الثلاثاء 10 حزيران (يونيو) 2014

الأفول الخطر للقوة العظمى الأمريكية

الثلاثاء 10 حزيران (يونيو) 2014 par غسان العزي

في الجيوبوليتيك، كما في الفيزياء، تكره الطبيعة الفراغ . والفراغ في قمرة قيادة النظام الدولي ليس خبراً جيداً بالضرورة لحسن انتظام العلاقات الدولية . لذلك فإن أفول القوة الأمريكية العظمى، بحد ذاته، ليس شيئاً جيداً للنظام الدولي ما لم تحل محلها مجموعة من الدول أو منظمة دولية كالأمم المتحدة في رأس هذا النظام .
والأفول الأمريكي الراهن ناتج عن عوامل ثلاثة مختلفة . هناك أولاً تصدع العلاقة ما بين مؤسستي الرئاسة والكونغرس، حيث باتت تسيطر الذهنية الحزبية الضيقة على الثقافة التقليدية للتوافق الباحث عن المصلحة المشتركة للأمة . هناك تالياً إرادة شعبية عامة أضحت تفضل العزلة والانطواء بسبب الإخفاقات المتكررة للحملات العسكرية الخارجية، في العراق وأفغانستان والصومال وليبيا . هناك أخيراً في البيت الأبيض رئيس يسيطر عليه التردد والعجز عن اتخاذ القرار في السياسة الخارجية .
والحقيقة أن المراقبين اعتادوا النقاشات الدستورية الحامية والنزعات الانعزالية التي تعود من وقت الى آخر لتسيطر على الرأي العام . ولكن ما لم يعتادوه قط هو العجز عن اتخاذ القرار في قمة هرم الدولة . فأوباما رجل يحب الكلام والنقاش الى درجة أنه يبدو أقرب ما يكون الى أستاذ جامعي ناجح منه الى مخطط استراتيجي بالمعنى الإغريقي للكلمة . إنه يعاني الصعوبة والتردد قبل اتخاذ القرار والتمسك به بعد اتخاذه . فبعد فوزه في الانتخابات الرئاسية، في نوفمبر/تشرين الثاني ،2008 أعلن عن لائحة أولوياته في السياسة الخارجية، وفي طليعتها التوصل الى حل للصراع الفلسطيني-“الإسرائيلي” الذي يعتبره كثير من الغربيين شوكة سامة في خاصرة الغرب . وقال إنه يعطي لنفسه عاماً واحداً لتحقيق هذه الغاية . وبالفعل قام بخطوات في هذا السبيل منها دعوة الرئيس محمود عباس الى البيت الأبيض ثم لاحقاً تعيين الدبلوماسي المخضرم جورج ميتشيل مبعوثاً خاصاً للسلام، ناهيك عن خطابات انفتاحية على العرب والمسلمين، من أنقرة إلى القاهرة مروراً بطهران . . . الخ . لكن لا يمكن إلا أن نلاحظ، بعد انقضاء سنوات ست طوال، أن الأمور لا تزال تقريباً في المربع الأول ولسبب يعرفه الجميع هو عجز أوباما عن مقاومة ضغوط نتنياهو .
لقد أضحت واشنطن المرجعية الوحيدة في الشرق الأوسط بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبعد أن تمكنت من تشكيل الائتلاف العسكري الأكبر في التاريخ لتحرير الكويت . وقتها تعذر على الفلسطينيين و“الإسرائيليين” تجاوزها بعدما توصلوا الى اتفاق (أوسلو) تفاوضوا عليه سراً برعاية النروج . لقد تم الاحتفال بتوقيع هذا الاتفاق، في 31 سبتمبر/أيلول 1993 في حديقة البيت الأبيض وبرعاية الرئيس الأمريكي كلينتون . أما اليوم فلم يعد أحد يأبه لهذه الدبلوماسية حتى أقرب حلفاء واشنطن، بل إن هؤلاء باتوا يوجهون الانتقادات العنيفة إليها بشكل علني . وأبلغ مثال على ذلك الانتقادات السعودية والمصرية والتركية و“الإسرائيلية” للدبلوماسية الأمريكية والخلافات الحادة معها مؤخراً .
في آسيا يمكن ملاحظة الأفول الأمريكي حيث يلمع نجم الصين بلا منازع تقريباً . وما استراتيجية الاستدارة نحو آسيا التي تبنتها إدارة أوباما إلا لاستباق تغييرات جذرية في النظام الدولي الذي ستحتل فيه المنطقة الآسيوية لجهة المحيط الهادئ مركز الثقل في المستقبل القريب .
في أوروبا يبقى المشروع الأطلسي للتبادل-الحر من دون تقدم يذكر، رغم كل الرهانات الأوروبية عليه، بسبب تردد أوباما الذي لايبدو شديد الحماس لتطوير وتسريع وتيرة وضع هذا المشروع الطموح على سكة التنفيذ .
في المضمار المالي نجد الخمول الأمريكي نفسه حيث تأنف واشنطن تطبيق قواعد وضعتها هي بنفسها مثل بروتوكول “بال-3” الذي يجبر المصارف على زيادة موجوداتها من السيولة لتغطية القروض التي توافق على تقديمها . وهذا البروتوكول يهدف، كما هو واضح، الى عدم تكرار الأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة قبل أن تنتقل الى أوروبا والعالم أجمع، ولايزال الاقتصاد الدولي يتخبط في حبائلها إلى اليوم .
هذا الأفول الأمريكي ليس خطراً بحد ذاته على الآخرين، بل ربما يستفيد منه بعضهم . لكن دولاً وحكومات كثيرة، في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا تطالب بالزعامة الأمريكية وبالمزيد منها، وذلك لأسباب متنوعة أمنية ونفسية وغيرها . ومن الخطورة بمكان على التوازنات السياسية والاقتصادية أن ينتقل لاعب دولي كبير من القوة الى الضعف في فترة زمنية قصيرة نسبياً . ففي الشرق الأوسط يطالبون واشنطن بأن تتصرف كحكم قادر على فرض احترام قراراته، وفي آسيا يطلبون منها أن تضع حداً لمطالب الصين في معظم جزر بحر الصين، وفي أوروبا يرجونها أن تقوم بإجراءات تحول دون تكرار الأزمة المصرفية في خريف العام 2008 .
إن ضعف أوباما ليس سوى الوجه الآخر لتهور سلفه جورج بوش، فالاثنان يشكلان، كل على طريقته، خطراً على السلم الدولي . ممارسات الهيمنة خطرعلى العالم واستقراره لكن اعتكاف قوة عظمى كالولايات المتحدة عن تحمل مسؤولياتها هو الآخر خطر لأنه يشكل إغراءً لحالمين آخرين بالهيمنة والتسلط في غياب ضمانة جماعية للأمن الدولي . ورغم كل شيء لا تزال الولايات المتحدة أم الثورة الرقمية والمرجعية العالمية الأولى في المجالات العلمية والجامعية والتكنولوجية والعسكرية وغيرها . لكن عدم جرأة أوباما على اتخاذ القرارات الدولية تحقيقاً لأفكاره المعلنة وكتاباته المنشورة، على الأقل، ليس سوى الوجه الآخر لتهور ومبالغة بوش الذي غزا العراق من دون أن يأبه لأحد في العالم، فكانت الكارثة على الجميع ومنهم الولايات المتحدة نفسها . فلا الهيمنة ولا الانعزال ما يريده العالم من واشنطن .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2165872

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

17 من الزوار الآن

2165872 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 12


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010