الأربعاء 11 حزيران (يونيو) 2014

مستقبل العرب بين السلطة والسيادة

الأربعاء 11 حزيران (يونيو) 2014 par نسيم الخوري

تقودنا “ثورات العرب” في هندستها الإخوانيّة وأقنعتها الغريبة الغربيّة المتلوّنة في بلاد العرب والإسلام إلى أنفاقٍ من الأوضاع المشتّتة والمبعثرة غير المستقرّة . وضعتنا فوق الدروب الوعرة التي تبرزها تشويهات المواقف المعمّمة بالدين وكأنّها تنسف أنساق القيم فينا من دون ترقّب للنتائج . ويورثنا هذا الوضع المتجلبب بالإسلام وبالياقات البيضاء المنشّاة، إلى إلتباسات فكرية كبيرة بين الحق والسلطة والسيادة وغيرها من المصطلحات والمفاهيم التي ستحتاج لأزمنةٍ منّا لتنقيتها . هذه المعضلات الفكرية تبدو في نظري أهم مستقبلاً من موروثات الحروب إذ تضع أوزارها .
قد يرتبط الحق بالمقدس داخل السلطة . ولطالما نخروا رؤوسنا في الغرب، باعتبار السياسة علماً تابعاً لتاريخ الأديان المقارن حيث تفرض السلطة السياسية تبريراتها وديمومتها بينابيعها وأصولها المقدسة، وتتشبث بأمور الناس والأحداث موثقة الأنظمة وظيفة ثابتة في الحكم . كنّا أحياناً نتوافق مع ميشال فوكو Michel Foucault الفيلسوف الفرنسي عندما منح السلطة بُعداً اتصالياً فرآها “علاقة قوة” لا تحقيقاً لإرادة “القوة الطبيعية” كما بشّر بها نيتشه القرن التاسع عشر ومطّ الإنسان إلى هتلر جعل الدنيا خربة خالية إلاّ من القتل، وها نحن نتوارثها من جديد عبر “الهتلريين الإسلاميين”، إن صحّت التسمية، في عواصم الثورات ومدنها .
تكمن القوة في حال السلطة وطرائق ممارساتها وارتباطاتها بالآخرة والخوف من النفس والعقاب الأخير درءاً للظلم والفساد وحفاظاً على الفضائل والرفق بالآخر . السلطة هي إرادة المعرفة لدى البشر وكيفية التفكير وحدودها الممكنة المختلفة ولو غايرت الآخرين . هكذا يمكننا رفض الصمت المفروض على المجانين، وإدانة ولادة “السجون” التي تبرّر الحروب ومكامن التلذّذ بالقمع والقتل عندما تنزاح عن جوهر المعرفة الإنسانية . القوة عندما تتضخّم مع الآخر تلغيه فتفرغ السلطة من معانيها النظيفة، وعنها ينتج الرفض والخضوع والإخضاع والثورات المشوّهة بمعنى السيطرة، لكنّها عندما تتجلّى مصدراً للإحساس والتقويم، تلتمس الاتصال بالآخر ومنها يتولّد عالم من اللغة والمؤسّسات والأساليب “الدبلوماسيّة” في إدارة العلاقات مع الآخرين . وبالمقارنة، لا تظهر القوى الإرهابيّة الطافية في بلادنا، سوى الشيطان بمعناه الفج الذي يظهر بلادنا وكأنّها مرتع أو مستودع للجثث التي تملأ المشاهد والشاشات، عبر القتل والتفجير والتشويه والتعذيب والتخريب المتعمّد والمدروس .
إنّ أقسى ما يقع فيه صاحب منتزع سلطان هو الأعناق وتدفّق العنف في كيانه، وخصوصاً عندما يصطدم بقساوة الرياح المعاصرة التي تبعثر سلّم القيم في عصر الفضاء الخاوي . حتّى الكلمة تصبح مقصلةً وطنية إذ ينعت وزير الصحفيين ب“إنّهم مثل الذباب لا يجتمعون إلا على القاذورات” .
كيف نلمس الحق بعد ؟
ترتبط السلطة، بالمعنى الديني، بالمطلق في مجال البحث عن الحق حيث الدولة دولة الله ومدنه، والحق هو الله ومن أسمائه وهو الكلمة . وقد وردت كلمة حق مع مشتقاتها في الأناجيل 24 مرة، حق، وحقيقة وحقيقي وحقاً ومحق ومستحق واستحقاق ويتحقق، ووردت في القرآن الكريم 227 مرة وحق 11 مرة، ووردت مشتقاتها حقّت، يحقّ، استحق، يتحقق 57 مرة، مع الإشارة إلى عدم ذكر مفردتَي حقيقة أو الحقيقة . جاءت كلّها دلالةً على الله والعدل والتوحيد والصدق . كان يمكننا قراءة العلاقات القوية بين الإلهي والتاريخي في مجال الكلام عن الحق في مستويات الوعي كلّها لا في المسيحية والاسلام، وإنما في اليهودية أيضاً وغيرها من الديانات . فبأي حق يصادر إسلاميو الطفرة الحق الذي يعود أساساً إلى الله الذي يرعى الانسان والكون والمجتمعات؟ تلك سلطات باطلة لا يمكن أن ترتكز على السلطة المطلقة التي غالباً ما تستلهم النصوص المقدسة، ثم إلى التفسيرات الخاصة بالنصوص فتشوّهها أيّما تشويه .
قامت الدول بحثاً عن الحقوق على أسس ثلاثة: الدين حيث انتظارات الإنسان لتجليات هذا الحق، والقوانين المستمدّة من الشرائع حيث فرض الاحترام المتبادل بين الناس، والحاكم الذي يخرج إلى ممارسة النظام ليُصاغ في مبادئ ملكيّة، أو امبراطوريّة، أو جمهوريّة، أو كل أشكال الحكم وأنظمته، بحيث يتحوّل رجل الدين إلى فقيه ملحق بالحاكم فلا يشكّل مرجعيّته - السلطويّة . لكن أن يتجوّل رجل الدين بدينه الخاص من دون ضوابط أو مرجعيات، فيعبر إلى السلطة الفالتة، مدّعياً وصايا “الزعامة السماوية” فإنّما يدخل الحق في أطره النسبيّة والمزاجية الأحادية العنفية التي تخبو أو تتفلّت فتنسف كلّ شيءٍ حتّى تلك النزعات السياسيّة المعقّدة في أصول أنظمة الحكم . عندئذٍ تكبر المعضلة في المركزية عندما تتشظّى الفرق فتضم تحت أثوابها سلطات العرق والزمان والمكان والاجتماع والمدن ووسائل الاعلام وأنظمة المجتمعات وانهياراتها لصالح مبادئ مستوردة في رأسها حرية الانسان في نظراته الجديدة والمختلفة إلى السلطة . هكذا تهتزّ المؤسسات العائليّة والتربوية والدينية والوزارات والهيئات والأجهزة التي تمثّل الناس، إلى جانب مؤسّسات التشريع والقانون والاتحادات والنقابات والمنظمات المهنيّة والجامعات والهيئات الأكاديميّة، ومؤسّسات الأبحاث وحتّى المؤسسات العسكرية وكل ما له علاقة بشؤون تنظيم المجتمع . تنتفي السلطة وفق هذه المقولة الحرّة في انفلاش مفاهيمها وممارساتها الوحشية على المؤسسات والناس وتصبح موضع بحث تحت قبعة رجل السلطة أو صولجانه بل في حقول القوة المشاعية التي تحكم الكون، فتقتل فيه الحياة، وتلوّث النصوص والاجتهادات والممارسات التي تربط بين النظام وكيفية التعبير عنه . هنا تصل الشعوب إلى فقدان السيادة .
وأتصوّر بأنّ السيادة هي المسألة التي ستشغل مستقبل العرب لوقتٍ طويل . كلّنا يطالب اليوم بالسيادة التي تعني انتساب إلى جملة من العقائد والرموز ويكرّس نفسه في خدمتها، بينما السلطة التي أصبحت السلطات بالجمع هي مظاهر مبعثرة بالنسبة للناس عندما تدّعي استنادها إلى السيادة العليا في منح شرعية التخريب . فالإجبار والقسر والخضوع في اندماج مع الحرية والرفض والخيار تولد الانتساب الفوضوي العفوي، أو الخضوع الإجباري المكره، الذي يقود غالباً إلى التمرّد والثورات والفوضى المتمادية في مجتمعاتنا . غابت الجدلية بين السيادة والسلطة، وإذ تضعف السيادة تقوى السلطة وما إن تضعف سلطة الدولة، وتنهار حتى تقوى السيادة العليا التي تتشوّه بتشوّهات السلطة .
لماذا؟
لأنّ السيادة شريان يربط بين أعضاء جماعة بشريّة في هوية معيّنة تحفظ تراثاً بأكمله، وتفتح أبواب المستقبل كونها قوة لإثارة الحياة والروح العاملة لتحرير الوضع الوطني ودوام تفتحه، بينما السلطة تؤخذ وتضيع وقد تضيّع معها السيادة .
فليشرح لنا الإخوان ومشوّهو كلمة السماء عن مستقبل العرب في تآكلات السلطة والسيادة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2166101

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2166101 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 17


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010