الجمعة 21 حزيران (يونيو) 2019

مصادر الصورة في شعر حميد سعيد لرشيد هارون

ابراهيم خليل
الجمعة 21 حزيران (يونيو) 2019

في كتابه «مصادر الصورة في شعر حميد سعيد» ( هبة – ناشرون وموزعون 2019) يعكف الباحث رشيد هارون على تتبع الإحالات التي تعزو الصور في شعر هذا الشاعر إلى مصادر، إما أن تكون جزءا من علاقات الشاعر الإنسانية بالآخرين، كعلاقته بالأصدقاء، أو المرأة، أو المكان، أو المثقفين من الأدباء، والكتاب، أو غيرهم ممن يعنون بالهاجس الثقافي. وإما أن تكون هذه المصادر ثقافية، كالأساطير والشخصيات التاريخية، والنماذج العليا، والكتب والمصادر الدينية؛ من قرآن كريم وغيره.. أو فنية، فالشعراء في الغالب يتواصلون مع الفنانين التشكيليين، ولا يخفى على من قرأ شعر حميد سعيد يكتشف أنه يكثر من الإشارات لفنانين عراقيّين، ولبعض أعمالهم الفنية ولوحاتهم وجدارياتهم المشهورة.
وقد تكون هذه المصادر أيضًا مستمدة من المكان؛ فهو يحيلنا إلى الريف، وإلى القرى، وإلى ما فيهما من إشارات لطبائع الحياة اليومية، كالتعلق مثلا بالمنزل الذي نشأ فيه الشاعر، وما فيه من أدوات كالحصير، وكوز الفخار، وتناول حليب الصباح. وهذا ما ينبه إليه المؤلف مستعرضًا قول حميد سعيد في إحدى قصائده:
دعني أحسك يا إلهي
كحليب أمي في شفاهي
يا غفوة فوق الحصير
والماء كالبلور في كوز من الفخار
وقد يستمد الشاعر صوره من المدن، عربية كانت أم غير عربية. إذ المعروف أن للشاعر جولات كثيرة في مدن زارها، أو أقام فيها، أو ألمَّ بها من باب التخييل، والتعلق العاطفي، كمدن فلسطين التي أومأ إليها في بعض شعره، متجاوزًا أسماء المدن، ليذكر المنازل والسطوح والشرفات، وهو يذكر لنا مدنا أخرى من باب العلاقة بين الشاعر وذكرياته التي ترتسم في ذهنه عن هاتيك المدن، كالرباط وفاس وغرناطة وقرطبة ومدريد وغيرها. ويعمد الباحث في تتبعه لصور الشاعر المستمدة من هاتيك المصادر، لاختيار نماذج شعرية تشهد على رسوخ العلاقة بين الشاعر وتلك المصادر، التي يستوحي منها صوره. فإذا تيسر له النموذجُ المناسبُ من هذه الصورة أو تلك، تناولها بالتحليل، معلقا على ما فيها من دلالاتٍ، مبرزًا ما يتجلى عبرها من جماليات، وعلاقة تلك الدلالات، والجماليات، بالمصدر الذي استقى منه الصورة، فمن «قصيدة النهر» التي أهداها الشاعر لصديقه خيري العميدي، يقتبس المؤلف ما يأتي:
الصديق الوفي
يفاجئنا حين نفتح أعيننا
ويفاجئنا في الظهيرة
حتى إذا حضر الليل بين يديه
اتقيناه بالبسملات.. ونمنا
فالشاعر يولي هذا الصديق من الاهتمام ما يوحي للقارئ بارتقائه إلى المستوى الذي يستحق فيه أن تكون الإشارة إليه صورة شعرية مبتكرة، تدل دلالة قوية على الائتلاف والوئام، الذي ينبغي أن تتصف به العلاقات بين الصديق والصديق. وهو ـ أيْ الدارس- لا يغفل عن حقيقةٍ مهمة، ومسألة ملحَّة، ألا وهي الجانب الفني من الصورة، مؤكدًا على أنَّ حميد في هذه القصيدة يقدم لنا صورة مَوَّارة، تعجُّ بالحركة، بعيدة عن الثبات والسكون، وهي صورةٌ ينأى بها الشاعرُ عن المباشرة، ما يضفي عليها الحيوية والجدة والقدرة على تمثيل الشعور، والإحساس، وليس التقرير الذهني الذي يُضعف الشعر، ويهجِّنُ الفن.
ولدى حميد سعيد ولَعٌ لافتٌ بالصوَر التي تحيلنا إلى نموذج إنساني من تلك التي يزخر بها تراثنا الأدبي والشعري. وذلك شيءٌ لا ينفرد به هذا الشاعر، وإنما هو شيء نجده عند السياب، وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور، وأدونيس، وممدوح عدوان، ومحمود درويش، وغيرهم الكثير من أعلام الشعر العربي الحديث. فالصورة التي تتكرَّرُ في شعر حميد هي تلك التي يعرب فيها عن الاغتراب كتمثله لشخصية المتنبي، الذي طالما ردَّد:
تغرَّب لا مُسْتعظما غير نفسه
ولا قابلا إلا لخالقه حكما

أو قوله:
ما مُقامي بأرض نخلة إلا
كمقام المسيح بين اليهودِ
أنا في أُمَّة تداركها الله
غريبٌ كصالح في ثمودِ
وقد ظهرت في أشعار حميد سعيد صوَرٌ استمد بعضها من شعر المتنبي، وبعضها من شعر أبي نواس، وبعضها من شعر أبي العلاء المعري، وبعضها من شعر سُحيْم عبْد بني الحَسْحاس، وبعضها من شعر ابن زريق البغدادي. ولم تقتصر صورهُ – في رأي المؤلف – على هذه الشخصيات العربية؛ فهو يذكر لنا صورًا استوحاها الشاعر من عالم لوركا، وقصيدته المشهورة «شاعر في نيويورك»، يقول حميد سعيد:
يجد السيد الأندلسي
منجمه في المتاهة
نيو يورك وحش يعيشُ
على ما تساقط من لحاء غصون النحاس
وفي وهدة النعاس
يمد مخالبه خلسة.. يأكل من لحمه الشائط
ولا يفتأ الباحث رشيد هارون يعزو الكثير من صوَرِ حميد سعيد لعلاقة الشاعر بالمرأة. وهذه ظاهرة تشيع كثيرًا في الشعر العربي، قديمه وجديده. ولكنَّ حميد لا يني يستعير صورَهُ من عالم المرأة، بصرف النظر عن علاقته بها، فهْيَ قد تكون أمّا، أو زوجة، أو حبيبة، أو صديقة مُسافرة، جمعته بها المصادفة، لا أكثر، يقول في قصيدته «عودة العشق» ما يعُدُّهُ الدارسُ صورةً لا تخلو من رَمْز:
مرة، قَدَّمتْ لي مسافرةٌ اسمها
وادعت أنها
صورةٌ منكِ تقدر أن تهَبَ اللحظة الداميَة
حين نامتْ على مِعْصمي
لم أجد غيْرَ تمثال شمْع!
فهذه صورةٌ ـ في رأي الباحث – لامرأة زائفة، أرادت الادعاء، لكنَّ ادعاءَها الكاذب سرعان ما توارى وسقط عنها القناع. ولا يفتأ الباحثُ يلحُّ على أن صور الشاعر حميد سعيد المستمدة من علاقاته بالنساء، صورٌ توحي بدلالات بعيدة لا يتوقعها القارئ. فعلى الرغم من أن (ماريسا) اسم امرأة ورد ذكرها في إحدى قصائده، لكنَّ القارئ إذا تأمل الصورة وجدها تعبر عن علاقته ببغداد، لا عن علاقته بامرأة:
يتعب البحرُ.. ولا
تتعب ماريسا التي
تصعد من ساحلها البارد نحو النار
يا عرافةً علَّمها الموت سجايا
الحلم الفضي
فالصعود، والنار، وما إليهما من ألفاظ تضعُنا في سياق يتجاوز العلاقة التقليدية بالمرأة إلى علاقة أوسع أفقًا، وأبعد مدىً. وقد تكون تعبيرًا عن علاقة الشاعر بالوطن، أو – ربما – بالثورة. وعلى الرغم من أنَّ الكتاب بفصوله الثلاثة، ومقدِّمتهِ، وخاتمته (194صفحة)، يُفصحُ عن الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في استقصاء الصور المبتكرة في دواوين حميد سعيد، مع وفرة التعليقات التحليليَّة التي شفع بها هذا الاستقصاء، ووفرة المراجع، إلا أنه لا يخلو من مشكلات. فهو في الفصل الأول يُخصِّص حيِّزًا للصور التي تمتُّ بصلة للشخصيات الأدبية، سواء أكانت من التراث العربي الإسلامي، أو من غيره، ولكننا نجده في الفصل الثاني يخصص مساحة أخرى، وحيزًا آخر، للشخصيات التاريخية، مع أن الشخصية التاريخية قد تكون بمعنى من المعاني شخصية أدبية والعكس صحيح، فكون المرء أديبًا لا يحول دون أن يكون أيضا شخصية لها بعْدُها التاريخي. وفي الفصل الأول يخصص حيزًا للصور التي استقاها الشاعر من العلاقات الإنسانية، كعلاقة الصديق بالصديق، وعاد فأفرد حيزًا للصور المستمدة من علاقة الشاعر بالنساء، ولا يوجد ما يحول دون أن تكون المرأة صديقة، وهذا ما ذكره المؤلف في تحليله لإحدى صُوَر الشاعر، وعلاقتها بالمرأة. على أن الصور التي أحالنا فيها للأمكنة لا تخلو هي الأخرى من موقف إنساني، أو من موقف تراثي، أو ديني، له صلة وثيقة بالقرآن الكريم، أو السيرة، أو التاريخ الإسلامي، ففي قصيدة عن القدس، أو قصيدة يذكر فيها غرناطة، أو قرطبة ذات التاريخ الأندلسي، أو في ذكره لنيويورك، تختلط العلاقات اختلاطا كبيرًا، ما يجعل الفصل بين مصدر للصورة وآخر، فصلا تعسفيًا، غير مقبول، لاسيما في الشعر، فالمرجعيات الدينية والتاريخية والإنسانية، قد تمتزجُ، وتختلط، بحيث لا يمكن التفريق بين مرجعيةٍ وأخرى.
لذا، فإن هذا التبويب، والتنقُّل من موضوع لآخر، أو من مصدر للصورة لآخر، مع ما فيهما من تداخل، وما بينهما من اختلاط، يضفي على الكتاب – على الرغم من الجهد الكبير الذي بُذل فيه – ضعفا يُخْشى أن يقلل من قيمته، وأن يَحُدّ من قدرة القارئ والدارس، على الانتفاع به والإفادة منه.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 99 / 2184556

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع نشاطات  متابعة نشاط الموقع متابعات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2184556 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 4


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40