الجمعة 16 أيار (مايو) 2014

وتبقى العودةُ حقاً مقدساَ !!

الجمعة 16 أيار (مايو) 2014 par محمود كعوش

لا شك أن استذكاراً سريعاً لشريط الأحداث التاريخية المفجعة التي عصفت بالوطن العربي خلال العقود الستة الأخيرة يدلل على أن الأمة العربية قد مُنيت بمسلسل طويل ومتواصل الحلقات من النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن، مما جعل البعض يتصور أنه قَدِّرَ لهذه الأمة التي كانت خير أمة اخرجت للناس أن تظل رفيقاً ملازماً للنحس ونذير الشؤم، وأن تنتقل من نكبة إلى نكسة فهزيمة فكارثة فمحنة. وإذا ما تعمقنا في الاستذكار لدرجة بلوغ الأحداث الكبيرة التي شهدها العالم على مدار التاريخ، فإننا ندرك أن كثيراً من أمم الأرض تعرضت هي الأخرى في أوقات استثنائية ومتباعدة إلى نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن مماثلة، أو ربما أشد وطأة وأكثر إيلاماً في أحيان عديدة. والمفارقة العجيبة أنه في حين تغلبت تلك الأمم على جميع تأثيرات ونتائج وتداعيات نكباتها ونكساتها وهزائمها وكوارثها ومحنها ونجحت في استعادة زمام المبادرة من خلال إيقاظ أحاسيسها ومشاعرها الوطنية وأحياناً الدينية ومن خلال شحذ وتنشيط قدراتها وإمكاناتها والنهوض بها مجدداً وأجراء مراجعات شاملة لمكامن ضعفها وقوتها، فإن شيئاً مغايراً ومعاكساً تماماً حصل مع الأمة العربية.
فالأمة العربية التي عُرفت بعظمة تاريخها وحضارتها وثقافتها ومكانتها الدينية والدنيوية وموقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة، بدل أن تستوعب الدرس وتستلهم العبر من تلك الأمم وتتمثل بها وبما فعلت وتحذو حذوها في إصلاح أوضاعها وأوضاع أبنائها طلباً للنجاة، رأيناها وللأسف تألف الاستكانة والهوان وتحتفظ لنفسها بالضعف والوهن وتستسلم لمقاديرها، وكأن النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن استوطنت في داخلها وأصبحت جزءاً مكملاً وضرورياً لكيانها ونسيجها الحياتي، وبالأخص في القرن الماضي والعقد الأول من القرن الجاري.
لا يختلف عربيان حول حقيقة أن نكبة عام 1948 في فلسطين العروبة والرباط والعزة والكرامة والمجد والإباء والتي يُحيي القوميون والوطنيون العرب ذكراها السادسة والستين هذه الأيام بكثير من الحزن والألم المتقاطعين مع التفاؤل والأمل، كانت ولم تزل هي النكبة الكبرى وأم النكبات والنكسات والهزائم والكوارث والمحن التي تعرض لها الوطن العربي على مدار تاريخه القديم والحديث. ولا أعتقد أنهما يختلفان حول حقيقة أنه لو أحسنت الأمة العربية التعامل مع الظروف الموضوعية والإيجابية والفرص الذهبية التي توفرت لها في أوقات كثيرة سابقة، لقدر لها، بالاعتماد على القانون الدولي والأعراف والعقل والمنطق والانتماءين الوطني والقومي، أن تحول هذه النكبة إلى “مرجل” يحرك فيها مواضع قوتها وإمكاناتها ومداركها، وإلى “مِهماز” يشحذ فيها الإرادة ويُحفز في نفوس أبنائها النخوة والعزة والكرامة، لتعد العدة اللازمة والضرورية وتستأنف من جديد معركتها الفاصلة مع العدو المغتصب للأرض والمتمادي في عدوانه، والتي بموجبها، وبموجبها وحدها فقط، تستعيد الحق الذي طال انتظاره كثيراً.
لكن من سوء طالع الأمة العربية أنها من حيث درت أو أريد لها أن لا تدري قسراً لا طواعية، غلّبت فيها النزعات القُطرية الخاصة على التوجهات القومية العامة وحصرت نفسها في قوقعة النهج الشمولي وزجت بنفسها مجبرة لا مختارة في آتون الخصومات والنزاعات الحزبية والعقائدية والطائفية والمذهبية والعرقية والقبلية، فأسقطت نفسها في متاهات ومخاطر الانقسام والتجزئة والتفتت. وهي بذلك قدمت للكيان الصهيوني الفرصة التي لم يكن يحلم بها في وقت من الأوقات، فجاء عدوانه الإجرامي في الخامس من حزيران عام 1967 والذي تمكن بموجب نتائجه المأساوية من توسيع رقعة احتلاله لتشمل ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية وأراض عربية أخرى من مصر وسوريا وخليج العقبة الأردني وحتى الخليج العربي. وبنتيجة ذلك العدوان وقع المحظور من جديد واتسعت رقعة النكبة لتشمل جزءاً من المصريين والسوريين والأردنيين والخليجيين، إلى جانب كل الفلسطينيين.
وفي محاولة منه للتقليل من وطأة الهزيمة التي مُنيت بها الأمة نتيجة ذلك العدوان والتأثيرات والنتائج والتداعيات التي كان من الممكن أن تترتب عليها لو أن العرب غلبوا روح الهزيمة على الرغبة في النصر واستسلموا لليأس والقنوط، اختار لها القائد العربي الراحل جمال عبد الناصر تسمية “النكسة”. لكن الحق يُقال أن الأمة العربية من محيطها إلى خليجها لم تتعظ من أحداث التاريخ ولم تستخلص الدروس والعبر كما يجب. فهي بدل أن تعيد النظر في نهجها الشمولي وسياساتها المحنطة وتستجيب لمتطلبات المصلحة الوطنية والقومية المشتركة، تمسكت بذلك النهج المتهالك وتلك السياسات الفاشلة ومضت في ثرثراتها المعهودة، مما زاد من طمع الكيان الصهيوني بها وأجج غريزته العدوانية فقام بغزو واحتلال جنوب لبنان في عام 1978 بذريعة إبعاد المقاومة الفلسطينية عن حدود فلسطين المحتلة الشمالية، ثم عاد وغزا لبنان مجدداً في عام 1982 وصولا إلى عاصمته بيروت التي استبسل أهلها ودافعوا عنها دفاع الأبطال وظلوا يقاومون وحدهم وبدون نجدة “المعتصم” إلى أن كان لهم ما أرادوا وتمكنوا بواسطة المقاومة اللبنانية الباسلة من دحر الاحتلال الغاشم بشكل نهائي في عام 2000 دون أن يمكنوه من تحقيق أي من أهدافه السياسية المعلنة وغير المعلنة.
ومن هناك انبثقت آمال أنبأت بقرب حدوث نهوض عربي جديد لم تمكنه إدارة المحافظين الجدد السابقة في واشنطن من بلورة نفسه واستكمال دورة نموه بعدما فاجأت الأمة العربية في عام 2003 بضربة قاسية ومؤلمة تمثلت بجريمة غزو واحتلال العراق والسعي الحثيث لتفتيته وتقسيمه وتهجينه في سياق تهجين عربي شامل، ظناً منها أنها بذلك ستتمكن من كتابة نهاية الأمة. لكن خاب فأل تلك الإدارة الحمقاء عندما هيأت لها عنجهيتها أنها ستكون قادرة على فرض شرق أوسط جديد يحظى بديمقراطية “الفوضى الأميركية الهدامة” ويكون الكيان الصهيوني العنصري محوره الرئيسي، على حساب إلغاء الوطن العربي وجامعته العربية وكل ما تبقى للعرب الأصيلين من مظاهر تبعث على الأمل باحتمال تحقيق وحدتهم أو اتحادهم أو حتى تضامنهم أو ترمز إليهم. فالآمال ما لبثت أن انبثقت من جديد من رحم المعاناة العربية عندما نجحت المقاومة في لبنان في إنزال هزيمة نكراء بالكيان الصهيوني في صيف 2006، وهو ما اعترف به بيان لجنة “فينوغراد” الصهيونية بشكل واضح وصريح، لتضاف تلك الآمال إلى آمال كثيرة وعريضة سبق أن انبثقت وتبلورت في كل من فلسطين والعراق تجسدت بتصدي المقاومة في البلدين للمشروع الاستعماري والاستيطاني الأميركي – الصهيوني المشترك. وتضاعفت تلك الأمال مع فشل هذا الكيان الغاصب في حروبه الإجرامية المتواصلة التي شنها ضد قطاع غزة الفلسطيني بعد ذلك العام.
صحيح أن نكبة عام 1948 في فلسطين قد فرخت نكبات ونكسات وهزائم وكوارث ومحن على امتداد ما يزيد على ستة عقود، كان أبلغها وأشدها وجعاً وإيلاماً جريمة اقتتال إخوة الوطن واللغة والمبادئ والسلاح والمصير المشترك التي كان قطاع غزة الفلسطيني مسرحاً دموياً لها والتي أدت بأسبابها ونتائجها وأهدافها إلى تباعد عميق بين الضفة الغربية والقطاع، نرجو أن تكون قد كُتبت خاتمته بالإتفاق الأخير الذي تم توقيعه بين سلطتي رام الله وغزة. والصحيح كذلك وهو الأهم أننا نستقبل الذكرى السادسة والستين للنكبة العربية الكبرى هذا العام ونحن نستشعر كل هذه الآمال ونحس بهذا القدر الكبير من التفاؤل والاطمئنان، لرؤيتنا وتلمسنا رياح التغيير الإيجابية التي بدأت تهب على الوطن العربي، ولمعرفتنا الصادقة والواثقة بأن النكبة التي حلت بفلسطين عام 1948 ستظل فعلاً حاضراً في وجدان الأمة وستظل العودة حقاً مقدساً بالنسبة لجميع الفلسطينيين إلى أن تحين ساعة الانتصار والتحرير وإعلان الاستقلال الوطني وتأكيد الانتماء القومي. فلا يحسبن أحد في الكون كله أن حق العودة سيغدو في يوم من الأيام ضميراً غائباً. ولربما أننا نستشعر كل هذه الآمال العريضة لثقتنا بأمتنا وبأنفسنا، ولقناعتنا بأنه لن يضيع حق وراءه مطالب. فكيف إذا كان هذا المُطالب مُقاوماً مرابطاً في الأرض المباركة يتحدى جبروت وبشاعة الاحتلال!!؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 21 / 2165259

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

20 من الزوار الآن

2165259 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010