السبت 14 حزيران (يونيو) 2014

جامعة منح الصلح

السبت 14 حزيران (يونيو) 2014 par معن بشور

كنت خلال دراستي الجامعية أعتقد أن منح الصلح أستاذ كبير، نستفيد من تحليلاته، نتغذى بأفكاره، نستنير برؤاه، ونضحك لتعليقاته الساخرة، ولكن مع الأيام اكتشفت أن منح الصلح هو أيضاً جامعة متكاملة، بل الجامعة الثالثة التي تخرجت منها، بعد الجامعتين الأميركية واللبنانية اللتين تخرجت منهما أيضاً، فإذا كنت قد تعلمت الاقتصاد في الأولى والحقوق في الثانية، ففي جامعة منح الصلح المفتوحة تعلّمت الحياة بكل مناحيها، تعلمت الفكر السياسي والنقد الأدبي والتحليل العلمي، والعلم بالناس، والرؤى الثقافية في آن.
كنا نسرع بعد انتهاء المحاضرة في الجامعة الأميركية لنحتل مقعداً لنا في طاولة منح الصلح في مطعم فيصل المقابل لبوابتها الرئيسية، طاولة كانت تجمع سياسيين كباراً، وإعلاميين لامعين، ومثقفين بارزين، وشباباً متعطشين إلى ما هو أكثر من درس جامعي جاف، أو محاضرة أكاديمية مجردة.
ومنذ تلك الأيام كان منح الصلح من الأشخاص الأكثر حضوراً في حياتي وحياة الكثيرين من أبناء جيلي، نستمتع بسرعة خاطره، ونفاذ تحليله، ونقده لما هو رائج من الظواهر، وما هو سائد من التحليلات، ونحاول الاستجابة لدعوته للغوص في الأعماق، وعدم الانسياق مع السطحي من الأمور، كما نبدي الإعجاب بقدرته على التعبير، والإيجاز الممتنع الذي يسبك فيه أفكاره، وتلخيص أكثر الظروف تعقيداً بكلمة أو جملة تذهب مثلاً، بل ترسم معادلة لا يمكن فهم بعض الأمور إلا من خلالها.
هذا المستوى الراقي من الفكر، وهذه الإحاطة الموسوعية بالثقافة، وهذه الموهبة المذهلة في الصياغة الجميلة، ارتبطت دائما مع منح الصلح بنوع من الترفع الإنساني عن المال والسلطة، وبنوع من الصوفية الأخلاقية تجعله محصناً بوجه إغراءات كثيرة وتجعله أحياناً معرّضاً للنقد بسبب غياب منجزات «مادية محسوسة» له كما يقول بعض حاسديه أو المحرجين من الفارق الكبير بين ميزاته وميزاتهم.
ولا أنسى كيف أن أحدهم في زمن الحرب العبثية وتشطير العاصمة جاء إلى منح الصلح بعرض رئاسي لتشكيل حكومة، والانتقال إلى الشطر الشرقي من العاصمة للإقامة فيه، اعتذر يومها «الصلح» عن قبول الرئاسة الثالثة لأسباب عدة لعل أجملها قوله :«كيف تريدني أن أقيم في منطقة لا أسمع فيها كلمة «الله اكبر» وأنا أمثل المسلمين في السلطة».
لم يكن اعتذار منح الصلح يومها عن السلطة وليد «ترفع» طهوري فحسب، بل كان أيضاً وليد فكرة آمن بها، بل ورثها عن الأسلاف، وهي أن الأوطان متعددة المكونات لا تقوم إلاّ على الميثاقية، فالميثاقية هي صمام أمان الوحدة الوطنية، وهي الضمانة لكي لا تتحول الديموقراطية إلى ديكتاتورية الصناديق.
الميثاقية
هذه الميثاقية يعيدها منح الصلح إلى «صحيفة المدينة» التي كانت أول ميثاق بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، وحتى غير المؤمنين من أبناء يثرب التي هاجر إليها المسلمون الأوائل، وهو يعتقد أنها ليست حاجة لبنانية فحسب، بل هي حاجة لدول المنطقة ومجتمعاتها كلها، وكأنه كان يقرأ في كتاب مجريات الأحداث في بلادنا هذه الأيام ، حيث بات واضحاً استحالة أي حل لأزماتها الدموية المتفجرة بدون ميثاق يعيد صياغة العلاقات بين مكوناتها، وما الميثاق عند منح الصلح إلا الصيغة الحديثة لمفهوم «العقد الاجتماعي» الذي ابتدعه يوماً جان جاك روسو ليمّهد فيه لخروج فرنسا من مملكة «أنطوانيت والبسكويت» إلى رحاب الجمهوريات التي تبدلت مراراً قبل أن تستقر.
لم تكن الميثاقية عند «منح بك» مجرد صيغة للحكم فحسب، ونوعاً من الإقرار بالآخر والقبول به واحترام رأيه والتفاعل معه فحسب، بل كانت أيضاً سلوكاً يومياً ناضجاً عبّر عنه يوماً، والحرب العبثية في أوجها: لا يجوز أن يصدر بيان عنا في بيروت الغربية لا يستطيع توقيعه نظراء لنا في التفكير والموقف في «الشطر» الآخر من البلاد، وكأنه كان يقول إذا لم يكن لبنان بكل تنوعه حاضراً في كل لبناني، فلن يكون لبنان أبداً، مستكملاً في ذلك مقولة محيي الدين بن عربي الصوفي المعروف «أتحسبُ أنكَ جرمٌ صغيرٌ وفيك أنطوى العالمُ الأكبرُ» …. وهي مقولة ردّدها أمامنا منح الصلح مراراً.
العروبة
ومن هذه الميثاقية الراقية كانت نظرة منح الصلح إلى العروبة، وكان من أبرز مفكريها ودعاتها، لدرجة إن احدهم في العهد الشهابي تحفظ على تعيين منح الصلح مديراً عاماً للأنباء يومها بحجة انه «غير لبناني»… ليسخر منه آنذاك الرئيس فؤاد شهاب قائلاً: «تقول عن ابن الصلح أنه غير لبناني» مستهجناً تلك الدرجة من الغلو العنصري والتعصب الفئوي التي وصل إليها البعض.
عروبة منح الصلح لم تكن بالتأكيد عنصرية أو طائفية أو مذهبية أو عدائية لمكون داخل الأمة أو لأمة مجاورة لها، ولم تكن مجرد هوية يعلنها العربي ويكفي نفسه القتال، بل كانت هوية جامعة تنطوي على مشروع للنهوض يشمل كل جوانب الحياة العربية، فإذا لم تكن العروبة جامعة ونهضوية فإنها لن تكون هوية قادرة على تحصين مجتمعها، والإشعاع بين أبنائها، بل لن تكون هوية قادرة على حمل رسالة الأمة إلى العالم كله.
العروبة عند منح الصلح هي «الميثاقية» على مستوى الأمة، تماماً كما الميثاقية هي العروبة داخل لبنان وكل قطر عربي.
وعلى عربة يقودها جوادان، هما الميثاقية والعروبة، قطع منح الصلح رحلته الطويلة، أطال الله عمره، فكتب وحاضر، وحاور وصارع، واتفق واختلف، وحزن وفرح، واقترن الألم معه دائماً بالأمل… بل احتضن مبادرات وأسس مع أخوة له وتلاميذ أندية ومؤسسات ومؤتمرات، وكان دائماً يحمل تلك الروح التأسيسية التي لا يحملها إلا من رأى نفسه مدماكاً متواضعاً في بنيان أمته، وجسراً تعبره الأمم إلى «الفجر الجديد»، كما قال يوماً صديقه الشاعر الكبير الراحل خليل حاوي الذي غادرنا في مثل هذه الأيام عام 1982، اثر الغزو الصهيوني، ولم يكن يخفي إعجابه بمنح الصلح وتأثره بفكره العروبي النهضوي…
«العروة الوثقى» لم تكن عند منح الصلح مجرد جمعية طلابية في الجامعة الأميركية انتسب إليها، وكان واحداً من قياداتها حين كانت الجمعية احد روافد الحركة القومية العربية في أربعينيات القرن الماضي فقط، ولا مجرد نادٍ حمل اسمها وترأسه منح الصلح في أوائل الستينيات من القرن الماضي، بل كانت أيضا هاجساً سكن منح الصلح ولا يزال، ليراها رابطاً بين اللبنانيين، وبين العرب، وبين الإنسانية جمعاء…
و«دار الندوة» لم تكن بالنسبة إليه وهو رئيسها، منذ ربع قرن، مجرد منبر ثقافي حر يستضيف كل رأي، وكل مبدع، وكل صاحب فكر في لبنان والأمة والعالم، ولا حتى مجرد ترجمة لأحلامه وإخوانه في «اللقاء الوحدوي» يمارسون عبر قاعتها المتواضعة قناعاتهم الفكرية والثقافية فحسب، بل كانت بشكل خاص شمعة سلام وحوار ووحدة أضيئت في قلب الاحتراب الأهلي الملعون لتقول للبنانيين ليُنرْ كل منّا زاويته بدلاً من أن يلعن الظلام…
منح الصلح ـ أطال الله عمره ـ ابن السادسة والثمانين ونيف، كبير من بلادي وأمتي، وعلم للفكر والثقافة، راية من رايات النهضة، ورؤية متجددة لا تساوم في حق ولا تهادن في قناعة.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 15 / 2165248

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع معن بشور   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165248 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010