الأحد 11 أيار (مايو) 2014

كيف ستعامل «إسرائيل» البطريرك الراعي؟

الأحد 11 أيار (مايو) 2014 par د. عصام نعمان

لبنان بلد الألف مشكلة ومشكلة. مشكلته الأولى بعد الألف انطرحت، حتى لا أقول انفجرت، مع إعلان الكاردينال بشارة الراعي، بطريرك المسيحيين الموارنة في لبنان وسائر المشرق، اعتزامه زيارة القدس وبيت لحم، مهد السيد المسيح عليه السلام، بالتزامن مع زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس إلى فلسطين المحتلة خلال الأيام العشرة الأخيرة من الشهر الجاري.

انقسم اللبنانيون وبعض العرب أيضاً بين مؤيد للزيارة وشاجب لها. الراعي استغرب الحملة المناهضة للزيارة وردَّ عليها بصراحة وصرامة: «أنا ذاهب إلى الأراضي المقدسة ليس لتكريس الاحتلال إنما لأقول هذه أرضنا. أنا ذاهب إلى أورشليم القدس التي هي مدينة لنا والتي تقولون إنكم تريدونها. أنا ذاهب إليها لئلا تتكرّس لليهود. أنتم تريدون القضية الفلسطينية، وأنا ذاهب لأقول للفلسطينيين نحن معكم وإلى جانبكم. أما أبناء كنيستنا فنحن أدرى بقضيتهم. ألا تريدون الحفاظ على أرضنا المقدسة وعدم تهويدها؟ نحن سنذهب لنقول هذه أرضنا والقدس مدينتنا. كفى مزايدات: هذا عيب».

ما من أحد كان يزايد على البطريرك. لكن البعض كان يخشى من تداعيات الزيارة على القضية الفلسطينية وأصحابها. البعض الآخر كان يخشى على البطريرك نفسه من «إسرائيل».

الفريق الأول ناشد الراعي بلسان الرئيس سليم الحص «العزوف عن الزيارة لأنها غير مناسبة وفي غير محلها، ولأنّ «الشكل في زيارة كهذه غالباً ما يطغى على المضمون … إننا حريصون على مقام البطريركية وعلى ألاّ تسجّل سابقة خطيرة بتاريخ سيد بكركي سبّبتها زيارة تجري تحت سيطرة الاحتلال «الإسرائيلي»، مما يوحي بأنّ رأس الكنيسة في لبنان يضفي شرعية على سلطة الاحتلال، مع ما يلازم ذلك من إيحاء بكسر المقاطعة مع العدو الإسرائيلي وتمهيد الطريق نحو التطبيع الذي يطمح إليه الكيان الصهيوني، ونحن على يقين من أنّ غبطته لا يقبل بذلك».

الفريق الثاني أبدى خشيته من أن تُعِدَّ «إسرائيل» فخاً ليقع فيه البطريرك. لماذا؟ لأنّ المسؤولين الصهاينة واثقون من التزامه قضية فلسطين ورفضه القاطع تهويد الوطن المغتصب، وهم سمعوا جيداً ما قاله في هذا الصدد وما يعتزم قوله ضدّ الممارسة الصهيونية أثناء زيارته، فهل يُعقل أن يسمحوا له باستغلال الزيارة ليكيل لـِ»إسرائيل» انتقادات هي بغنى عنها؟

ويستغرب هذا الفريق قول بعض مساعدي البطريرك إنه لن يقابل أي مسؤول «إسرائيلي» وأنّ زيارته ستكون محض رعوية، فيما يقول بعضهم الآخر إنه لن يتوانى عن انتقاد السياسة« الإسرائيلية» أثناء مخاطبته لأبناء رعيته الموارنة. يتساءلون: هل أعطى المسؤولون «الإسرائيليون» ضمانات بأنهم لن يتعرّضوا له بسوء، وإذا كانوا فعلوا فهل يصدقهم؟ وإذا كان يعتزم تفويت عليهم فرصة التعرّض له بالامتناع عن توجيه أي انتقاد لـ»إسرائيل»، فهل يبقى للزيارة من فائدة وطنية؟ وإذا كانت الغاية منها رعوية فحسب، أفليس بالإمكان تحقيق الغاية المتوخاة بأسلوب آخر أقلّ إحراجاً للبطريرك وللمسيحيين في لبنان وفلسطين وسائر المشرق؟

إلى ذلك، حرص منتقدو الزيارة، مسيحيين ومسلمين، على تذكير البطريرك بأنّ سلفه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير حرص على عدم مرافقة البابا يوحنا بولس الثاني عند زيارته فلسطين المحتلة، وأنه فعل ذلك التزاماً منه بمواقف سياسية مضادة للتطبيع مع «إسرائيل»، وأنّ البابا شنودة، رأس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر، حرّم على رعيته زيارة القدس في ظلّ الاحتلال حتى بعد قيام الرئيس أنور السادات بتوقيع معاهدة الصلح مع الكيان الصهيوني.

لم يتوانَ مؤيدو زيارة البابا عن الردّ على هذه الدفوع والتحفظات. لكن البطريرك الراعي يبقى شخصياً المسؤول المعني باتخاذ قرار الإصرار على الزيارة أو إعادة النظر بها. ولعلّ البطريرك يشعر بأنّ قراره يتوقف على الصفة العامة التي يريدها لنفسه: هل هو مرجع ديني أعلى فحسب للمسيحيين الموارنة في لبنان وسائر المشرق، أم هو أيضاً مرجعية وطنية لها مواقف سياسية من القضايا العامة التي تهمّ المسحيين كما المسلمين في لبنان وعالم العرب؟

إذا كان البطريرك يعتبر نفسه مرجعاً دينياً فقط، فبإمكانه أن يتصرف في ضوء واجباته الرعوية على أن يأخذ في الاعتبار، بطبيعة الحال، تداعيات مبادراته الرعوية على شخصه وكنيسته كونه مواطناً في دولة ما زالت في حالة حرب مع «إسرائيل».

أما إذا كان البطريرك الراعي يعتبر بكركي، كما هي في الواقع، مرجعية وطنية لها مواقف ومبادرات بشأن قضايا عامة تخصّ المسلمين كما المسيحيين، فالأفضل أن يعزف عن زيارة فلسطين المحتلة لسببين:

الأول فلسطيني، ذلك أن «إسرائيل» تحاول دائماً الإيقاع بين المسلمين والمسيحيين في الوطن المغتصب، وآخر مكائدها في هذا المجال محاولة تجنيد مسيحيّي فلسطين 1948. ولا شك في أنّ زيارة البطريرك الراعي لفلسطين المحتلة في هذا الظرف العصيب ستوحي بأنها تتمّ في سياق عملية تطبيع، وبالتالي تشجيع المسيحيين على تقبّل مسألة تجنيدهم في الجيش «الإسرائيلي».

الثاني لبناني، ذلك أنّ لبنان غارق حالياً في أزمات مشكلات سياسية واجتماعية وأمنية، ما يتطلّب مبادرات جادة لترميم الوحدة الوطنية، والتوافق على رئيس جمهورية جديد، وقانون ديمقراطي للانتخابات، وحلول مقبولة للقضايا الاجتماعية العالقة، واستراتيجية متكاملة للدفاع الوطني. ولا شك في أنّ زيارة البطريرك لفلسطين المحتلة في هذه الظروف ستقابَل بردود فعل سلبية بين غالبية اللبنانيين، ولا سيما المسلمين، في وقت ينتظر الجميع مبادرات وطنية من البطريرك الماروني الذي هو بغنى عن أي انتقاص لهيبته في ذروة الأزمات والمشكلات التي تعصف بالبلاد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 30 / 2165664

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع عصام نعمان   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

2165664 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 24


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010