الاثنين 11 أيلول (سبتمبر) 2023

فصل من عفاف خلف : ما تساقط ....

الاثنين 11 أيلول (سبتمبر) 2023

مختار عيسى العبدالله (54 عاماً) ـ صحفي “الاسم الحركي: المختار”

كان المطر يندلق من السماء جراراً سقطت قيعانها، تصفع الإنسان حيث شاء لها الهوى. والريح صفق الأبواب والنوافذ في منازلٍ أعوزها الفقر فما عاد في متناولها ستر الجوع بله الترميم. ترمي بجثث الأحياء وتدعو العتمة لاحتلال الحياة. انكفأ على أول بابٍ في الحي السادس، مرهقاً، دنفاً. طرق الباب. تسلل إليه شُح ضوءٍ في العتمة، وشبحٍ لغولٍ آدمي، طويل الجثة، وعريضها، بشاربٍ أسود كث يخفي معالم شفتين تقطران لذةً بهيمية، وعينين حمراوين تقدحان شرراً. كاد الغول أن يغلقُ الباب بوجهه، لولا أن استوقفه صوت أنثى. وقف بالباب مقروراً، جائعاً وسغباً. فيما التفت الغول إليها مهتاجاً كنمرٍ جريح، تتقاذفه حُمى غضبٍ مسعور، وخط أبيض يسيل من زوايا شفتين امتقعتا انفعالاً:
- هذا ليس بيتاً لإيواء الشحاذين والأنغال، أخرجيه أو أقتله.

سوف ألتذ بعد ثلاثين عاماً بتمريغ ذات الوحش بوحل حذائي الإيطالي الصنع في ليلة قُرر فيها مصير عُديّ كنائبٍ في البرلمان. كان لصورته في قلعة الشقيف بزيه العسكري وعلى مقربة من القائد الرمز مفعول السحر على الشباب. استمرت عملية فرز الأصوات حتى الرابعة فجراً، وخلافاً لكل التوقعات “الحزبية واللاحزبية” فاز بأعلى نسبة أصوات.
تركتُ عُديّ محتفياً بنشوة انتصاراته، وذهبتُ لطرد الوحش من سرير أمي. أخرجه الحرس في الرابعة والدقيقة الخامسة تماماً. كان قد تضاءل حتى بقي منه شبح رجل. زحف على ركبتيه طالباً العفو وطي صفحة الماضي، ويُشهدُ أمي على صلاحه ووجهها المزرّق يروي حكاية أخرى، والجيران يشهدون، وما يصل إلينا من شذرات جنونها لكثرة الضرب يشهد.
كان الصفح مرهوناً بوحل حذائي ليلتها، وتركته يعفر وجهه، يغسله الدمع كما غسل عُديّ المطر ذات زيارة. وحين أنهى فروضه، ركلته خارجاً.
لم أستطع أن أمحو من ذاكرتي ما حدثني به عُديّ. مراراً لسع قلبي بنحلة سيجارته حين كانت تأخذه الذكريات بعيداً: “طرقتُ بابها، توسلتها أن تأخذنا. ولم تنبس. فقط كانت الدموع تتعرج أغصاناً على وجهها، ويغسلها المطر. ركعتُ وقبلّت قدميها صارخاً: أعيدينا إليك، نطفاً من رحمك خرجتْ. ولم تسمع. وضعت يدها على رأسي وأمرتني بالذهاب”.
خمسون كيلو متراً لفتىً لم يتجاوز الرابعة عشرة، ولا يكاد اللحم يغطي منه العظام. تلك كانت مسافته الفاصلة، محرقته، حيث الحياة غابة والله أبعد ما يكون. في تلك الليلة تحديداً قرر أن يغدو ذئباً، بعد أن مزّقت روحه مخالب الآخرين:
- لم يتركوا لي الخيار. كان الفقر سيد الموقف ليلتها، وكان زوج أمك جباراً عتياً.
حين يصير الفقر عامود ملحٍ يصلي له الجميع، يضحي خازوقاً على مذبحه يهتك الأنسان. نحن نسل ذاك العامود، ورثة البشرة المتشققة، والشفاه الكالحة، والعيون المذبوحة أحلامها، وقد فاجأتنا الطبيعة بنبي. كان الأكبروالأكثر قوةً وعناداً بيننا. سوف يكشف لي فيما بعد، كيف فّر من الدير ليبحث عن والديه، عشية حرب.
قال إن مارتا أعطته عنوان أمي تحت إلحاحه، أما عنوان أبي فلم تعرف له أرضاً ولا بيتاً.
الأرضُ تغلي، والهواء يحملُ روائح شائعات عصفت بالبلاد، والكل على أُهبة حرب. خافت الأم مارتا على الأطفال اليتامى: “أرادت التخلص منا جميعاً. التجأ بعض الأولاد إلى عائلاتٍ أو أقاربَ بعيدين، أو جيرانٍ عطوفين، ولم يتبق سوانا. لم تعرف مارتا ماذا تفعل بنا....لذلك خرجتُ من الدير لأرى أمي أولاً ثم بحثاً عن أبيك”
كان ذلك في مساءٍ بعيد، قال إنه خارج للعمل ولم يعد لا في المساء ولا في اليوم التالي، ولا الذي يليه وكرت الأيام. أذكرُ غيابه وساحات الدير الفارغة. بكاء أختيّ، رقية التي جهدت في طمأنتنا، ووجه الأم المتواري خلف الصلوات والأيقونات. كلما حاولت سؤالها عنه أشاحت بوجهها وبدأت الصلاة. خيّل إليّ أنه قد تخّلى عنا جميعاً وقد تعب من ملاحقتنا عبر غرف الدير المعتمة.
كنتُ أرى كيف يُجهد نفسه في خدمة السائحين. في الرد على الأم مارتا وملاحقة وساوسها في التنظيف. يتسلل من الدير، وحين يعود يأتي محمّلاً بالحامض حلو واضعاً في يد الأم بعض القروش لتعيلنا وحين تسأله من أين أتى بالنقود وهل شحذها، تثور كرامته ويمسح بيده على جبينه دلالة على كده وتعبه. لا أذكر أنه شاركنا اللعب يوماً. بينما كنا نتشاقى ونتفنن في اختراع الألعاب، كان هو إما منهمكاً في التنظيف والتلميع أو في الخارج يحاول أن يكسب قليلاً من الملاليم والقروش ليدفع بها إلى الأم مارتا لتشتري لنا طعاماً أو دواءً لنجلاء.
أيكون مختبئاً! ولكن أين؟
أختنق في الليل دمعاً، ويجهش جسدي. مراراً فكرتُ بالهرب.
بعد شهرٍ مضى كعام، أتى بصحبة رجلٍ متهدلٍ، شحيح الكتفين، ومهزوماً، وعرفتُ فيه شبح أبي. لم أشعر بشيء تجاه الرجل الذي وضعنا في الدير. فقط فرحتُ لعودة أخي. لم أكد أعرف أبي، عيسى، حتى دخلت الحرب. دخلتْ كقاتلٍ محترف، كلصٍ ذكي، يعرف أحوال الدار وأهل الدار. تسللت لتتخّطفنا أرضاً وبشراً، الواحد تلو الآخر والشبر تلو الشبر، ولم تُبقِ سوى البؤس وسماءٍ رمادية، ومساحة أمنٍ ضئيلة، ضيئلةٍ جداً.
كان دير نجمة الشرق القريب من كنيسة المهد، هو ملاذنا وبيتنا الآمن. جمعنا كلنا بمن فينا عيسى، وخلقٌ كثير، نسلتهم بيت لحم والقرى القريبة، هكذا فجأة، خرجوا من رحمها دونما حمل. لم نفطن نحن الصغار للذعر واللغط القائم حولنا. كل ما نعيه تمتمات الكبار حين نقترب، وكلمة حرب التي كثيراً ما تكررت، ومذياع لا أعرف كيف تسلل إلى الدير ليظل ينعق: هنا صوت العرب!
كانت حركات الأم مضطربة وفزعة، تروح وتجيء، كنحلةٍ أحترقت خليتها. تطن بأزيزٍ حاد يُصمي الآذان، ولا تكاد تهدأ ولا تقر على قرار. نرقبها بأعينٍ توجس فيها الخوف وتسمّر بين ثناياها الترّقب، بانكماش من علقوا باقتراف ذنبٍ ما. وحين واجهتنا بوجهها المستدير المتغضن، صارخة:
- الصلاة، الصلاة.
أذعنّا جميعاً، حتى عيسى، أدار ظهره للأيقونات ومريم ولنا، مصلياً لربٍ صلاته كانت مغايرة عن صلاتنا. وصلينا نحن كما علمتنا الأم “أبانا الذي في السموات. ليتقدس أسمك. ليأت ملكوتك. لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن ايضا للمذنبين إلينا. ولا تدخلنا في تجربة. لكن نجنا من الشرير”
نجنا من الشرير، كررتها ثلاثاً، وكررناها من ورائها، خاتمةً صلاتها بترنيمة سمعناها للمرة الأولى:“لأن لك الملك والقوة والمجد الى الأبد، إن عشنا فللرب نعيش، وإن مُتنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن مُتنا فللرب نحن” . آمين.
وباركتنا برسم الصليب.
كانت تلك المرة الأولى التي تسلل فيها الموت إلى صلواتنا، وتهيأ لي أنا الطفل أن القيامة لابدّ آتية. كانت جدران الكنيسة السميكة تحمي آذاننا عما يدور خارجاً. وهمست لنا الأم أن الرب سيحمي ساكني بيته، وتمتم عيسى لعناته، أطلقهاعلينا جميعاً كرشاشٍ من الزبد المتهالك على فمه. وسقطت البلاد.
قالوا: إنها سقطت.
وسقطت مارتا كذلك، فالرب لم يحمِ كنيسته، إذ كانت أول ما طرقوا من أبواب.
فتحت لهم الأم مارتا ولم يمهلوها، أردوها أرضاً. دوى الرصاص كحجرٍ هوى من سماءٍ تطل على وادٍ سحيق وانتثرت شظاياه تردد أصداءً تتكرر في جنبات الجدران السميكة، وهوت الأم. ترددت صرخة دهشتها كمداً مكتوماً، فاختبأتُ ذعراً. أرقب الممر وجلاً.
وكأنما في شريطٍ بطيء الحركة شاهدتُ الأب ثيودور يرافقه أخي والكثير من الرجال الذين اختبأوا في الكنيسة ظناً أنها مانعتهم، يتوجهون إلى الباب المضّرج بلونٍ وردي تسيل خطوطه. سيرافقني هذا الباب طويلاً. ستمكث درفاته في ذاكرتي كبواباتٍ لجحيم الماء الوردي الذي عمّدنا، عبر رحلاتٍ لا تنتهي، عبر عمرٍ لا ينتهي. يشّكل خلفيةً لكتلةٍ معدنية بفوهاتٍ فاغرة الأشداق تتقدم نحوهم، نحونا، فيما يسيل من جوانبها ماءً وردياً، لزجاً، ودبقاً، برائحة زنخٍ تعشش في الأنف أياماً، وفي الذاكرة وقعاً لا يطاق.
لا أعرف ماذا قال الأب، كيف لم تروع البنادق عُديّ، كيف لم يصبه قذى الأسود على وجوهٍ بدت امتداداً لسلاحها. حديدية الملامح، وفولاذية النبرات. دخلوا الكنيسة، وطردوا رائحة البخور، وسكينة الأيقونات الغافية على الجدران. رأيت اضطراب عيني الرب يسوع، واستغاثة السيدة مريم بذراعيها المجدولتين على لحم البلاد. كانت تبكي دمعاً وردياً امتد حتى وصل الباب الخشبي، حتى وصل الأم، حتى أغرقني.
مرضتُ، تناوبتني الُحمى، وأصابع رقية، ووجوم عُديّ وجسده المارد يسد عين الموت، ومارتا بجسدها المسّجى بركةً حمراء. الباب والأيقونات التي تبكي، وهيرودس قاتل أطفال بيت لحم بوجهه الأسود وعينيه الحمراوين لفرط ما شرب من دماء الأطفال. ربما أتت السيدة أيضاً، وربما عاتبتها وحين لبست جسد الأم مارتا بكيت، وصرختُ بها:
- ستقتلين، أهربي.
لم تصغِ إليّ. توجهتْ بعزمٍ نحو الباب، وأنسال طوفان الحديد، والوجوه السوداء.
ساقونا جميعاً نحو وادي النار، إلا عُديّ. كان بمنأى من الموت دائماً. كان الوادي مشتعلاً وحجارته تلتهب، وأتت مارتا بقصتها ما قبل النوم عن مولك كان وحشاً كنعانياً بعينٍ واحدة، وكان يقود جحافل الموت آنى يشاء، تغذيه رائحة شواء الأطفال، قالوا: إنه عاد. كان بعينٍ واحدة، وأراد اقتلاع آلاف العيون بدل تلك التي فقدها، وكان يُعدّ محرقةً للرب، وكنا الشواء، وكان الجحيم.
يتعالى العويل والصراخ مختلطاً بتراتيل وصلواتٍ محمومة: “قدّوسٌ، مباركٌ الحملُ الّذي ذُبِحَ لأجلنا”، “قدوسٌ مبارك الحمل الذي ذُبح لأجلنا”، ولَنا بِهِ الفداءُ والخلاص، امنح يا رب، نفوس الراقدين راحة، في فردوس النعيم، ونحن الغرباء في هذا العالم، احفظنا في الإيمان بك».
ترتفع التراتيل وألسنة النيران تعلو. رأيتُ البيوت معلقةً من أعناقها، والأشجار تلفظ جذورها، وبحر البشر يغدو ماءً أسود تفوح منه رائحة الشواء تقدمةً لرب الجنود. كانوا يولمون خرافاً، ونحن خراف الرب، هكذا علمتنا مارتا، لم تكن الكنيسة حظيرته، كان وادي النار الحظيرة. يسوقوننا ويطفقون مسحاً بالسوق والأعناق، وبينما الشمس تسقط كنا نشتعل، أسبوعا، أسبوعين، والنار تمتد وجسدي يحترق.
تواترت الأيام، وبطيئاً عادت لي عافيتي. استشرى القهر، والفقر، والخوف ومنع التجوال، والشظف وتصّدُع الحياة التي تشققت جدرانها. تلك الحياة التي ألفناها بين جدران الدير كانت تنهار رويداً رويداً، حتى غدرت بنا يوماً ووجدنا أنفسنا في عراء الخيام.

كان عُديّ يكبر باطراد الأيام، وطر شاربه، وخط عارضاه، واخشوشن صوته، وأضحى رجلاً، أو هكذا تهيأ لي، أنا الطفل المنكفئ على ذاكرته، من يخشى الأبواب. تفاهم وعيسى على لم شمل العائلة بعد خروجنا من الدير. قال عيسى: إننا نسينا ديننا، ولا يريد أن يرى واحدة من أختيّ وقد غدت راهبة، وإنه سيّعلمنا ديننا الحق.
- فقط انتظروا حتى أجد مكاناً لنا، وبعدها سنخرج.
وقفتُ عند باب الدير طويلاً أنتظرُ عُديّ، وحين أطل أطلقت رشاش الأسئلة.
- أين سنخرج مع هذا الرجل؟ كيف سنخرج معه وهو ينظر إلينا كأننا ... لا أعرف؟ أين سيأخذنا؟ من أين أتيت به أصلاً؟ هل ستذهب معه؟ أليس هو من تركنا هنا. تراكَ نسيت؟ سيفعلها ثانيةً، سيرمي بنا ثانيةً. لا شيء يعجبه فينا ولا حتى إيماننا وصلاتنا. إن أردت الذهاب معه إذهب أنت.
عشرات الاسئلة قذفتها في وجهه، وواجهني بحزم:
- مختار، هذا الرجل أبوك. إن أردت التحدث عنه، تحدثَ باحترام، والصلاة.. نحن مسلمون.
- ماذا يعني مسلمين.
- يعني ديناً آخر وصلاةً أخرى.
- لكنك تصلي مثلنا.
- لأني لا أعرف صلاةً أخرى غيرها وأعرف أن الله واحد ويقبلنا جميعاً مسلمين ومسيحيين وخطاة. حين يجد الوالد مكاناً لنا سنذهب. لا تخف، ستكون الحياة أفضل. أعدك. تذكر هذا الرجل هو أبوك، إياكَ أن تنسى.
نظر في عيني طويلاً وكأنما يحفر في داخلي الكلمات، وكأنما يقطع على نفسه وعداً لن يخلفه، وكأنه يبحث في أعماقي عن إيماني به، فطأطأت رأسي مذعناً.
طوال شهرين لم يجد أبي مكاناً نأوي إليه. كل يوم كان يعود بخفي حنين. وحين وجد عُديّ غرفةً على أطراف مخيم العزة، خرجنا. كانت الغرفة واسعةً وجرداء بسقفٍ من الزينكو. قال عُديّ: أن علينا تَدبُر الأمر حتى يجد الوالد عملاً وتدور عجلة الحياة، ما يهم أن نكون معاً، عائلة!
جرّب أبي البحث عن عمل لكنه لم يوّفق بعملٍ دائم. أحياناً يعمل حتى ساعات ما بعد العصر ليعود بعشرة قروشٍ لا تفي بثمن الطحين الذي نأكله. ومراتٍ كثيرة يعود خالي اليدين ليقرر: إنه لن يعمل ثانيةً. وفي تلك المرات كان ينتهز الفرصة ليعلمنا ديننا الحق. يحدثنا عن النبي محمد عليه السلام، وعن النار التي وقودها الناس والحجارة، وعن جنةٍ عرضها السماوات والأرض. ويعلمنا الفاتحة وبعض السور. وحين نُخطئ يعاقبنا بالضرب والزجر. وكثيراً ما ترك إبزيم حزامه علامات على أجسادنا، وكثيراً ما كنا نتكوم أنا ونجلاء في زاوية الغرفة نحتمي برقّية الأكثر تماسكاً بيننا، كاتمين أنفاسنا حتى يعود عُديّ بالطعام وبعض القروش. نحدثه لحظتهاعن الله المنتقم الجبار في دين أبي والمرتبط بإبزيم حزامه، ويحاول أعادة الرب المصلوب إلى أذهاننا، وأجهد في الربط ما بين شخصية أبي وشخصية عيسى المسيح التي لم يحظ منها أبي بشيء سوى الاسم. حتى أتى يوم كف فيه أبي عن تعليمنا فنجلاء سقطت مغشياً عليها من الضرب وتشاجر أبي مع عُدي ليعلن أنه لن يعود إلى العمل نهائياً، واضعاًعلى عنق عُديّ السيف، الحد، إعالته العائلة، وإن العمر تقدم به ولا يستطيع إعالتنا، ومن يريد عائلة عليه إعالتها. ولم ينبس عُديّ، خفض رأسه بخنوعٍ لأبي وقال، شريطة أن لا تضربهم، ومضى. وصرنا نراه لماماً، يخرج منذ ساعات الفجر الأولى ولا يعود إلا في ساعاتٍ متأخرة من الليل، وأحياناً يبيت في الخارج.
على كاهله الغض رزحت مسؤولية أبٍ، وأخٍ، وأختين أخريين. أجرة غرفة الزينكو وأقساط العلاج وأثمان الأدويه. فنجلاء التي لم تتجاوز عامها الخامس كانت بحاجة إلى عنايةٍ طبية مستمرة. فمن نوبات الهستيريا والتشنج إلى نوبات السعال المستمر وارتفاعٍ الحرارة وفقدان الشهية إلى نوبات البرد. وكان يناطح الصخر ليكون. أردتُ مساعدته. كنتُ أشفق على ما تكبده ويتكبده لأجلنا. في بيت لحم، في الزرقاء، في بيروت، لكنه رفض، قال: تساعدني بإتمام دراستك.
لم يترك عملاً إلا وتلوث بغباره، ولم يدع باباً إلا وطرقه. عمل بائعاً للتذاكر في السينما، يشتريها، ليبيعها في السوق السوداء بضعفي السعر. نادلاً في المقاهي، وغسالاً للصحون، وسبّاكاً، وعاملاً للبناء، وعاملاً في المواسم الزراعية، وراعياً، وفني أدوات كهربائية، وسائقاً لشاحنات الخضار، ومن هنا كانت انطلاقته وفهمه التام لجغرافيا الأرض وجغرافيا النفوس. كان ماهراً في التقاط الذبذبات البشرية وتجييرها لصالحه. يقيس الضعف الإنساني ويلتقط فريسته ليضرب على أشد الأوتار حساسيةٍ. وقد علمه انخراطه في الثورة كيف يكون متفرداً وفريداً بين أقرانه.
هل كان ذئباً! ربما بتفرده! بوحدته رُغمنا.
“الأرض تُرسم حدودها بالسكين والدم، يسحبونها من تحت أقدامنا لنظل طرائد. لذلك علينا أن نكون اليد التي ترسم تلك الحدود لا الطريدة، أوفياء للنصل الذي يزدري حياتك وحياة الآخرين على حدٍ سواء، والأفضل أن نكون النصل” . تلك كانت فلسفته.
ربما علّمته الطبيعة كيف يكون قاسياً، ومتأقلماً وقادراً على مواكبة كل الظروف، وربما علمّته الحياة كيف يصير خنجراً يخط مصيره على اللحم والأرض.
في واحدة من رحلاته في رعي الأغنام، اضطر بسبب الطقس الضبابي العاصف إلى اللجوء وقطيعه إلى إحدى المغر المنتشرة في العبيدية. طالت العاصفة واشتد البرد وحاول الاحتماء بأجساد الخرفان من لسعة بردٍ قارس عبثاً. حينها قرر الحركة استجلاباً للدفء حين خطر له استكشاف المغارة التي كانت تشبه متاهةً صغيرة بعدة غرف. تعثر أنفه برائحة نتنٍ بعيد، وحذاؤه بكومة طريّة، وتحسس ما ارتطم به. كان كيساً من الخيش بداخله ملابس، وعندما أخرجها التمعت على إحداها النياشين. أدرك معنى الزي المصاحب لرائحة البرودةِ والعفن، ولم يلتقط أنفاسه ليفكر. ارتدى بعضها فوق ملابسه وحاول أن يصنع من إحدى الستر مشعلاً لاستكشاف المكان.
بطيئاً شعّ المكان، وتصاعدت رائحة الحريق، تلّفت حوله مستكشفاً، ورأى جثتين مكومتين قرب الجدار، اقترب ليتفقدهما، الأول كان جثةً هامدة، والآخر كان مصاباً في أسفل بطنه، حسبه ميتاً لأول وهلة، ولحظة أدنى المشعل منه فتح عينيه. أخبرني إنه لم يصرخ حين فتحت الجثة عينيها بل بادلها النظر وربت على كتفها مطمئناً.
وعندما انحسرت العاصفة وعلا ضوء النهار عاد لنا ملتحفاً زياً مخلوعاً. وما أن وصل أعاد توضيبه في الكيس مع باقي الموجودات، مصباحاً يدوياً يعلوه الصدأ، وبضعة قروشٍ وساعة، وبعض ذخيرةٍ ومسدس وبارودة انجليزية، وبضع متعلقات شخصية. أعادت رقّية توضيب الملابس لتصبح على مقاسنا، وباع عُديّ ما أمكن بيعه لنتقوت به، وأخفى السلاح قبل بيعه لفدائيين قضوا نحبهم في غاراتٍ أخرى. وظلت المغارة تروي أخبار من خلعوا بزاتّهم العسكرية عشية حرب واختبأوا في رحمها ظناً أنها طوق نجاتهم فأضحت قبوراً لهم تلفظ الجثث وحكاياتٍ تتناقلها النسوة كذكرياتٍ عن حربٍ لم تسجل سوى سقوط البلاد.
لم يتحدث عما حّل بالمصاب، هل أسعفه أو مات. لكنه صار يتغيب عن البيت كثيراً. يخرج ليلاً ولا يعود إلا صباح اليوم التالي، أو يتغيب لعدة أيام دون إبداء الأسباب، حتى سُجن. حين ذكرته بالحادثة وسألته عن الجندي الهارب، التمعت عيناه كنصل فولاذٍ بارد في عتمة غرفتنا في فندق منفي في تونس، أتبعها برعدٍ من ضحكٍ ساخر:
ـ أما زلت تتذكر! هناك ثمن علينا أن ندفعه لأجل خياراتنا، والأفضل أن لا نكون نحن الثمن. الحياة مع المبادئ كارثة، إما أن تقضي عليك أو تقضي عليك. لا يمكن للحياة أن تبنى من نخبةٍ فقط. لابدّ من حثالاتٍ قابلة للدوس، قابلة للذل وللهزيمة، وترضى أن تكون الثمن بطيبة خير. أنت فقط تحقق رغبتها لتصير الثمن. لابدّ من اشخاص جسور ندوسها لنعبر. تذكر يوم غافلتنا وهربت إلى الجبل لتحارب ماذا فعلت!
أتذكر، أتذكر تماماً. كنا أشبالاً في التنظيم حين اندلعت الحرب الأهلية، وبعد لم نتلق أي تدريب عسكري ولم نشترك في أي من المعارك، ولكن لم تكن تنقصنا الجرأة ولا الشجاعة. ولإلحاح أصدقائي في التدريبات أرسلونا إلى الجبل لملاقاة السوريين والقوات في المنطقة الفاصلة ما بين زحلة وعيون السيمان وبين بسكنتا حتى أطراف صنين. وما أن اندلعت المعارك حتى فوجئنا بانسحاب قواتنا دون تنسيق معنا، ولم يبق سوى دوريتنا للدفاع، ومكثنا نتلقى الضرب من السوريين ومن القوات اللبنانية ومن السماء أيضاً، فقد كان الطقس ثلجياً وعاصفاً وخرجنا من المعركة بعشرة شهداء وبسبعةٍ من الجرحى. عُدتُ مخذولاً من هناك ولم يوفر عُديّ شتيمة ولا إهانة لم يمطرني بها عدا الضرب أيضاً كاد يقتلني يومها وأخذ عليّ تعهداً بعدم حمل السلاح مهدداً:
- إن عدتَ إلى القتال قتلتك. ما شأنك أنت بالقتال! لماذا لم أعرف بانضمامك إلى فصيل الأشبال! هل تعرف رقية!
- لــ لــ لا .. أح.. أحد.. يــ يــ ..ـعرف...
أجبته متلجلجاً منقطع الأنفاس، وكأنما يعيد وصل ذاك اليوم أتاني صوته:
- الانسان مجبولٌ على رفع بعضنا فوق بعضٍ درجات، فإما أن تكون الضحية أو تكون القاتل، إما أن تكون النخبة أو القطيع، ولم أردك مع القطيع، إياكَ.
- وكأنك لم تتغير منذها! أخبرني أقتلت ذاك الجندي في المغارة!
- كان قطيعاً لذلك اتخذته جسراً.
- لم أفهم.
- لا يهم، ما يهم أن لا تكون القطيع.
- تكاثرت الرؤوس من يومها إلى الآن حتى ما عاد لدينا قطيع. ماذا تفعل إن لم تجد الضحايا؟ لم تجد القطيع اللازم؟
سألته ضاحكاً، وتفرسّني في العتمة، وشعرتُ بنيران عينيه حتى غزتني الحرارة وأضاف بصوتٍ لاذع البرودة، قاطع:
- نجهد في تربيتهم.
واجتهدنا.
- الناس تعشق الطغاة والقساة، من يأمرهم ويطيعونه. يطعمهم ويتكاثرون على موائده، ويدعون عليه بالموت أو الفقر. الإنسان خُلق ضعيفا وجحوداً، وخُلق ليعبد - لا تنسَ هذه - يبحثون عن سيد يتفانون في خدمته وما يهم أن تعرفَ المفاتيح الصحيحة ليتفانوا في خدمتك، أو عبادتك.
قال الكلمة الأخيرة ساخراً، وامتد الصمتُ بيننا. كنتُ أفكر بما قاله، بما فاض من ذاكرتي لحظتها ليملء الصفحات، وامتلأ السكون بصوت نبي:
- لا أغرب من إنسان يستبدل قيداً بقيد، ورباً برب. أتذكر رب مارتا ورب أبيك! وبحثك عن عبودية بينهما ترتاح لها! هذا المعنى الرباني “الساخر” الذي ينطوي عليه وجودنا، كل وجودنا. هذا العطش لنرمي حمولتنا وينتهي بنا الأمر إلى عبودية ما! لو لم تكن هناك عبودية لاخترعناها.
- لكنك كنتَ تصلي وتؤمن بـ...
- قبل ألف عام. قبل أن أعرف القطيع. لهذا قررت أن أكون معبوداً لا عابداً. العبيد لا يستطيعون العيش دون عبودية، لذلك يستبدلون عبوديةً بأخرى. كل ما تستطيع فعله كمعبود هو إيجاد تابعين لك وظروف عبودية أفضل لهم، تمنيهم بما يشتهون، وترسم لهم الجنة وتتركهم معلقين بحبالها، حبال أطماعهم وشغفهم بالمزيد. أخبرني متى تخلى الإنسان عن الإيمان؟
- لــ...
- الانسان – أي إنسان – تستطيع صناعته كما تشاء، تجعله يؤمن بما تريد أنت وكأن ما تريده هو ما يريده وما يسعى إليه ويبحث عنه كأنه سر وجوده. ما يهم ألا يكتشفوا التمر فيك فيأكلوك. خديعة أنك بشري مثلهم.

قالها بإدراك من يصنع العبيد والتابعين ليخضعوا، وبإدراك من اكتشف خديعة الأوثان قبل أن يقرر الانتقال إلى مجمع الآلهة، ولوح بيديه ليقفل باب النقاش. لم يكن عُدي عابداً مخلصاً، كان يخلع أوثانه عقب كل مرحلة ليتخذ أخرى. يخلع روحه ليرتدي أخرى ويبحث في محيطه عن مريدين وأتباع وشركاء.
بعد عودته من إسبانيا وذهابه إلى تونس كان التحّول شاملاً. ليلتها همس لي آمراً: “المرحلة تغيرت، حتى فكر العجوز تغيّر. لا أعرف، ربما لم يتغير، لكن خروجنا من لبنان، يعني سقوط خيار البندقية، ويعني أن نخلع ملابسنا العسكرية ونضعها في المتاحف أو في المغارة التي وجدت فيها جنوداً هاربين، جسراً لعبورٍ ما. الآن حان دورك، لم تعد حدود الأرض ترسم بالسكين بل بالحبر والورق، لم يبق لنا سوى السياسة، ستكون واجهتي”.

خلعَ زيه العسكري وعشر سنواتٍ أو يزيد في معسكرات الثورة باحثاً له عن موطئ قدمٍ في السياسة. قال: يكفي حماقةً وبلاهة، وأمرني:
- أريدك أن تتخصص في العلوم السياسية، وتعلم الكتابة الصحفية، أريدك صحفياً.
- لـِ..
- لتبشّر بي، وتكتب ما أشاء. كنتُ أظن أن البندقية طريقنا الأوحد والتحرير هد..
هزّ رأسه قبل أن ينفجر ضاحكاً:
- كان هدفنا التحرير، الآن هدفنا تحريرنا من فكرة التحرير..
- ما هذا الذي تقوله، عُديّ!
التمعت عيناه بتصميمٍ عنيد وأضاف جازماً:
- كفانا حماقة، ستكون ما أريد.
وكان له ما أراد. في كل حركةٍ أخطوها كان له بصمة، في كل هدفٍ وصلت إليه كان له يد، دائماً أردت أن أكون ما يريد، ما يشير إليه:
- ما الذي تريده الآن عُديّ! بعد أن نهبك الموت!
علا صوتي بالسؤال ولم أستطع منع نفسي عن الشهيق ببكاءٍ مسموع. كيف أقنع نفسي بموته، هو الذي لم يسعه حلم الموت ولا كل وادي النار استطاع، ولا كل عظمة هيردوس استطاعت لملمة عظامه ليقف جمجمةً خانعةً قبالة الموت الأسود. تحدثتُ مع فاتن وأخبرتُ نجلاء وتحدثتُ مع الطبيب لأردد كلمة الموت لربما أقتنع، وهإني في طريقي لأراه، لأرى كيف سيرتدي الموت ويذهب. لم أصدق حين اتصل بي الحارس ليخبرني بنقله إلى المشفى ولا عندما أخبرني بحالته الحرجة، ولا حتى اتصاله بعدها ليخبرني بوفاته، بدا الأمر عبثياً وخيالياً ومرعباً أيضاً.
- ما الذي تريده ليصفو لك الموت، كيف ترحل هكذا دون تخطيط مسبق! دون تنسيقٍ مسبق! ما الذي سأفعله الآن بعد رحيلك!
هو من علمني أن أكون ظلاً، آنس العتمة بينما هو يتقدم. أجسر فجوة سنواتٍ خمس ترزح بيننا، وعمراً من التجارب. من لماذا، وكيف وأين! وخطاً رسمه لي بالقلم والنار، كيف يغيب الآن! وأنا أنسج خطواتٍ توائم خطواته، وأحاول نسخها وتجاوزها في آنٍ معاً، وأجدني أكثر ما أكون بحاجته، وما زالت ألف قضية معلقة بيننا، والبلاد تفور كتنورٍ. كيف يموت الآن وقد آن الآوان ليحصد مجده! كيف يموت وجميعهم يرغبون في سحب البساط من تحت أقدامنا، تركنا معلقين بمصيدة خياراتهم، ونهجهم، أؤلئك الحمقى، أولاد البارحة، آنى لهم جحيماً كجحيمنا، مطهراً كمطهرنا! يظنون الأمر هيناً وأنهم ببضع العمليات سيقلبون الطاولة علينا! يصبحون قادة!
بعدُ لم يدركوا خديعة الأسود والأبيض، وانزلاقنا السريع على رقعةٍ نملكُ فيها وهم الخطوات وإرادة خصم. محرقة الجند الذين يندفعون بشرف المقاتل الأول للذود عن ملكٍ لا يعرف سوى إعداد الحطب وخلقِ بطولاتٍ وهمية لمعارك وهمية! نحن من تعلمنا كيف نصنع انتصارات وهمية تليق بملك الوهم، كيف نعيد ترتيب الساحات لتليق بمجدنا ويتغنى الكل بها. كيف لي إعداد افتتاحيات الصباح دون ذاكرةٍ تبني أمجادها برماد الحبر وضباب البلاد! كيف لي أن أكتب دون صوتك يأمر بإضافةٍ أو قص، أو نبأ عاجل لتمرير رسالة! مزقت الآه صدري واخترقت زجاج السيارة المعتم لتعود إليّ. بضربةٍ واحدة يعيد الموت ترتيب أوراق الأحياء. وعليّ أعادة ترتيب أوراقي من بعده، وقلعتي التي تهّدمت والساحة التي كشفها موته الفاجع علي أن أحميهما كما يجب. أشعر أن ظهري بات مكشوفاً وأن جيشي الوحيد قد أُبيد، ما أوهاني دونك يا عُدّي:
ـ ستتبعثر الجنود إلا إذا أحكمتْ قبضة الحديد لجم عقالها.
أذكر كل كلمةٍ له، كل حركة، أنسخها لتواجهني به، توجّهني. من أين لي قبضة كقبضته! مهمازاً ينخسهم جميعاً ليستقيم بهم الطريق أو لا يستقيم. المهم أن يسيروا على الصراط الذي نرسمه.
- ما الذي صنعته بي، ما الذي صنعته بنا؟ أي جدرانٍ ستدفع عني موتك! ما الذي سأقرأه على روحك! “أبانا الذي في السموات...” أم “فاتحة الكتاب”!

- فصل من رواية ما تساقط للروائية عفاف خلف



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 8 / 2184619

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع تخصصات  متابعة نشاط الموقع فصول كتاب   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

2184619 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40