الأحد 18 أيار (مايو) 2014

فلسطين والتقاء الصهيونية واللاسامية

الأحد 18 أيار (مايو) 2014 par علي جرادات

من أشد مفارقات أوروبا الحديثة التي أسست دولاً قومية صهرت في بوتقة المواطنة مكوناتها العرقية والطائفية والمذهبية بعد احتراب دموي امتد لقرون، وأزهق حياة الملايين من البشر، وخلف دماراً مادياً هائلاً قل نظيره في التاريخ البشري، هي أنها ذاتها، (أوروبا الحديثة)، التي انتجت الحركتين: الصهيونية واللاسامية كظاهرتين أيديولوجيتين سياسيتين جمعتهما- إلى حد كبير- الأهداف، وإن اختلفتا في الدوافع، حيث التقتا عند اعتبار أتباع الديانة اليهودية الموزعين، كأتباع كل ديانة، على مواطنة متعددة القوميات، أمة وجنساً وقومية، وتشاركتا في العمل على قطع سياق اندماجهم في النسيج الوطني لمجتمعاتهم، فكان أن تمخض فكر الحركتين عن اختراع “الشعب اليهودي”، و“صلته التاريخية بأرضه”، وحقه في الهجرة إليها واستيطانها وإقامة “الدولة القومية اليهودية” عليها . وكانت الضحية فلسطين وشعبها الذي يشكل جزءاً من أمة عربية عريقة حالت اتفاقية سايكس-بيكو الاستعمارية التمزيقية للوطن العربي، (وهذه مفارقة أخرى من مفارقات أوروبا الحديثة)، دون نجاحها، (الأمة العربية)، في بناء دولة قومية حديثة .
في الظاهر يتراءى الجمع بين الصهيونية واللاسامية وكأنه افتراء لا مثيل له، لكن شواهد التاريخ الملموسة تؤكد أنه حقيقة لا شك فيها . فالصهيونية واللاسامية لم تتفقا على فكرة إيجاد حل لمجموع التجمعات اليهودية في العالم، أو إيجاد حل لهذا التجمع اليهودي أو ذاك، فحسب، بل اتفقتا- أيضاً- على فكرة جمع اليهود من مختلف أرجاء العالم، و“غرسهم” في فلسطين بالذات . خذوا على سبيل المثال لا الحصر:
في العام 1878 عرض جوزيه إيشتوسي، وهو من أشهر اللاساميين المعادين لليهود، مشروع قرار على البرلمان المجري يدعو فيه إلى تأييد ودعم “إقامة دولة يهودية في فلسطين”، بل وعرض مشروع القرار ذاته في مؤتمر برلين الذي انعقد في الفترة ذاتها، بغرض نقله إلى حيز التنفيذ، وتوسيع جهات ودوائر تأييده ودعمه كمشروع مطروح للتطبيق . ومثل جوزيه إيشتوسي اللاسامي هذا، إنما بعد عقدين من الزمان، نجح ثيودور هيرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل في سويسرا، ،1897 وفي توحيد صفوف المؤتمرين حول الدعوة إلى “إقامة دولة يهودية نموذجية تشكل ملجأ آمناً لليهود”، وفي إنجاح توصية المباشرة في “إقامة هيئات ومؤسسات لإخراج الفكرة إلى حيز التنفيذ في”أرض إسرائيل“، أي فلسطين . ومثل اللاسامي جوزيه إيشتوسي ومؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هيرتزل، إنما بعد عامين على صدور”وعد بلفور“الاستعماري القاضي بإقامة”وطن قومي لليهود في فلسطين“، أعلن حاييم وايزمان في العام ،1919 كرئيس للمنظمة الصهيونية العالمية آنذاك، أمام الاتحاد الصهيوني الإنجليزي:”عندما أقول وطناً قومياً يهودياً فإنني أعني خلق أوضاع تسمح لنا، بأن يدخل إليه العدد الوفير من المهاجرين اليهود، وأن نقيم في نهاية الأمر مجتمعاً في فلسطين بحيث تصبح فلسطين يهودية كما هي إنجلترا إنجليزية أو أمريكا أمريكية“. وعلى خطى مؤسسيْ الحركة الصهيونية، ثيودور هيرتزل وحاييم وايزمان، وقبلهما اللاسامي جوزيه إيشتوسي، أعلن نتنياهو في نهاية إبريل/ نيسان من العام الجاري، ،2014 كرئيس لحكومة المستوطنين الحاكمة في”إسرائيل“عن ضرورة”تجديد القيم الصهيونية“عبر حث”الكنيست“ودعوته إلى سن قانون أساسي”يحصن اعتبار “إسرائيل” دولة لشعب واحد هو الشعب اليهودي“و”يصون صلته التاريخية بأرضه“و”يحفظ حقه في الهجرة إليها" .
هنا لئن كان هدف جمع اليهود من مختلف أنحاء العالم لإقامة “دولة يهودية في فلسطين”، كهدف اتفقت عليه، رغم اختلاف الدوافع، الحركتان الصهيونية واللاسامية كحركتين أوروبيتين عنصريتين أحدثتا ردة فكرية تاريخية على مفهوم المواطنة الحديث، (الأوروبي المنشأ أيضاً)، فإن “وعد بلفور” الاستعماري الغرب أوروبي هو ما مهد لتحويل هذه الردة الفكرية العنصرية إلى حقيقة سياسية بنص يقول: “إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر” . فبهذا النص الملتبس وحمال الأوجه أختُرِع لطائفة دينية يتوزع أتباعها، ككل طائفة دينية، على “مواطنة” متعددة القوميات، مكانة شعب يستحق دولة، بينما أعيدت مكانة شعب قائم وحدت “المواطنة” مكوناته إلى وضعية طوائف تستحق التمتع ب“حقوق مدنية ودينية” ليس إلا .
عليه، لم يكن عجباً أن يمارس قادة “دولة” “إسرائيل”، منذ قيامها وحتى يومنا هذا، الحكم ويقوننوه ويشرعوه على أساس عنصرية أنها “دولة لليهود” فقط من نشيدها إلى قوانينها الأساسية خصوصاً المتعلقة منها بالجنسية والتملك والبناء والتصرف بالأرض . أما لماذا الآن يصر قادتها على انتزاع الاعتراف بها “دولة يهودية”؟ يجيب الصحفي “الإسرائيلي” ديفيد بارزيلاي في مقال له في صحيفة “معاريف” بتاريخ 2-4-2014 بالقول: “كما هو معروف كان التخوف سابقاً أن تقرر الدول بأنه إذا كان لليهود دولة، فيجدر بهم أن يغادروا وينتقلوا للسكن فيها، بل وأن تفرض ذلك عليهم . وتخوف آخر كان أن المحافل المناهضة لليهود ستتهم يهود الشتات، ولا سيما يهود الولايات المتحدة، بالولاء المزدوج . لكن لم يعد واقعياً في القرن ال21 مطالبة اليهود مغادرة بيوتهم في الولايات المتحدة أو في أوروبا لمجرد أن لهم وطناً قومياً في”إسرائيل“، فحتى هجرة المكسيكيين إلى الولايات المتحدة والمسلمين إلى أوروبا لا تجر طلباً بأن يعودوا إلى وطنهم . وبالتأكيد يوجد إجماع على أن مثل هذا الطلب ليس واقعياً” .
خلاصة القول: الظلم التاريخي الذي لحق بفلسطين وشعبها، بل بالوطن العربي وشعوبه قاطبة، لم يكن ليقع إلا بفضل أكثر ظواهر أوروبا الحديثة رجعية وبؤساً: الاستعمار والصهيونية واللاسامية كحركات عنصرية عدوانية التقت أهدافها، وكل منها لدوافعها الخاصة، حول اختراع “الشعب اليهودي” و“أرض الشعب اليهودي”، كما برهن باحثون كثر، منهم الباحث اليهودي الجريء والمتنور، شلومو ساند، في كتابين قيمين يستحقان القراءة والاقتناء .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2180961

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع علي جرادات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

2180961 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 6


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40