الخميس 8 أيار (مايو) 2014

الزيارة “المشتعلة” بين فلسطين و”إسرائيل”

الخميس 8 أيار (مايو) 2014 par نسيم الخوري

عندما نضج الحبر بين أصابعنا أوصانا أبي: إيّاكم وكتابة “إسرائيل” باللغة العربية . سمعنا الوصية . عملنا بموجبها، وتابعنا نكتب مثل آبائنا: فلسطين . كانت “إسرائيل” من المحرّمات . يكفي تصفّح نصوص العروبة القديمة لتأكيد هذا التحريم . وفي حقبة معاصرة من التاريخ المهادن لسياسات بعض العرب، راحت الأقلام تنصاع بكتابتها لتسمّيها “فلسطين المحتلّة” أو “العدو الإسرائيلي” أو “المغتصب الإسرائيلي” أو تضعها في مرحلة متقدّمة من الانحدار هكذا بين قوسين: “إسرائيل” . بعد كامب ديفيد وسفارتها في القاهرة ثمّ غزوها لبيروت، سقط هذا التحريم اللغوي وانسحب نوعاً ما على الأقفاص النفسية والسياسية، وسقطت معه بعض الصفات السلبيّة التي كان ينعت بها العدو “الإسرائيلي” . بتنا نقرأها في نصوص كثيرة من دون القوسين ولربّما نجدها بعبارة دولة “إسرائيل” كباقي الدول، لتتحوّل المرحلة الحالية إلى “الدولة اليهودية” عنواناً خطيراً في زمن التفتيت وتلويحات السلام المستحيل لكنّه الموشّى بدماء العرب والمسلمين وإستراتيجيات التطبيع والتنازلات .
لماذا هذه المقدّمة؟ لسببين أو لنوعين من “الاشتعال” السياسي متشابهين:
1- “الاشتعال” الأوّل يرجعنا إلى بدايات هذا العام في الكلام المنسوب إلى البابا فرنسيس الأوّل حول نكرانه الخطيئة أو الذنوب والعقاب أو جهنم والجنة أو قصة آدم وحواء وغيرها من القضايا التي أثارها أوجينيو سكالفاري أحد المثقفين الإيطاليين البارزين بعد لقائه رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم .
من يقرأ نصّ المقابلة التي جاءت بعنوان: “ثورة فرنسيس، لقد ألغى الخطيئة رسمياً” وبعض التعليقات التي نشرت حولها يدهش إلى نوعين من الاشتعال الفكري حصلا في العالم: الأوّل نجده في بعض ردود الفعل السلبية على المقابلة التي وصلت إلى حدود وصم ما ورد فيها بالتجديف ْفٌَفك مٌ، والثاني نجده في النصوص الإيجابية التي هضمت ما ورد في المقابلة، لكنّ الفاتيكان الرسمي أطفأ الاشتعالات يومها عندما اعتبر أنّ ما نشره الكاتب الإيطالي هو نوع من “الاستنتاج الشخصي والمحرّف” لكلام البابا .
ولقد أعلن البابا فرنسيس الأوّل، بعد وقع كلامه المحرّف وهدأة الحبر، أنّه سيقوم بزيارة الأراضي المقدسة في 24 و26 مايو/ أيار وتحديداً إلى عمان وبيت لحم والقدس، ومنح لهذه الزيارة عنواناً لافتاً هو: “المحبّة نواجه التطرّف” . قد يجوز الربط والتفكير ولو للحظة بين ما أورثه كلام البابا ومعنى إعلانه بعد ذلك مباشرة عن موعد الزيارة . ويستأهل عنوان زيارته البحث عن آليات مواجهة المتطرّفين بالمحبة تذكيراً بمقولة “من ضربك على خدّك الأيمن فدر له الأيسر”، لكنّ الزيارة كانت لا تتجاوز زيارة الحج التقليدية التي يقوم بها باباوات الفاتيكان مرّة واحدة إلى فلسطين .
إلى فلسطين؟
نعم إلى دولة فلسطين كما لفظها فرانسيس الأوّل في فبراير/ شباط 2013 . وليس إلى “إسرائيل” أو إلى فلسطين المحتلّة أو غيرها من التسميات . كان البابا الأوّل في تاريخ الكرسي الرسولي الذي قالها جهاراً بعد اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين كدولة مراقب غير عضو في المنظمة الدولية، بعدما دعا بعمق إلى ترسيخ الحوار مع المسلمين . وخلافًا للقانون الكنسي والتقليد، قام البابا بغسل الأرجل لدزينة من الأشخاص وتقبيلها وبين هؤلاء اثنان من المسلمين . وهذه لمحة عالية القيمة والمعاني من بابا رومية لا تمنع من الإشارة أيضاً بأنّ له، منذ كان رئيساً للأساقفة، علاقات وثيقة جدّاً مع اليهود في الأرجنتين، وقد يكون البابا الأوّل الذي حضر علناً صلوات يهودية في كنيس بيونس آيرس في العام ،2007 لكنّ الخلفية التقشّفية لشخصيته التي تظهّرت تباعاً منذ 13 مارس/ آذار 2012 جعلته رمزاً بارزاً في التيار الإصلاحي للكنيسة التي لا يريدها سوى “كنائس فقيرة، وتدافع عن الفقراء والسلام في عالم تتقاذفه الحروب والمآسي”، كما قال .
2- “الاشتعال” الثاني يشهده لبنان الرسمي والشعبي فور الإعلان المفاجئ عن زيارة يقوم بها بشارة الراعي رأس الكنيسة المارونية إلى فلسطين، عفواً إلى “إسرائيل” المرتاحة والتي نشهدها تعمّم بؤساً وتهجيراً وخراباً وتطبيعات خفيّة على عواصم العرب الكثيرة الرازحة تحت تداعيات نزف “الثورات العربيّة” التي نضعها كما “إسرائيل” بين قوسين في هذا الزمن الثقيل من تاريخ المنطقة العربيّة . هناك في فلسطين رعيّة مارونية ولهم بطريركية في القدس أسّست في جبل الكرمل بمحاذاة برج داوود آوت الموارنة الذين فرّوا من لبنان إثر المذابح الطائفية في العام ،1860 وهناك راعٍ هو البطريرك اللبناني بشارة الراعي منخرط في عضوية مجامع الفاتيكان وهو ما لم يصله كاردينال مشرقي قبله، لكنّ الزيارة لزمانها ومكانها تبدو تخطف من شخصها البريق العربي إذ تجعله مثار أخذ وردّ .
هذا “الاشتعال” نراه نامياً ويستقطب انتباه اللبنانيين والعرب بعدما كان منصبّاً على الإستحقاق الرئاسي المحكوم بالفراغ، ليتحوّل الانقسام حول الزيارة سواء أجاءت برفقة البابا أو بهدف استقباله على رأس رعيّته من الطائفة المارونية في “إسرائيل” . صحيح أنّ مسألةً مستقبل مسيحيي الشرق قد برزت إلى العلن وامتشقها البطريرك الراعي في تطوافه الملحوظ في أعقاب النكبات التي أصيب ويصاب بها هؤلاء في العراق وسوريا وصلت إلى حدّ خطف مطرانين في سوريا اختفيا وكأنّ الأرض انشقّت وبلعتهما . وصحيح أنّ المسألة تنعكس على مسيحيي الشرق ولبنان في شكلين: إمّا الهجرة وإدارة الظهر للعروبة والنهضة والمقاومة والشرق وإمّا التصلّب في النبرة المسيحية في بلدٍ مشحون طائفياً إلى حدود انقطاع الوتر الوطني، ولكنّ الصحيح أيضاً وأيضاً أنّ ما يحصل في سوريا والعراق ولبنان يحصل أيضاً مع جميع المواطنين من الطوائف والمذاهب المختلفة المتنازعة المحكومة كلّها بالتفتيت والتراجع والانحطاط . قد يكون بعض اللبنانيين المسيحيين قد نسوا في تهامسهم وارتفاع نبراتهم المذهبية إلى حدود المغالاة المقولة التاريخية التي نقشها أجدادنا في الرؤوس التي تقول: المسيحيون هم أوّل من يفترض أن يعادي “إسرائيل” ويقاتلها قبل كلّ العرب والمسلمين وهم آخر من يوقّع معها الصلح بعد كلّ العرب والمسلمين . لا نغالي إن قلنا بأنّ لبنان غارق بين “اشتعالين” واحد يرى في الزيارة كسراً للحصار واحتضاناً للقدس وطعناً للتهويد وتحدّياً ل“إسرائيل” في عقر دارها وكشحاً للتطبيع، وواحد رافض وممتعض وحسّاس وحريص على بقايا المسيحيين ووحدتهم مع المسلمين في زمن الإرهاب والمتطرّفين . اشتعالان يستحضران الصراع العربي- “الإسرائيلي” بسلبياته ونكباته وتوصيفاته المتناقضة، خصوصاً أنّها واقعة في ذكرى تحرير الجنوب اللبناني .
وفي انتظار الحسم المرجّح للزيارة، نربط “الاشتعالين” لنرى أنّ بابا رومية ولو أعلن منذ شهرين أنّه ذاهب إلى فلسطين لكنّه ذاهب إلى “إسرائيل” التي تخرج القوسين من حول عنقها لتخنق بهما المسلمين والمسيحيين على السواء .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2178490

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2178490 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40