السبت 28 آذار (مارس) 2020

«أن تفكر في فلسطين» للمغربي عبد الله صديق

من الاشتباك البصري إلى انشراح البصيرة
السبت 28 آذار (مارس) 2020

- الطاهر الطويل

«فلسطين فكرة. فكرة تنمو في القلب قبل أن تُزهر في العقل، وليس شرطا أن يكون حاملها فلسطينيا أو عربيا، لأنها فكرة الإنسان التي تمتحن انتماء صاحبها إلى الإنسان». هكذا يبسط الكاتب المغربي عبد الله صديق نظرته إلى فلسطين، ذلك في مقدمته لمؤلفه المعنون بـ «أن تفكر في فلسطين» ــ صدر ضمن سلسلة (يوميات عربية) عن المركز العربي للأدب الجغرافي، بالتعاون مع دار السويدي للنشر والتوزيع، حيث يروي صديق مشاهدات زيارته إلى فلسطين، لأول مرة، بمناسبة معرضها الدولي العاشر للكتاب، حيث قضى سبعة أيام، تنوعت بين لحظات أساسية أطلق عليها: مشهد «الاشتباك البصري» الأول مع جنود الاحتلال، وحالة «الاستغراق الذهني» في ما تراه العين، و»انشراح البصيرة» من رؤية التراب والعشب والناس.

بعيداً عن التطبيع

يدافع الكاتب عن مشروعية زيارة فلسطين، نافيًا أن يكون ذلك تطبيعًا مع العدو الصهيوني، حيث يصف السعادة التي قوبل بها الوفد الزائر من لدن شباب فلسطينيين في باحة الضيافة، بعد مرحلة الاجتياز الصعبة للمعابر، التي يتحكم فيها جيش الاحتلال؛ إذ يقول: «كانت المحبة تفيض من مُحيَّا كل واحد من الشباب في المضافة، تشي بسعادة حقيقية تغمرهم، وهم يخدموننا بكل أريحية، سعادة من رمزية يستشعرونها في وصولنا إليهم، شبيهة بتلك التي تتدفق من عيني سجين يزوره في المعتقل أخ له في الدم، أو نظير له في الإنسانية، زيارة يعرف الفلسطيني منها أن لسجنه بابًا يُفتح ـ ولو بصعوبة ـ يدخل منه أهله ومُحبّوه، فيدخل بوصولهم هواء جديد، يعرف منها أيضا أن صاحب زيارته قد قاسمه بعض أوجاعه التي تبدأ من المعبر، ولا تنتهي عنده». ثم يتساءل قائلا: «فهل تبقى من ذريعة، بعد هذا، عند من يَصِمُ تلبية دعوة فلسطينية لزيارة الأرض المحتلة بأنها تطبيع؟!».
قسّم الكاتب يوميات زيارته لفلسطين إلى مشاهد، ابتدأها بمشهد يصف فيه «تفتيت الوقت» في انتظار ختم الجواز في مطار «الملكة علياء»، ثم الركض إلى خارج المطار، بحثا عن المُرافق الذي كان في انتظاره، ليلتقي لاحقًا بمن جاؤوا في رحلات سابقة، ضيوفا على معرض فلسطين الدولي للكتاب، حيث سيكونون مطالبين باجتياز معبر جسر الملك حسين ”اللنبي”، وقد تعترض أحدهم مشكلة ختم الجواز عند المعبر، ومن ثم فكل تأخّر في زمن الوصول إلى الحاجز الإسرائيلي سيُضاف إلى يوم فلسطيني طويل مقداره سبعون سنة؛ كما يقول المؤلف، متوقفا عند مشهد «مسافة الاشتباك البصري» مع جيش الاحتلال بعد اجتياز الحدود الأردنية. ففي أي لحظة يمكن للجندي أن يفتح النار عليك، ويبحث عن أتفه الأسباب لتبرير جريمته، مثلما وقع مع قاض أطلق عليه جنود إسرائيليون النار هناك، وزعموا أنه حاول تجريد زميلهم من سلاحه.

في رام الله، يحاول الكاتب أن يكتشف المدينة والناس، فلا يحصر نفسه بالمكوث في الفندق، أو بالتقيد بالتنقل مع الوفد، بل يحرص على التيه وسط المدينة وزيارة الحارات والأسواق الشعبية

ويصف الكاتب ما يجري في طابور شباك الفحص الأمني من طريقة للتفتيش، التي تروم إشعار المواطن العربي بالإهانة والمذلة، وهو يلتقط التفاصيل الدقيقة أبرز ما لحق حقيبته من أعطاب جراء التفتيش الفوضوي، فبدت في حال يرثى لها؛ قبل أن يتوالى سرد حكاية السفر عبر الحافلة نحو أريحا، ومعها تنساب التعبيرات التي تصف جمال الطبيعة الفلسطينية، وإن كان وجود مستوطنة إسرائيلية وسط الأراضي الفلسطينية يفسد الفرح المؤقت.

أخو المستحيل

في رام الله، يحاول الكاتب أن يكتشف المدينة والناس، فلا يحصر نفسه بالمكوث في الفندق، أو بالتقيد بالتنقل مع الوفد، بل يحرص على التيه وسط المدينة وزيارة الحارات والأسواق الشعبية والاحتكاك بالشباب والناس البسطاء في المقاهي وسيارات الأجرة، والتلاميذ الحالمين بأن يصيروا رحّالة، ولا يخفي إعجابه بمعرض الكتاب، وحسن نظامه، وهناك تتحقق له متعة ولذة التجوال والالتقاء بالناس، ويصف الكاتب المعرض بكونه «أخا المستحيل». لماذا؟ يجيب بالقول: «لأن القائمين عليه يبدؤون التحضير له بشهور، وهم يعلمون أنهم يجازفون، لأن لا ضمانة لديهم بأن إسرائيل ـ التي يسميها العالم دولة ديمقراطية ـ سوف تسمح بالمرور للكتب الموجهة إلى المعرض، أو تُصرّح بالعبور للعارضين فيه، ولضيوفه من المثقفين. وهذان الأمران هما ما يحقق معرضا على أرض الواقع، لكن أرض الواقع هنا صلدة وناتئة، يملأها ضابط الارتباط الإسرائيلي بألغام التسويف وتأخير التصريحات. يفعل ذلك مراهنا على تحطيم عزيمة المنظمين، ليُؤخَّر المعرض إلى أجل غير مسمى، أو ليفشل إنْ هو نُظِّمَ. وهو لذلك أخو المستحيل، ومن يراه على صورته يتيقن أن مُنظّميه صعدوا به، كما يصعد بصخرته وينجح سيزيف عنيد». ويستطرد الكاتب قائلا: «تحت سلاح الدولة (الديمقراطية)، يُنظِّم الفلسطينيون معرضا للكتاب، دوليا وأنيقا، يغيظون به عدو حريتهم، الذي يكره أن يرى صغارهم يمسكون سلاح الكلمة على الورق، بالقدر نفسه الذي يكره أن يرى كبارهم يحملون سلاح البارودة على الأكتاف».

في الطابق تحت الأرضي للمعرض، يتاح للكاتب ـ بمبادرة من بعض أصدقائه ـ زيارة مجسم يحاكي دهاليز المعتقل الإسرائيلي ومعاناة السجناء الفلسطينيين فيه، حيث يعاين تجربة السجن بين فخ التخييل وهوة المعايشة. ولا تفوته أيضا زيارة قبر محمود درويش ومتحفه، وزيارة مدينة القدس، حيث يعيش التجربة المولّدة لأقوى وأقسى درجات الدهشة الهادرة، في الضاحية وبيت حنينا وشعفاط والشيخ جراح والمصرارة وباب العامود سور القدس الشاهق وكنيسة القيامة وقبة الصخرة. وداخل المدينة العتيقة، يكتشف أوجه الشبه بينها وبين بعض الأماكن في البلدان العربية: القناصل في الرباط وسوق جامع الزيتونة في تونس وخان الخليلي في القاهرة وسوق البازركان في طرابلس الشام.. «كأن أرواح تلك الأمكنة شقيقات … تمنيت أن أكون حجرا، عساي أُنصتُ لما يهمس به لحجر حجر».

الانتماء إلى المكان

يكتب الأديب الأردني فلسطيني الأصل، إبراهيم نصر الله، في تصدير هذا الكتاب: «لقد عشتُ ما عاشه عبد الله في هذا النص على الأرض أكثر من مرة؛ إلا أن جماليات الكتاب، ورهافة التقاط التفاصيل والعيش فيها، جعلني أرى فلسطين مرة أخرى، مرة أرى فيها ما لم أره من قبل، عبر عينيّ كاتب يستطيع أن يزيد حبك لفلسطين، مهما كانت درجة حبك لها قبل قراءته». ويضيف نصر الله: «تتمثل قدرة الكتاب في أنه يجعلك تركض عبر السطور، طاويا لها، من خلال قوة اللحظة التي يتناولها، واللحظة الثانية التي بتّ متشوقا لمعرفتها. من عمّان، إلى أريحا، إلى رام الله، الخليل، وسواها من المدن الفلسطينية، تتشكل حكاية فلسطينية أخرى، بعيون عربية محبة، وقلب نابض بالجمال. يرى الجميل ويتعلق به، ويحميه، وسط غابة البنادق المتربصة. ويأتي التقطيع المشهدي المكثف، ليفتح عينيّ القارئ على صور تُرى وتُسمع، وتتكامل، لترسم صورة فلسطين اليوم، وما وصلت إليه، بعد سبعين عاما من مأساتها».

٭ كاتب من المغرب



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2184563

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع نشاطات  متابعة نشاط الموقع متابعات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

2184563 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40