هَذَيان أيديولوجي

حين وقف بيريز قبل أعوام أمام الكونغرس وقال إن ما يُقدّمه للفلسطينيين هو مجرد تَنازل باعتباره مُنْتصِراً في الحرب قوبلت عباراته تلك بتصفيق اسْتَمَرّ لمدة تستحق أن تضاف إلى موسوعة “غينيس”، فالسلام كما يراه هو مِنْحة يقدمها الغالبُ للمغلوب وبمعنى آخر ذي دلالةٍ مثيولوجية هو صَدَقة .
وفي كتابه “الشرق الأوسط الجديد” حَاوَل بيريز أن يقدم يُوتوبيا لهذه المنطقة . بعد أن تصبح دولته في القلب منها، وثمة رأي يقول إن المجازر تنسب إلى الليكود والحقيقة أن حصة حِزْب العمل منها هي الأكبر، وبيريز نفسه ودّع رئاسة الوزراء ذات يوم بمجزرة قانا وإقرار عدد من المستوطنات في القدس وما حولها .
وبالرغم من هذا كله ثَمّة مَنْ هُمْ أكثر تَطرّفاً، وَيَرَوْنَ في مواقف بيريز بعد أن أصبح رئيساً للدولة تَفْريطاً بمصالح الدولة العِبْريّة وأمْنها ومستقبلها، ويَصفه الكاتب حاييم شاين بالرئيس الحالِم، الذي لا يدرك الواقع كما هو، ذلك لأن بيريز كما يقول لا يكفّ عن التبشير بالسّلام في الأوساط الدّولية .
والمطلوب منه هو أن يقف إلى جوار نتنياهو في الخندق ذاته . .
إذا كان كل ما صَدَرَ عن بيريز وَكُل ما تميزت به سيرته السياسية بدءاً من عَقْد أول اتفاق حول التسلح النّووي لا يعجب كاتباً من هذا الطراز فمعنى ذلك أن هناك نموذجاً يجب القياس عليه وهذا النموذج ليس بن غوريون أو حتى إسحق شامير، إنه نموذج فكري وعقائدي يعيش في الخيال السياسي فقط! بل في أقصى زاوية منه . هذا المنطق يواصل رفض الاعتراف بالأمر الواقع . وكأن الزمن محكوم بأن تجره وتضبط إيقاعه دبّابة .
ويسخر الكاتب من اقتسام بيريز مع ياسر عرفات جائزة نوبل للسلام، ثم يضيف إليهما أوباما الذي خَيب الظنون والرهانات كما يقول .
المطلوب وفق هذا النموذج هو شَبَحٌ تتجسد فيه الخرافات، والأوهام الأيديولوجية، لأنه ما إن يصبح بَشَراً حتى يجد نفسه مضطراً للتعامل مع الواقع الحيّ والرّضوخ لشروطه، لكن الأشباح في ضوء هذا الفهم المُنْقَطع عن التاريخ تُحَلّق خارج مدار جاذبية الواقع والتاريخ وَيَتنامى لَدَيْها الوهم بمرور الوقت أن الزمن قد توقف عند اللحظة التي تَخُصها والتي لا تَقْبل أي استئناف أو تَغْيير .
هذا النمط من الهذيان لا يندرج في خانة السيّاسة وَعِلْمها، لهذا تتعذر محاورته وكل ما يمكن عمله في هذا السيّاق هو التنْبيه إلى التّسلل الأسطوري نحو التاريخ بهدف تَدْجينه وَتَحْوِيلِه إلى تقاويم صهيونية خالصة .