الخميس 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022

هبة شعبية أم انتفاضة مختلفة ؟

الخميس 3 تشرين الثاني (نوفمبر) 2022

- الهبّة الشعبية والنظام السياسي الفلسطيني: هل يتقاطعان أم يتعاكسان؟

لانا الصادق

من يراقب الحالة السياسية الفلسطينية، وتحديداً في الأراضي المحتلة منذ العام ١٩٦٧؛ خاصةً في الضفة الغربية والقدس، يلاحظ حالة الغليان والاحتقان الصاعدة منذ فترة طويلة، وأعمال المقاومة، شعبية كانت أم مسلحة، التي تزداد في بعض المراحل وتخف وتيرتها في مراحل أخرى. لكن كيف يتفاعل الشارع الفلسطيني مع هذه الفعاليات والأعمال؟ وكيف تتعامل معها كافة مكونات النظام السياسي الفلسطيني؟ هذا ما تحاول المقالة الإجابة عنه.

لن تعود المقالة إلى مرحلة ما بعد اتفاقيات أوسلو، فقد امتلأت الصفحات الإعلامية والبرامج التلفزيونية بتوصيف الواقع الفلسطيني، والآثار الكارثية لهذه الاتفاقيات على مجمل الشعب الفلسطيني، وعلى النضال من أجل التحرر الوطني.

استمرت المنظومة الاستعمارية في العمل، بكافة الوسائل، على تحقيق وتنفيذ المشروع الصهيوني الاستعماري، عبر الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، واستكمال سياسة التطهير العرقي التي بدأت قبل العام 1948، في كافة أراضي فلسطين التاريخية، مستفيدةً من وجود السلطة الفلسطينية، واتفاقيات التنسيق الأمني، ومن اتفاقيات التطبيع مع الأنظمة العربية، ومن تخاذل ما يسمى بـ“المجتمع الدولي”.

أمعنت المنظومة الصهيونية في سياستها، عبر سن القوانين والأوامر العسكرية، وتمادت في سياسة القتل وإعدام الفلسطينيين؛ خاصة الشباب والأطفال، وصل عدد الشهداء في العام الحالي إلى 183 فلسطينياً منهم 42 طفلاً.

تمثّل التصعيدات الإسرائيلية الأخيرة؛ المستمرة منذ الصيف، هجمات ممنهجة واسعة النطاق ضدّ الفلسطينيين/ات في الضفة الغربية، تشمل المداهمات العسكرية شبه اليومية، وعمليات القتل، وتزايدت وتيرة هجمات المستوطنين، والعقوبات الجماعية المفروضة على التجمعات الفلسطينية المختلفة.

كذلك؛ صعّدت قوات الاحتلال عقوباتها الجماعية بحق الفلسطينيين/ات في الأسابيع الأخيرة، شملت الإغلاق وحصار المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، إذ فرضت قوات الاحتلال؛ من 8-13 أكتوبر/تشرين الأول، إغلاقاً محكماً على مخيم شعفاط للاجئين وعلى بلدة عناتا، كما كثّفت من مداهماتها لهذه المناطق، مما قيّد حرية الحركة وشلّ مناحي الحياة لقرابة الـ 130 ألف فلسطيني/ة، الذين يعيشون هناك.

وتفرض قوات الاحتلال؛ منذ 11 أكتوبر/تشرين الأول 2022، إغلاقاً مماثلاً على مدينة نابلس، يحدّ من إمكانية الدخول إلى المدينة والخروج منها، من خلال وضع حواجز تغلق الطرق المؤدية إلى المدينة.
حصار وقمع متصاعدان بحق الفلسطينيين في مخيم شعفاط بالقدس المحتلة

في ظل هذا التصعيد الخطير، تتزايد مقاومة السياسات الاستعمارية فلسطينياً، وعبر هبّات وحركات شعبية، ومقاومة مسلحة في بعض الأحيان، كما تشهد منطقتا جنين ونابلس حالة جديدة تتمثل في تشكيل كتائب مسلحة من خارج المنظومة الحزبية؛ كتيبة جنين وعرين الأسود، هي مجموعات مسلحة مكونة من أفراد؛ غالبيتهم، لا ينتمون إلى الفصائل الفلسطينية، في حين لا يعتبر المنتمون منهم فصائلهم مرجعية لهم. وفق بعض المصادر، هي ظاهرة عفوية وفردية ومحلية عابرة للفصائل، لا تملك بنية فكرية متبلورة، ولا بنية تنظيمية محددة، ولا يوجد لها قادة كبار.

تتزايد وتيرة فعاليات المقاومة، كرد فعل على سياسات جيش الاحتلال والمستوطنين، التي تستهدف المدنيين الفلسطينيين، والعناصر التابعة للمقاومة المسلحة. المقاومة التي تعني الدفاع عن النفس، والدفاع عن السكان في المدن والمخيمات المحاصرة، والتي تستخدم أساليب جديدة، لأنها لا تملك أسلحة قتالية متقدمة، بل جلها عبارة عن أسلحة خفيفة، تتحصل عليها؛ غالباً، من حركة الجهاد الإسلامي.

تقاعس الفصائل

يتساءل العديد عن مشاركة الفصائل الفلسطينية، التي يصل عددها إلى أربعة عشر فصيلاً؟ الفصائل التي يتزايد عددها كي نشاهدها في مراسم التواقيع على البيانات، أو عند مشاركتها في المؤتمرات والحوارات، التي تجدها الكاتبة غير مجدية. نرى اليوم انفصالاً كبيراً بين الشعب والحركات الشعبية ومجموعات المقاومة المسلحة من جهة، والفصائل من جهة ثانية.

هناك حاضنة شعبية مهمة، وتعاطف شعبي كبير مع المقاومين، وهو أكبر ضمان لمواصلة النضال، في حين ذهب الأمناء العامون وقيادات 14 فصيلا إلى اجتماع الجزائر، من أجل إيهامنا بأنهم يسعون إلى إنهاء الانقسام! في الحقيقة هو ليس انقساما، بل تنازع على النفوذ في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.

ضعف السلطة بات جليًا في وصول مشروعها السياسي إلى طريق مسدود، وفي عدم تبنيها مشروعاً جديداً، وفي تأجيل؛ أو بالأحرى إلغاء، الانتخابات، خشية نتائجها؛ ما أدى إلى مزيد من تآكل شرعيتها، وانحصار دورها في أن تكون وكيلاً أمنياً للاحتلال، خصوصًا بعد تحديد سقف أمني- اقتصادي للعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، دون أي مضمون أو أفق سياسي، إضافة إلى تفاقم الخلافات والصراعات على السلطة، والصراع على الخلافة، كما ظهر في تجميد عضوية توفيق الطيراوي في لجنة حركة فتح المركزية، ومن قبله فصل ناصر القدوة، وفي عدم تحديد موعد جديد لعقد مؤتمر حركة فتح الثامن، على الرغم من تحديد موعدَيْن سابقَيْن في شهري مارس/آذار ومايو/أيار الماضيين، لم يلتزم بأي منهما.

لاعبون جدد

انخرط بعض أعضاء حركة فتح، وبعض أعضاء القوى الأمنية، في مقاومة نابلس تحديداً، وربما يؤدي تصاعد الأحداث إلى مشاركة أوسع من أوساط التيارات الفتحاوية المعترضة على سياسة محمود عباس، قائد الحركة وأمينها العام!

في حين تعتبر حركة الجهاد الإسلامي المستفيد الأساسي مما يجري، فهي تدعم الكتائب المسلحة مالياً ولوجستياً، وتتبنى بعض العمليات، لكن هل يتطور دور الحركة السياسي في المستقبل؟ هل تنضم الحركة إلى العمل السياسي؟ ربما من المبكر الإجابة عن هذه الأسئلة، لأننا نعرف أن الحركة تستند إلى دعم مالي وسياسي إيراني، ونعلم من تجربتنا مع حركة حماس، كيف غيرت حماس استراتيجيتها أكثر من مرة، وفق أهواء ومصالح الطرف الداعم.

هل تسير حركة الجهاد على خطى حركة حماس بالارتهان إلى شروط المموِل والحليف؟ إيران لديها مصالح ونفوذ، كسائر القوى الإقليمية، كما ندرك طبيعة الدور الذي تلعبه في سورية ولبنان واليمن، وندرك أيضاً إمكانية استخدام نفوذها في المنطقة، من أجل لعب دور على المستوى الدولي، “أوامر مباشرة” من طهران.

منذ تأسيس حركة “الجهاد الإسلامي” في فلسطين عام 1981، تأثرت الحركة بأفكار الثورة الإيرانية الإسلامية، إذ ارتكز مؤسس الحركة؛ فتحي الشقاقي، على أفكار الخميني، الأمر الذي عمق ترابط الحركة مع إيران أيديولوجياً وسياسيًا وعسكريًا.

يقر قائد حركة الجهاد زياد النخالة، بمتانة علاقة الجهاد مع إيران، إلى درجة توحي بتبعية الحركة المطلقة لإيران، كما في تصريحه العام الماضي بأن “حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، تتلقى أوامر مباشرة من الحرس الثوري الإيراني”. بالإضافة إلى ذلك، قال نخالة إن “إيران زودت قطاع غزة بصواريخ استخدمت لشن هجمات على تل أبيب”.

أما السلطة ورئيسها محمود عباس، فحدث ولا حرج، هناك تخاذل كبير عن تقديم المساندة والدعم للشعب، السلطة وقيادتها لا تزالان تستجديان التعاطف الرسمي العالمي، الذي يدعم المنظومة الاستعمارية دعماً كبيراً، دون أي حرج. استمرار استجداء السلطة هو تعبير عن هزيمة مشروع السلطة، هزيمة مشروع حل الدولتين، لسلطة لا يوجد لديها أي نوع من السيادة.

رأينا كيف تعاملت السلطة مع حصار مخيم شعفاط وبلدة عناتا، وكيف تتعامل مع الحصار الخانق على مدينة نابلس، حيث لم تلب الحكومة دعوة مؤسسات نابلس رئيس الوزراء؛ محمد اشتية، الحضور إلى نابلس، وعقد اجتماع مجلس الوزراء فيها، مكتفياً بإرسال بعض وزرائه.

رأينا كيف عالج الاتحاد الفلسطيني للتايكواندو بطولة التايكواندو الدولية، المفترض عقدها في جامعة النجاح في نابلس، فبدلاً من الإصرار على عقدها، من أجل تحدي الحصار، قدم الاتحاد الفلسطيني طلباً إلى جامعة بيرزيت لاستضافة البطولة، لكن إدارة جامعة بيرزيت رفضت الطلب عبر النص التالي: “تعرب الجامعة عن شكرها وثقتها بالاتحاد، إلا أنها تعلن اعتذارها عن الاستضافة، التي ستساهم في فرض مزيد من الحصار الخانق والظالم على شعبنا في مدينة نابلس الأبية، مؤكدة أهمية عقدها في نابلس، لتسليط الضوء أمام الوفود المشاركة على وضع المدينة المحاصرة. وتطالب جامعة بيرزيت المؤسسات الدولية والحقوقية والوطنية بالعمل بشكل جاد وعاجل لفك الحصار الذي يفرضه الاحتلال على مدينة نابلس منذ ما يزيد على أسبوعين”.

الأمل وإرادة التغيير والمقاومة

ما يجري في الضفة الغربية يدل على أن الشعب شرع في أخذ زمام المبادرة، ويقرر مصيره بنفسه، لكن هذه عملية طويلة، وبحاجة إلى وقت ومراحل عديدة، بعدما تخلّت جميع المرجعيات الوطنية؛ بدرجات متفاوتة، عن دورها، وخلقت فراغًا كبيرًا، إن لم يملأه الشعب، سيملأه الاحتلال وأدواته وعملاؤه ومخططاته، بمساعدة من لاعبين آخرين فلسطينيين، وعرب وإقليميين ودوليين، بما ينذر بعودة الوصاية والاحتواء والبدائل.

يجب عدم وضع أحلام الشعب وأهدافه في عمل الكتائب المسلحة، إذ ليست منوطة بها قيادة الجماهير، وقيادة التغيير، من أجل التحرر الوطني، برأي الكاتبة؛ يجب العمل على خلق قيادات ميدانية مناطقية، وأخذ العبر والدروس المستقاة من تجربتي الانتفاضة الأولى والثانية، العودة إلى الجماهير، عودة المؤسسات الشعبية؛ التي تحولت إلى منظمات غير حكومية، إلى العمل في الشارع، مع نبض الجماهير، والإسناد سواء عبر تقديم الدعم في الخدمات الأساسية، أو عبر دعم صمود الناس، في ظل سياسة العقوبات الجماعية؛ مثل حصار القرى والمدن والمخيمات، والعودة إلى توعية الناس.

يجب العمل مع الشباب والشابات، وترك المساحة الكافية لهم/ن، دون أي وصاية أبوية عليهم/ن، أي أنه يمكن الرجوع إلى تجارب الانتفاضة الأولى مثالاً ونموذجاً.

- من الكوفية إلى الصلعة

حيان جابر

يشتهر الشعب الفلسطيني ومسيرته النضالية المقاومة بالكوفية الفلسطينية، التي زينت وتزين صورة الفدائي المدافع عن الحقوق الفلسطينية بكل ما يملك من قوة وإمكانات، كما أصبحت الكوفية رمزاً عالمياً عابراً للحدود، يستخدم لإخفاء معالم الوجه، ورمزاً للدفاع عن الحقوق الوطنية، في أكثر من بلدٍ وموضعٍ.

فلسطينياً، كانت الكوفية جزءاً من رداء الفلاح الفلسطيني، تقيه من أشعة الشمس الصيفية، وقسوة الرياح الباردة الشتوية، إلى أن تحولت رمزاً نضالياً في ثورة فلسطين الكبرى 1936- 1939 أثناء الاحتلال البريطاني، حين استخدمها شباب الأرياف من ممارسي العمل الفدائي ليلاً والزراعي نهاراً، بغرض إخفاء معالم وجوههم، تجنباً لاعتقالهم من قبل سلطات الاحتلال.

نجحت هذه الخطة لبرهة قصيرة من الزمن، إلى أن عمدت سلطات الاحتلال البريطاني إلى اعتقال كل شاب يرتدي أو يمتلك الكوفية، حينها كان لابد من إكساب العمل الفدائي شرعيته الشعبية، عبر احتضانه وحمايته من قبل حاضنته الاجتماعية الأوسع، ممثلةً بمجمل شعب فلسطين، وهو ما كان بعد الإعلان عن وجوب استخدام الكوفية من قبل مجمل الشعب الفلسطيني، الأمر الذي تجاوب معه سكان القرى والمدن على حد سواء، المثقفون والسياسيون والعمال والفلاحون، الرجال والنساء.

عندها حمى الشعب الفلسطيني الفدائي من الاعتقال وباتت الكوفية رمزاً نضالياً جامعاً لمجمل شعب فلسطين، تلك الرمزية التي استمد منها رئيس منظمة التحرير الراحل ياسر عرفات جزءاً من شعبيته الواسعة بارتدائه الدائم لها، فالكوفية رمز ثقافي وسياسي فلسطيني تاريخي، له جذور عميقة في تاريخ شعب فلسطين الأصلي، وعليها أن تبقى كذلك بعيداً عن تجاذبات القوى السياسية المتصارعة على السلطة الوهمية.

اليوم يستخدم الفلسطيني الكوفية رمزاً نضالياً سياسياً وثقافياً وميدانياً، لكنه لم يعد يستخدمها، إلا ما ندر، بغرض إخفاء معالم الوجه، فالتطور التقني الهائل مكّن الاحتلال وأذنابه من التعرف إلى هوية المناضل عبر بصمة العين، وبالتالي فإن الكاميرات والحواجز العسكرية المنتشرة على امتداد أرض فلسطين حدت من حرية العمل النضالي، والتنسيق الأمني وأجهزة الرقابة الإلكترونية اخترقت البيوت والشوارع، حتى بات إخفاء هوية المناضل أمراً صعباً وشبه مستحيلٍ.

لكن ورغم كل ذلك، لم يعدم شعب فلسطين وسائل احتضانه الفعل المناضل بجميع أشكاله وأنواعه، كما تجلى في أعقاب عملية نفق الحرية، تلك العملية التي سطرها ستة من الأبطال الأسرى، الذين نجحوا في هزيمة تحصينات سجن الجلبوع الأمنية المشددة، حافرين نفقاً قادهم إلى خارج السجن، رغماً عن الاحتلال وحراساته وتقنياته المتطورة.

لم يحصر شعب فلسطين الأصلي نصرته أبطال عملية نفق الحرية بترديد الأهازيج وتوزيع الحلوة فقط، بل سارع إلى إرباك قوات الاحتلال، عبر مئات الاتصالات المضللة، الساعية إلى تضليل قوات الأمن ونشر أخبار خادعة تمنح الأسرى حريتهم لأطول مدة ممكنة. كذلك سارع سكان الأحياء والبلدات الفلسطينية على امتداد أرض فلسطين التاريخية، إلى تسهيل وصول الأسرى للطعام والشراب والثياب، من خلال وضعها في أماكن ظاهرة يسهل الوصول إليها، دون الحاجة لطلب أيٍ منها.

مرةً أخرى يمنح شعب فلسطيني شرعيته المطلقة للعمل النضالي، فردياً كان أم جماعياً، بعد مبادرة مجموعة من شبان مخيم شعفاط إلى حلاقة شعر رؤوسهم كاملةً، تشبهًا بمنفذ عملية حاجز شعفاط؛ عدي التميمي، الذي استشهد لاحقاً أثناء تنفيذه عمليته الثانية. هدف هؤلاء الشبان من حلاقتهم رؤوسهم تضليل قوات الاحتلال والتشويش على عملياته الأمنية والعسكرية الساعية إلى القبض على منفذ عملية حاجز شعفاط؛ قبل عمليته الثانية، وهي ذات الغاية التي دفعت شعب فلسطين قبل قرابة المئة عام إلى استخدامه الكوفية في حياته اليومية العادية منها والنضالية.

قد لا يتحول الصلع؛ الشعر المحلوق، مستقبلاً إلى رمزٍ نضاليٍ يجاري رمزية الكوفية، لكنه اليوم تعبير شعبي عفوي عن خيار شعب فلسطين السياسي والثقافي والاجتماعي والميداني، كما قد يكون نموذجاً لتطويع أحدث تقنيات وأدوات فن التجميل في حماية وتطوير العمل النضالي، التي استخدمت قبل سنواتٍ خلت من قبل وديع حداد.

- الضفة الغربية: من المواجهات المتموضعة إلى الاشتباك المتدحرج

ابراهيم ربايعة

أغلقت قوات الاحتلال مخيم شعفاط وعناتا وضاحية السلام في القدس المحتلة، الأسبوع الماضي، إثر مقتل مجندة إسرائيلية وإصابة عدد من الجنود، بعد استهدافهم المباشر من قبل الشاب المقدسي عدي التميمي. فيما يواصل الاحتلال إغلاق مخارج محافظة نابلس، شمال الضفة الغربية، مع اقتحامه المدينة وجنين المتواصل، وسط انفلات المستوطنين واعتدائهم على الفلسطينيين في القرى المحيطة بنابلس، وعلى شوارع شمال ووسط الضفة الغربية.

في يوم الجمعة، الرابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، استشهد الطبيب المشتبك عبد الله أبو التين، والشاب متين ضبايا، خلال اقتحام قوات الاحتلال مدينة ومخيم جنين. في رام الله؛ استشهد الشاب قيس شجاعية من قرية دير جرير، إثر استهدافه مستوطنين في “بيت إيل” القائمة على أراضي رام الله. في داخل سجون الاحتلال؛ استشهد الشاب محمد غوادرة، متأثراً بجراح أصيب بها خلال تنفيذه وابن عمه ووالده عملية في الأغوار، أدت إلى إصابة سبعة من جنود جيش الاحتلال. في التاسع عشر من ذات الشهر، استشهد عدي التميمي، صاحب عملية قتل المجندة، مشتبكاً مع قوات الاحتلال بمسدسه، في مشهد دفع إلى إعلان الضفة الإضراب العام يوم 20 أكتوبر/تشرين الأول، مع التوجه إلى نقاط التماس مع قوات الاحتلال.

تشير هذه المعطيات إلى نموذج من نماذج التوسع في الاشتباك، أفقياً على مستوى الانتشار في الضفة الغربية، من الشمال إلى الوسط والجنوب، وعمودياً عبر انخراط أكبر في المواجهة بكل محافظة، مع بقاء الحالة القائمة بعيدة عن التنظيم السياسي الفصائلي، أو حتى الوصاية الأبوية السياسية، التي تميز بها الاشتباك مع المشروع الاستعماري خلال العقود الثلاثة الماضية.

تتحدى متوالية المقاومة وموجاتها المتعاقبة سياسات الأمر الواقع

التكوين الميداني وسياقاته

لا يمكن اعتبار المواجهة الحالية في الضفة الغربية، شبيهة بنظيراتها السابقة بعد أوسلو، فهي لا تؤمن ولا تتبع الفصائل، ولا تمتلك هياكل تنظيمية وقيادة واضحة، ولا تبحث عن ثمار سياسية أو منافع اقتصادية. إذاً، نحن أمام نموذج مختلف من المواجهة، يقوم على شباب رافض للسياقات المحلية، المتمثلة في الانقسام والانسداد السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويائس من أية تسوية مع الاحتلال، الذي يتبني مقاربات أمنية و“تسهيلياتية” لا تحترم كرامة الفلسطيني.

تعود جذور هذه التجربة إلى الفترة 2014-2015 تقريباً، حين برز جيل جديد مشتبك، بعيداً عن الضوابط الفصائلية. يقول الشهيد بهاء عليان (2014) في وصيته “أوصي الفصائل بعدم تبني استشهادي فموتي كان للوطن وليس لكم”، فيما يوصي الشهيد إبراهيم النابلسي (2022) بعدم ترك البندقية، حالماً بالوحدة الوطنية. ما بين عليان والنابلسي، تراكم وعي جيل جديد، صنع رموزه بنفسه، والتف حول هدف واحد دقيق: الحرية والاستقلال.

يمثل هذا النموذج المستجد، سر قوة وضعف المواجهة الحالية، فمن جهة يعطيها قوة أمام الاحتلال العاجز عن استخدام مقارباته التي درج عليها خلال وبعد انتفاضة الأقصى (2000-2005)، المتمثلة في مقاربة “جز العشب”، إذ عمد الاحتلال خلال انتفاضة الأقصى إلى استهداف قيادات الأجنحة المسلحة عبر تسلسل طبقي، فاغتال في المرحلة الأولى قادة الصف الأول، عبر الطيران والصواريخ الموجهة والسيارات المفخخة، انتقل إثرها وخلال اجتياح الضفة الغربية، في مارس/آذار- إبريل/نيسان 2002، إلى استهداف قيادات الصفين الثاني والثالث عبر الاغتيال والاعتقال، ما خلق فراغاً قاد إلى تراجع حاد وفوضى في عمل هذه الأجنحة، وصولاً إلى تلاشي تلك التجربة، التي كانت متصلة مع تجربة انتفاضة الحجارة، من خلال تولي قادة الفهد الأسود الفتحاوي، على سبيل المثال: مسؤولية تكوين كتائب شهداء الأقصى.

استمر الاحتلال بعد ذلك في انتهاك مناطق الضفة، عبر عمليات استهدفت قتل أية فرصة تعيد إحياء الأجنحة المسلحة، من خلال تثبيت قاعدة غياب الحواضن الآمنة المحصنة، التي تسمح بترعرع هذه الحالات، على التوازي مع القتل والاعتقال المباشر. هذا بالتحديد، أدى إلى تراجع دور السلطة الفلسطينية الأمني، التي لم تجد منذ 28 سبتمبر/أيلول 2000، مساحة تمارس عليها السيطرة الكاملة، وتقدمها نواة للدولة المبتغاة.

من هنا، يمكن فهم الفعل الميداني الحالي، على أنه مسار مختلف تكون في الميدان، درس منظومة القمع الإسرائيلية، وبنى تجربته على أساس ذلك، نجحت المجموعات المقاومة الشابة في بناء حواضنها الشعبية داخل البلدة القديمة في نابلس ومخيم جنين، وحولت هذه الحواضن إلى مراكز جذب وبناء وعي سياسي، الأمر الذي مكنها من تحويل العمليات المنفردة التي برزت في العامين 2014 و2015، إلى حالة عامة تنتقل من مكان إلى آخر.

كرة متدحرجة

قبل أسابيع، كان من الممكن قراءة الفعل الميداني على أنه حالة متموضعة في جنين ونابلس، حتى مع بداية حصار الاحتلال لنابلس، بدا وكأن الأمر مسعى إسرائيلي لعزل الحالة وإبقائها في عرينها. لكن نجح عدي التميمي في نقل الفعل الميداني من التموضع إلى التدحرج، شعفاط المحاصرة تقود اشتباكاً مباشراً مع الاحتلال ينتقل إلى كل مناطق القدس، يصف قادة أمن الاحتلال ما حدث في القدس بعد عملية التميمي الأولى“التحدي الخطير والمقلق”.

في 12 أكتوبر، إضراب واسع يعم الضفة استجابة لدعوة أطلقتها “عرين الأسود”؛ الاسم الناظم لشبان المقاومة في نابلس، تمثل هذه الاستجابة لحظة تستحق التوقف عندها، فـالـ“عرين” تكوين معنوي لا فصائلي، احتل موقعه سريعاً في قلوب الفلسطينيين، العازفين عن الفصائل والأحزاب التقليدية، التي بدا أنها تحاول التقاط اللحظة دون جدوى.

في 20 أكتوبر، على هامش الإضراب الشامل، يظهر شبان ملثمون في الخليل، يدعون الشارع إلى الالتزام التام بالإضراب، هذا مشهد أيضاً يستحق التوقف عنده. إذ تراجع حضور الملثم في الشارع كثيراً خلال السنوات الماضية، وهو مشهد اعتاد عليه الفلسطينيون في انتفاضة الحجارة، ما يجعل هذه العودة في الخليل التقاطاً لتدحرج الفعل الميداني بطريقة أو بأخرى.

حاولت إسرائيل تكبيل تجربة نابلس، من خلال الحصار المدروس، الرامي إلى إيصال رسالة للفلسطيني، بأن تكلفة دعم “عرين الأسود” عالية، على التوازي مع ذلك، حاولت إسرائيل وضع المستوطنين مقابل فكرة المقاومة، على قاعدة “شارع مقابل شارع”، في كلتا الحالتين، أسقط تدحرج الحالة هذه المحاولة الإسرائيلية.

غذّت حالة الشهيد عدي التميمي الرصيد الرمزي الفلسطيني، الآخذ في التراكم منذ العام 2015، والقائم على رموز شابة ملهمة، تدعم ديمومة واستمرارية الفعل الميداني، في ظل المشهد المشتبك عالي الرمزية الذي قدمه التميمي، ستبحث إسرائيل عن كسر الفلسطينيين معنوياً، ربما في جنين أو نابلس، لكنها لن تكون قادرة في أي حال من الأحوال على استعادة مرحلة الردع، من خلال جز العشب كما دأبت سابقاً.

أيضاً، تقف إسرائيل أمام خيارات تكسر أدوات السيطرة والتحكم، التي دأبت على توظيفها، إذ تشير المعطيات على الأرض إلى عدم قدرة الاحتلال على توظيف العقوبات الجماعية لكسر الحالة، كما دأبت خلال انتفاضة الأقصى، في ظل تقديراتها بعدم جدوى هذه المقاربة، هذا ما يفسر تلويح الاحتلال بسحب “تصاريح حركة” عائلات المنخرطين في المقاومة، وعدم إقدامه على إغلاق معبر الجلمة شمال جنين.

إذاً، تتحدى متوالية المقاومة وموجاتها المتعاقبة سياسات الأمر الواقع، التي دأبت إسرائيل على فرضها، سواء تسهيلات أو عقوبات، كما تفقد منظومة السيطرة والتحكم الاستعمارية فاعليتها، في ظل اتساع نطاق الفعل الميداني أفقياً وعمودياً، وانخراط أعداد أكبر من الشبان فيها. فربما أصبحت إسرائيل مدركة أن أي قمع ميداني، لن يقتل متوالية الفعل الفلسطيني، التي قد تهدأ حيناً لتعود مرة أخرى في نموذج أكثر نضجاً.

- فلسطين: المحو والإزالة وإعادة الإنتاج

معتز كراجة

حلق شبان فلسطينيون رؤوسهم “على الصفر”، في محاولة للتمويه على منفذ “عملية شعفاط”؛ عدي التميمي، قبل أن يستشهد في عملية ثانية. ما ذّكر الفلسطينيين بحادثة مشابهة وقعت خلال ثورة 36، عندما لبس الرجال من سكان المدن “الكوفية” بدل “الطربوش”، للتمويه على الثوار آنذاك. على الرغم من التشابه بين الحدثين، الذي يؤشر إلى ترابط اجتماعي ووطني ميكانيكي بين ذوات فاعلة ضمن صيرورة نضالية، إلا أن هذه الصيرورة قطعت مرات عدة.

منذ تلك الثورة حتى اليوم، تعرض الشعب الفلسطيني لكثير من سياسات التقويض والإزالة، والمحو المادي والمعنوي على السواء، لكن مقابل كل عملية محو، كانت هنالك دائماً إعادة إنتاج للذات الفلسطينية الرافضة والمقاومة، هنا تكمن المفارقة الهامة، أي في قدرة الفلسطيني على إعادة إنتاج ذاته، أكثر مما هي في إعادة إنتاج الفعل المقاوم بمعناه المجرد، أو بكلمات أكثر دقة، إن جوهر مقاومة هذا الشعب، تكمن في قدرته على العودة من المحو، كأن تاريخه النضالي يتلخص في جدلية المحو والعودة منه، هذا ما يحدث مؤخرا في فلسطين؛ في الضفة الغربية على وجه الخصوص، جيل يقاوم للخروج من أكبر عملية محو معنوي شهدها في تاريخه.

“الذات” مجال للصراع

مثلت النكبة المحو المادي الأكبر بحق الفلسطيني، من خلال سلبه أرضه واقتلاعه منها بالقتل والتهجير، وهي في الوقت ذاته عملية استلاب لهذا الفلسطيني، وإعادة تشكيل وعيه بذاته وهويته، فالوعي في النهاية ابن التجربة. كان يفترض بهذه التجربة القاسية، التي أخذت طابع الصدمة والهزيمة، أن تنتج فلسطينياً متقبلاً لواقعه الجديد ومهيأً للذوبان في الجغرافيات التي فرضت عليه. كان يجب أن يتبع سلب الأرض، استلاب الإنسان، حتى تكتمل النكبة وتتحقق.

لهذا، لا يمكن فهم الفعل النضالي، وحركة التحرر التي تبلورت فيما بعد، في حدود الفعل المباشر الرافض للاحتلال، ما بين انطلاق المقاومة وتحرير الأرض زمن يتمدد، قد يطول أو يقصر، لكن عبر هذا الزمن الفاعل؛ أو لنقل في “زمن المقاومة والرفض”، تتحقق عودة الفلسطيني إلى ذاته قبل عودته إلى أرضه، إذ يتكون وعيه في خضم تجربة مضادة لتجربة الهزيمة.

من هنا؛ كان من الطبيعي أن تعتبر “معركة الكرامة” عام 1968، أول مواجهة مباشرة يخوضها الفلسطيني مع الاحتلال ويحقق فيها نصره الأول، نقطة تحول اجتماعية قبل أن تكون سياسية، فقد أصبح “اللاجئ الفدائي”، أحد مكونات وتعبيرات الهوية الفلسطينية الجديدة، ومشروعه الوطني التحرري، بات بمثابة الأرض المتخيلة، التي تجمع هذا الشعب رغم شتاته، فلا يمكن تخيل هوية جامعة لشعب فقد أرضه ووطنه دون مشروع تحرري فاعل. لهذا كله، لم تعد معادلة “الكبار يموتون والصغار ينسون” واردة، فالذاكرة حية تغذى وتورث للأجيال بفضل الفعل الحي والذات الفاعلة. هذا يعني، أن الذات المستعمَر تمثل مجال الصراع الرئيسي مع المستعمِر، عبر جدلية الهيمنة عليها ومحوها من جهة، وتحريرها وإعادة إنتاجها من جهة أخرى.

إذا كانت النكبة ذروة محاولات المحو المادي للوجود الفلسطيني، فإن “مشروع أوسلو” بكل مراحله وتحولاته يمثل ذروة محاولات المحو المعنوي، فهو أضخم عملية إعادة هندسة اجتماعية للفرد والمجتمع. لم تحاول إسرائيل طوال العقود الثلاثة الماضية تفكيك وتحييد “الفعل المقاوم” فقط، إنما تفتيت وإلغاء “ثقافة الفعل” أيضاً، فالفعل؛ إن غاب لظرف ما، سيعود بالضرورة، ما دامت “معركة الذات” محسومة لصالح المستعمَر. لذلك سعت إسرائيل؛ على سبيل المثال، إلى تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني، والمناهج المدرسية، وحاربت الأغنية الوطنية، والموسيقى والإعلام والكلمة...إلخ، وحاولت إحداث قطيعة بين الجيل الجديد وذاكرته الجمعية الموروثة.

كُتب الكثير حول سياسات إعادة الهندسة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، تحت مظلة “أوسلو”، لا مجال لإعادة سردها هنا، لكن لنقل بتكثيف واختصار، إن تلك السياسات التي رسمت ونفذت بالشراكة مع المجتمع الدولي، نجحت في كثير من المجالات، فهي استطاعت تفكيك “التجاوب الميكانيكي” بين أفراد وفئات الشعب الفلسطيني، سواء داخل الجغرافيا الواحدة، أو ما بين جغرافيات الوطن والشتات المختلفة، وأسكنت الفلسطيني في عالم مواز لعالمه الحقيقي، وصاغت له وعياً مزيفاً لا ينسجم مع حقيقة واقعه، وخطاباً جديداً أعاد تقديم الصراع على الوجود على أنه صراع على الحقوق. غياب الفعل المقاوم وتحييده، أو على الأقل نقله من المركز إلى الهامش في “مرحلة أوسلو”، مثَل فرصةً لغزو الذات الفلسطينية الفاعلة، وإعادة تشكيلها وتدجينها.

من الضروري الإشارة هنا إلى أن عملية المحو المعنوي، التي دشنها “أوسلو”، لم تأت في سياق هزيمة كالنكبة، إنما في سياق حركة تحرر وطني فاعلة، في أعقاب عملية نضالية شعبية رائدة، الانتفاضة الأولى، هذا ما يجعل آثارها في تقديرنا أعمق وأثقل وأكثر خطورة على الوجود الفلسطيني. خسارة المعركة وأنت مؤمن بأنك تملك جميع أسباب النصر، بعد النجاة من محو سابق، سيصيبك بالخيبة والشك وفقدان الثقة، مما يجعلك طيعاً أكثر لسياسات المحو، وبالتالي فإن عودتك منه أكثر تعقيداً، كما يبدو الآن.

في زمن المقاومة والرفض يعود الفلسطيني لذاته قبل عودته لأرضه

مخيم جنين والعودة من المحو مرة أخرى

لا أتخيل، ما الذي تفكر به القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية اليوم، وهي تكاد تعود إلى نقطة الصفر في الضفة الغربية، بعد كل ذلك الوهم الذي بنته فيها؟ ما هو وقع المستجدات الميدانية عليها، وهي ترى أن رفض المحو ومحاولات العودة منه، تأتي من أكثر مكان اعتقدت أنها حققت فيه “كي الوعي”، مخيم جنين؟ هل يسمح لها عقلها الاستعماري، بأن ترى أن محاولات نهوض الفلسطيني اليوم، تأتي ضمن جدلية المحو ورفض المحو، الممتدة من ثورة عز الدين القسام ودير ياسين والطنطورية و“أوسلو” والانتفاضة الثانية، وصولاً إلى جنين ونابلس العتيقة اليوم؟ هل يمكن أن تستنتج أن المحو التام للفلسطيني مستحيل، وبالتالي كل ما تفعله هو مجرد شراء الوقت؟

عندما اندلعت الانتفاضة الثانية، استخدمت إسرائيل سياسة؛ ما سمته “كي الوعي”، أي إيقاع أقصى درجة ممكنة من الألم والخسارة، على اعتبار أن ذلك يبني سوراً واقياً يحميها من عودة الفلسطيني إلى المقاومة، بعد تحميله ذاكرة مكوية بالحديد والنار، تمنعه من ذلك. جعلت من مخيم جنين “نموذجاً” لتلك السياسة، حيث دمرته دماراً شبه كامل فوق رؤوس ساكنيه، وتركت في كل بيت فيه قصة فقد وخسارة لا تعوض.

بعد الانتفاضة مباشرةً، عادت إلى تصميم سياسات اقتصادية جديدة، تستأنف بها عملية “التدجين والتفتيت”، لكن المفارقة كما ترون الآن، جيل في ربيع العمر، يخرج علينا من جنين ونابلس وحاراتها العتيقة ومن القدس، كما سبق وخرج العام الماضي خلال العدوان على قطاع غزة من اللد وحيفا، ومن كل مكان خضع للمحو و“كي الوعي”، لينحت تجربته النضالية الخاصة به، والملائمة لماهية المرحلة.

المثير في هذه التجربة، أن “فعلها النضالي”، يتجاوز، مرة أخرى، حدود الفعل المجرد، إلى إعادة إنتاج الذات الفلسطينية، ولملمة شتاتها، يعيد انتشالها من العالم الموازي، الذي صنعه أوسلو، كما فعل جيل ما بعد النكبة. لا نتحدث هنا عن مستقبل هذه المقاومة وكيف ستتطور، فهذا بحاجة إلى منحى آخر من التحليل، لكن الذي نحاول قوله؛ ربما هو الأهم، أن مقاومة هذا الجيل، في هذه المرحلة البائسة، التي عنوانها المحو والتفتيت، تمثل إعادة بناء القيم المجتمعية والوطنية، وخطاب وطني يتجاوز التقسيمة الاستعمارية، إنها تنفخ روحاً جديدةً في الجسد الفلسطيني. لعل بلورة هذه المقاومة خارج البنية الحزبية الرسمية، وتحولها إلى نموذج عمل وحدوي، يمثلان رمزية خاصة في رفض هذه المرحلة وثقافتها.

السؤال، كيف لهذا الجيل أن يشق طريقاً معاكساً لكل تفاصيل المرحلة وثقافتها، ويتحرر من “كي الوعي”؟
رغم خصوصية المرحلة الراهنة، ينطبق هذا السؤال على مختلف مراحل التاريخ الفلسطيني، قد نجد الجواب الرئيسي في جوهر الاستعمار والاحتلال ذاته، وفي ماهيته، فهو بالضرورة يخلق التناقض مع “الآخر”، من خلال الإيغال في تدميره ومحوه وإزالته، كلما كان “الآخر المستعمَر” أكثر ضعفاً، تفتحت شهية المستعمِر على التدمير والمحو أكثر، كأنه يعتاش على ذلك، هذا لابد أن يخلق، في لحظة ما وعند جيل ما، رد فعل، كأن ذلك محكوم بقانون فيزيائي.

اللافت هنا تحديداً، أن الاحتلال مهما حاول تفتيت “ثقافة الرفض والمقاومة” ومحاصرة “مصادرها الوطنية”، فإن فعله هو وطبيعته يبقيان مصدراً رئيسياً لتخليق تلك الثقافة، فالمستعمِر يحمل فناءه في جوهره وفعله. الطفل “محمد أبو خضير” و “عائلة الدوابشة” يمثلان رمزية جلية لتلك العلاقة، التي تنشأ بين “مستعمَر” ذاته ساكنة غير فاعلة وهو في حالة المحو، وبين مستعمِر تتفتح شهيته على ذلك الضعف والهوان لدرجة يحرق فيها أطفالا. لهذا، العمليات الفردية التي رافقت حادثة حرق الطفل “أبو خضير” عام 2014، والهبة التي جاءت بعدها بعام واحد، تمثل تجسيداً لما يقوله فرانز فانون، بأن العنف هو الباب الوحيد الذي يستدرك منه المستعِمر إنسانيته المفقودة المهانة والمذلة.

أما بخصوص المرحلة الراهنة تحديداً، فهنالك مبدأ “التراكمية والمحاكاة”، لا يمكن فصل بلورة وظهور نواة مقاومة صلبة في جنين ونابلس؛ أخذت بنية المجموعات المسلحة وشبه المنظمة، بمعزل عن تكرار “الفعل الفردي” طوال السنوات العشر الماضية، يوجد رابط ما بين الفتى “مهند الحلبي” الذي خرج بسكينه إلى القدس، و“إبراهيم النابلسي” الذي حمل بندقيته بعده بسنوات. الفعل ينتج فعلاً آخر، كما ينتج ثقافة تعيد تغذية هذا الفعل وتوليده وتطويره.

نجد هذا المبدأ متجسداً في وصية تركها الشهيد “عدي التميمي”، تحديداً في قوله: “أعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها وأنا واضع هدفاً أمامي، أن تحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي”. الرابط بينهم ليس معنوياً فقط، إنما هو رابط اجتماعي مباشر بين أصدقاء وأقارب أيضاً، هذا واضح جداً في مخيم جنين ونابلس.

أما “كي الوعي”، الذي راهنت عليه إسرائيل في الضفة الغربية، كما راهنت عليه في عدوانها المجنون على قطاع غزة عام 2008، وكررته مرات عدة عله يعطي نتائج، فهو كما يبدو يورث الأجيال اللاحقة ذاكرة محرضة على الفعل، والفعل في هذه الحالة هو ضرورة التحرر من عبء تلك الذاكرة وثقلها.

رغم كل تلك العقود، ما زالت إسرائيل، كما يبدو، تخطئ في قراءة سيكولوجيا الإنسان الفلسطيني، وإلا لما نشرت الفيديو الذي يوثق لحظة المواجهة الأخيرة مع الشهيد التميمي، ظنت أنها بذلك تكسر صورة البطل، ولكن لا شك أن تلك اللحظة قد سكنت في مخيلة أبناء جيله، تحرضهم على محاكاة بطولة بهذا القدر من الاستثنائية.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2183418

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مواجهة   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2183418 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40