُ مُسيَّر من الأنظمة الخليجيّة والتحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي وهو استغلَّ الانتفاضة الشعبيّة، وقضى عليها في ما بعد، لتحقيق مآرب لا علاقة لها بالديموقراطيّة أو بإصلاح النظام السياسي في سوريا. والنظام السوري أراد خلط المسارَين لنفي الطابع الشعبي الحقيقي عن الانتفاضة، كما أن التحالف الخارجي خلط المسارَين ليُضفي على مؤامرته في التدخّل العسكري في سوريا طابع الانتفاضة الشعبيّة). نعلمُ اليوم أن الإدارة الأميركيّة في عهد بوش (إن لم يكن قبله) خطّطت لقلب النظام السوري وإثارة القلاقل في البلاد، لا بل إن تقريراً رسميّاً دبلوماسيّاً من ٢٠٠٦ يتحدّث عن استغلال جماعات جهاديّة ضد النظام، كما تحدّث عن إثارة الفتنة الطائفيّة (راجع الفصل الخاص بسوريا في كتاب «ملفات ويكيليكس»).
تفاصيل العمليّات السريّة لإدارة جورج بوش في سوريا لم يُكشف عن نقابها بعد، لكن إدارة باراك أوباما بدأت باكراً (بالاتفاق والتنسيق مع حكومة العدوّ وحكومتَي قطر والسعوديّة اللتين لم تكونا ــــ حسب «نيويورك تايمز» ــــ ترسلان أسلحة ومالاً إلى فصائل المعارضة المسلّحة من دون إذن من واشنطن) استغلال الوضع في سوريا لرفض أجندة ملائمة للتحالف الأميركي ــــ الإسرائيلي. وأوكلت إدارة أوباما إلى المخابرات الأميركيّة عمليّات سريّة مع فصائل في المعارضة المسلّحة بقيمة مليار دولار في السنة. وعمليّات المخابرات كانت منفصلة عن عمليّات وزارة الدفاع الأميركيّة التي أدارتها قيادة المنطقة الوسطى من الأردن (بالتنسيق مع تركيا شمالاً). وقد نشرت أميركا قوّاتٍ لها في الأردن، وكان التجوال بين الحدود سهلاً في سنوات الحرب.

لم يُعلن الكونغرس الحرب رسميّاً إلا في 5 حروب فقط، مع أن أميركا خاضت أكثر من ١٤٠ حرباً، أي كانت في حالة حرب في ٩٣٪ من تاريخها

لكن موعد بداية العمليّات العسكريّة الأميركيّة يعود إلى زمن يسبق سنوات ٢٠١٤ و٢٠١٥، عندما بدأت الصحافة (بإذن من الحكومة) تسريب معلومات عن برامج تسليحيّة وتدريبيّة أميركيّة. وسيمور هرش تحدّث في مقالة في «لندن ريفيو أوف بوكس» (٧ يناير ٢٠١٦) عن أن العمليّات العسكريّة الأميركيّة بدأت في ٢٠١١ أو ٢٠١٢ عبر تهريب سلاح من ليبيا إلى سوريا (مصادر هرش في هذه المواضيع تعتمد غالباً على المخابرات الأميركيّة التي نجح هرش في بناء علاقة ثقة مع مصادر فيها عبر السنوات). لكن قرار الكونغرس عام ٢٠١٤ سرّعَ وتيرة المساعدة العسكريّة الأميركيّة للثوّار وزاد نوعيّة السلاح.
التدخّل العسكري الروسي، بالإضافة إلى تدخّل حلفاء النظام السوري، مقابل التحالف العريض الذي شكّلته أميركا ضد النظام، حوّل طبيعة الصراع وحوَّرَها وزاد في عناصر دوافع التدخّل العسكري الأميركي، لكن وجود القوّات الأميركيّة والروسيّة على أرض واحدة لم يكن محفوفاً بمخاطر المواجهة بينهما ــــ كما توقّع كثيرون ــــ ربّما لأن تفاهماً حدث بينهما على أصول اللعبة وعلى احترام الطرفَين دور الطرف الآخر في الحرب ضد «داعش» (وإن كانت الحكومة الأميركيّة وكل الإعلام الغربي يبالغون في حجم المساهمة الأميركيّة في الحرب ضد «داعش»). كما أن الطرفين أسّسا لقواعد لعب مبنيّة على احترام حق إسرائيل في العدوان على سوريا متى شاءت ولأسباب مختلفة (رغم إعلانات شحنات صواريخ روسيّة ورغم توقّعات في محور الممانعة بأن تنقلب روسيا على إسرائيل في أي لحظة ــــ كأن دوافع التدخّل الروسي في سوريا لها علاقة بالقضايا العربيّة أو الصراع مع إسرائيل ــــ فإن فلاديمير بوتين حريص جداً على مصالح العدوّ الإسرائيلي ليس في فلسطين المحتلّة فقط، وإنما في كل المنطقة العربيّة، وهو شديد الإعجاب ببنيامين نتنياهو، كما صرّح بذلك دونالد ترامب بعد لقاء القمّة بينهما). كان قرار ترامب مفاجئاً ولم يعرف به كثيرون قبل صدوره (كالعادة، كان نتنياهو من القلّة التي علمت بقرار ترامب قبل صدوره، لكن إعلام الحكومة الإسرائيليّة بالقرارات الأميركيّة المهمة في السياسة الخارجيّة قبل صدورها بات عرفاً من الأعراف السياسيّة الأميركيّة. وكان جون كيري في المفاوضات التي خاضها للتوصّل إلى الاتفاق النووي الإيراني يتحدّث على الهاتف مع نتنياهو بصورة دوريّة، وكانت وفود أميركيّة رسميّة تنتقل إلى فلسطين المحتلّة للأخذ بالنصائح والإرشادات الإسرائيليّة). لكن ترامب يبدو أكثر حزماً وأكثر ثقة بالنفس بعد مرور سنتين على حكمه. يشعر بأنه بات يستطيع أن يعارض مشيئة جهاز الدولة العسكري ــــ الاستخباري، وهذا من الممنوعات في السياسة الأميركيّة، وخصوصاً بعد تشكّل دولة الحرب الأميركيّة بعد ١١ أيلول. وثارت ثائرة الحزبين في الكونغرس ضد قرار ترامب، كما أن جوقة الصحافة السائدة وخبراء مراكز الأبحاث ومنظمات الاتجار بحقوق الإنسان مُجمعة على ضرورة الاستمرار في الاحتلال الأميركي في سوريا والعراق إلى ما لا نهاية. لا يرى ترامب ذلك، وهو نفّذَ ما فشل أوباما في تنفيذه من وعوده.
إن العناصر الأساسيّة الحقيقيّة في سياسة ترامب الخارجيّة كانت ــــ ولا تزال ــــ متأثّرة بالسياسات الخارجيّة التقليديّة للحزب الجمهوري قبل عهد ريغان؛ كان الحزب الجمهوري يمثّل سياسة الانعزاليّة والانكفاء في السياسة الخارجيّة قبل أن يسيطر يمين ريغان الجديد على الحزب ويُدخله في تحالف مع المسيحيّين الإيفانجيليّين. ترامب كان من معارضي الحروب الأميركيّة حول العالم ودعا إلى سحب الجنود الأميركيّين من الشرق الأوسط ومن كوريا الجنوبيّة ومن أوروبا لتوفير مال الخزينة وللابتعاد عن صراعات لم يرَ أنها تعود على الشعب الأميركي بالفائدة. وفيما كانت هيلاري كلينتون من صقور الكونغرس في تأييد الحروب والتدخلات الخارجيّة، كان ترامب من أوّل المجاهرين بمعارضة الحرب في العراق (التي حازت تأييد نسبة ٧٠٪ من الشعب الأميركي، فيما كانت نسبة تأييد الحرب ضد أفغانستان نحو ٩٠٪). وكان أوباما قد وعد بإنهاء الحرب في العراق وسحب الجنود من هناك، بالإضافة إلى أفغانستان (كما وعد أيضاً بإغلاق معسكر غوانتانامو). لكن أوباما خنث بوعوده ورضخ لمشيئة القيادة العسكريّة (التي أرادت إبقاء القوّات الأميركيّة وتعزيزها في العراق وأفغانستان، لكن القوى السياسيّة في العراق رفضت الوجود العسكري الأميركي على أراضيها، ما جعل من نوري المالكي ــــ الذي كان مرشحاً أميركيّاً يخضع لامتحان أسبوعي من بوش حول ما يفعله في بغداد ــــ شخصيّة مكروهة أميركيّاً).
تزامنَ قرار ترامب الجريء ــــ بالمقياس الأميركي ــــ مع قراره بالتخلّص من وزير دفاعه وتمتّعه بوزير خارجيّة مُطيع. واستقال المبعوث الأميركي لشؤون محاربة «داعش» (قبل أشهر فقط من تقاعده) اعتراضاً على قرار ترامب. وردّ فعل الإعلام الأميركي والكونغرس يظهر الوضع اللاديموقراطي الذي وصل إليه النظام السياسي الأميركي. يعترض ممثّلو الشعب هنا على قرار للرئيس المُنتخب (الذي هو القائد الأعلى والوحيد للقوّات المسلّحة، والذي تخضع له كل مؤسّسات فروع القوّات العسكريّة والاستخباريّة) إذا ما أتى معارضاً لمشيئة القيادة العسكريّة ومزاجها (غير منتخبة وهي دستوريّاً تنفّذ القرارات ولا تصنعها، ودورها في السلطة التنفيذيّة استشاري محض). لكن شعبيّة ــــ أو عبادة ــــ المؤسّسة العسكريّة من الشعب الأميركي تجعل معارضة مشيئة قيادتها من الممنوعات السياسيّة، وخصوصاً من الحزب الديموقراطي الذي يُعتبر تصلّبه وتطرّفه في مسائل الأمن القومي مشكوكاً فيه من العامّة البيض.
إن انسحاب ترامب من سوريا يعود إلى فقدان صبره من وعود آلة الحرب الأميركيّة حول إنجازات مهمة وتحسّن في الأوضاع في سوريا وأفغانستان (التحسّن بمقياس نشر النفوذ والهيمنة الأميركيّة). والقيادة العسكريّة باتت تلجأ إلى حيلة معروفة عندما يخالف رئيس أميركي ــــ أي رئيس ــــ مشيئتها، إذ يعمد القادة العسكريّون الكبار إلى تسريب خبر معارضة الرئيس لمشيئة القيادة إلى الإعلام قبل صدور القرار الرسمي، ما يشكّل حالة ضغط عارمة من الكونغرس والإعلام والرأي العام، وهذا يؤدّي أحياناً إلى عكس قرار كان الرئيس يزمع اتخاذه (هذا ما حدث في إدارة أوباما الذي كان يريد أن يقلّص الوجود العسكري في أفغانستان، لكنه عاد ورضخ لمشيئة القيادة العسكريّة ووافق على زيادة عدد قوّات الاحتلال هناك. ومن الأكيد أن الوضع في أفغانستان لم يتحسّن وأنه لا يفصل بين استيلاء حركة «طالبان» على البلاد إلا الوجود الأميركي فيها).
أعلن ترامب في تسويغ قراره بالانسحاب من سوريا هزيمة «داعش»، ولا شكّ أن «داعش» مُني بهزيمة محقّقة في سوريا والعراق ولبنان (الدور الذي كان وسام الحسن يقوم به، بالتفاهم مع الحكومة الأميركيّة وحكومات الخليج، كان سيؤدّي إلى اختراق كبير في الساحة اللبنانيّة من قبل «داعش» و«النصرة» وخصوصاً أنه كان مسؤولاً عن تهريب مقاتلين وسلاح إلى سوريا في بداية الأزمة فيها، وهو ــــ رغم تفجّع ونحيب بعض الإعلاميّات اللبنانيّات عليه على الهواء ــــ مسؤول عن دماء لبنانيّة وسوريّة). لكن معارضي قرار ترامب، وخصوصاً الفصائل السوريّة المسلّحة التي تقف معزولة بعدما تخلّت أنظمة الخليج عنها، وبعدما باعتها الدول الغربيّة بعد استنفاد أغراضها، يتمنّون بقاء القوّات الأميركيّة لتعزيز الموقف التفاوضي للمعارضة السوريّة. وقد واجهت الإدارة الأميركيّة ضغوطاً إسرائيليّة (وصهيونيّة أميركيّة) من أجل الحفاظ على وجود أميركي عسكري في سوريا.

يعود انسحاب ترامب إلى فقدان صبره من وعود آلة الحرب الأميركيّة حول إنجازات مهمة و«تحسّن» بمقياس نشر النفوذ والهيمنة

الصحافة الأميركيّة ساقت من جملة اعتراضاتها على قرار ترامب الخيبة الإسرائيليّة من القرار. «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» استفاضتا في الحديث عن عزلة إسرائيل والتخلّي عن إسرائيل والتوتّر الإسرائيلي من جراء الانسحاب الأميركي. لكن لو كان الأمر بيد إسرائيل، فإن على الولايات المتحدة نشر قوّات في كل البلدان العربيّة لحماية مصالحها ولضرب أعدائها. والوجود الأميركي في سوريا لم يكن متعلّقاً بضرب أعداء إسرائيل، بقدر ما كان مرتبطاً بالأجندة الأميركيّة في السيطرة على مقدّرات الشأن السوري عندما كان الافتراض السائد هنا أن النظام على وشك السقوط وأن ما على أميركا إلا أن ترث السلطة وتسلّمها لوكلائها المحليّين بالتوافق مع النظامين القطري والسعودي (أدّت الإدارة الأميركيّة على امتداد الصراع السوري المُدمِّر دور الحكم والمُصلح بين النظامين اللدودين، وكان تركيب دكاكين المعارضة الخارجيّة يعكس الرغبة الأميركيّة في الموازنة بين مصالح قطر والسعوديّة، وبين مصالحها هي).
تسود تساؤلات كثيرة هنا حول أبعاد القرار، والإعلام الأميركي نشر مبالغات فظيعة عن حجم المساهمة الأميركيّة (أو ما يُسمّى هنا قوّات «التحالف» كي لا ننسى مساهمات السويد والنروج والبحرين والدنمارك) في الحرب على «داعش». وقد دخلتُ في نقاش عقيم قبل أيّام مع مراسلة «نيويورك تايمز»، روكميني كاليماشي (المتخصّصة في شأن الحرب على «داعش»)، إذ نشرت أن قوّات «التحالف» هي التي طردت «داعش» من ٩٩٪ من الأرض التي كانت تحت سلطتها في سوريا والعراق. وعندما سألتُها عن هذا الرقم، لم تعطِ إجابة محددة وقالت إنها أدخلت في حسبانها المساهمات الكرديّة والقوات النظاميّة العراقيّة في المعادلة. أي كالعادة، لا تريد أميركا أن تعترف بأن القوات المعادية لها في المنطقة العربيّة هي التي ساهمت بالقسط الأكبر من الحرب الفعالة ضد «داعش» (كما ساهمت فيها قوّات مُتعارِضة في الحرب السوريّة، على المقلبين). وفي حسبان مختلف الأدوار في هزيمة «داعش»، يمكن اعتبار الدور الأميركي أنه كان الأقل فعالية لأن أميركا كانت تكتفي بالقصف الجوّي، فيما دفع الأكراد نحو ١٠٠٠٠ ضحيّة في الحرب (خسرت أميركا أربعة جنود في الحرب نفسها). لكن تقويم المعركة يجب أن يدخل في حسبانه العدد الهائل من الضحايا المدنيّين من السوريّين والسوريّات والعراقيّين والعراقيّات. لقد قتل القصف الأميركي في الحرب ضد «داعش» بين ١٨٤٥٦ و٢٨٠٩٣ مدنيّاً ومدنيّة في سوريا والعراق، حسب تقديرات موقع «إيروورز» الموثوق. وتدمير الرقّة جريمة حرب فظيعة تُضاف إلى جرائم الحرب المتراكمة في الحرب السوريّة.
إن التدخّل العسكري الأميركي في بلادنا، وفي غيرها، يكتسي شرعيّة لا تكتسيها تدخّلات من دول أخرى. تنطق أميركا باسم «شرعيّة دوليّة» وباسم «مجتمع دولي»، ويستبطن دعاة الاستعمار الأميركي في بلادنا هذا الخطاب فتصبح الأوامر والضغوط الأميركيّة «مشيئة المجتمع الدولي»، كأن ما يصدر عن أميركا (وأوروبا المنصاعة لها) خضعَ لمشورة دول أميركا اللاتينيّة وآسيا وأفريقيا. فاجأ المفكر اليساري العالمي، نوم (أو نعّوم في الصحافة العربيّة) تشومسكي، مريديه حول العالم قبل أيام عندما أعلن ــــ للمرّة الثانية هذه السنة ــــ تأييده الاحتلال العسكري الأميركي في سوريا باسم «حماية الأكراد». ومتى نقرّر كيف وأين تتوجّب المطالبة بتدخّل أميركي باسم حماية هذه الأقليّة أو تلك؟ وماذا عن حماية الأكثريّات؟ هل أبناء الأكثريّات وبناتها أدنى مرتبة في الإنسانيّة من الأقليّات؟ ولا يختلف منطق نوم تشومسكي عن مواقف مسؤولي الإدارات الأميركيّة الليبراليّين، مثل سامنتا باور، الذين واللواتي يطالبون بحروب وتدخلات عسكريّة أميركيّة حول العالم من منظور «الإنسانيّة». ثم متى كانت دوافع التدخلات الأميركيّة في أي بقعة في العالم إنسانيّة؟ ومتى أدّت التدخلات الأميركيّة إلى حل المشكلات لا إلى تفاقمها؟ وكم مات من الأبرياء في العمليّة الأميركيّة الإنقاذيّة في سوريا؟ ثم، ألا تكفي التجارب التاريخيّة العديدة كي نحكم على الرعاية الأميركيّة للأكراد بأنها زادت معاناة الأكراد، وانتهت دوماً إلى تخلٍّ وخداع أميركي نحوهم، وتركهم لأعدائهم؟
الأكراد ليسوا من دون حيلة، وتتحمّل القيادات السياسيّة للأكراد في العالم العربي المسؤوليّة عن تحالفات وخيارات سياسيّة زادت معاناة الأكراد، وزادت معاداة العرب لقضيّتهم العادلة. هل القيادة البارازانيّة القبليّة التقليديّة تتوقّع أن ينظر العرب بعين الرضى إلى تحالفها الصفيق مع أعداء العرب بمن فيهم العدوّ الإسرائيلي؟ إن تحالف أقليّة مع أعداء العرب يزيد ولا يخفّف معاناة تلك الأقليّة. ومن المشكوك فيه أن تكون قوّة أميركيّة قوامها ألفا رجل تكفي لحماية الأكراد من أعدائهم الكثر. وماذا عن الحليف الأميركي، التركي الذي لا يقلّ معاداة للأكراد عن «داعش»؟
إن الانسحاب الأميركي من سوريا مؤشّر على نزعة استقلاليّة فرديّة جديدة في إدارة ترامب. هذه النزعة أغضبت إسرائيل وحلفاء أميركا من العرب. لكن القول إن سحب ٢٠٠٠ جندي يُنهي التدخّل العسكري الأميركي في سوريا مبالغ فيه. لأميركا حلفاء ووكلاء مطيعون، كما أن القواعد العسكريّة الأميركيّة المنتشرة في المنطقة (وقطر خير مُضيف لها) تسهّل لها تنفيذ ضربات عسكريّة متى شاءت. لكن مرّة أخرى منذ ٢٠٠١ يُسجّل لأميركا أن تدخلها العسكري فشل في تحقيق أهدافه. وهذا يزيد المعاناة النفسيّة لأنظمة الخليج ومثقّفيها من الليبراليّين العرب.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:

angryarab.blogspot.com)



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 76 / 2184585

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع في هذا العدد  متابعة نشاط الموقع وجهات العدد   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

8 من الزوار الآن

2184585 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 8


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40