الأحد 4 أيار (مايو) 2014

“إعلان غزة” والوطنية الفلسطينية

الأحد 4 أيار (مايو) 2014 par علي جرادات

لم يخامر الفلسطينيين، في أماكن وجودهم كافة، شك في أن انقسام قيادتهم السياسية خلال السنوات السبع الماضية، كان ربحاً صافياً للاحتلال وسياسات حكوماته التوسعية العدوانية . وقد جاءت ردود قادة “إسرائيل” الهستيرية على “إعلان غزة” كخريطة طريق لتنفيذ اتفاقات إنهاء هذا الانقسام المدمر لتقطع الشك باليقين، وتؤكد أن لا حركة “فتح”، ولا حركة “حماس”، بما في داخل كل منهما من تيارات ومراكز قوى، تستطيع منفردة أن تشكل طريقاً للخلاص الوطني، حيث لم تسفر سنوات انقسامهما السبع عن إضعاف المحتوى الشعبي للوطنية الفلسطينية وتشويه صورتها وضرب قيمها وثوابتها ومرتكزاتها الثقافية والسياسية والأمنية والنضالية، فحسب، بل أسفرت أيضاً عن إضعاف دور ومكانة ووزن وهيبة كل من الحركتين، إن على الصعيد الداخلي، أو، (وهنا الأهم)، على صعيد مجابهة الاحتلال وإدارة الصراع معه . هنا ثمة درس لا يمكن للنخب القيادية الفلسطينية بألوانها استيعاب كامل معانيه، وهضمها، والتعلم منها، وبناء السياسة، خطاباً وممارسة، على أساسها، إلا باستعادة الانضباط الكامل لشروط خصوصية الوطنية الفلسطينية، عموماً، ولمقتضيات محتواها الشعبي خصوصاً . لماذا؟
في معمعان مئة عام من المواجهة الشاملة بين الشعب الفلسطيني بعمقه القومي العربي والتحرري العالمي، والمشروع الصهيوني الاستيطاني الإحلالي بارتباطاته ووظائفه الاستعمارية، تبلور المحتوى الشعبي للوطنية الفلسطينية، وتعمق، وتحول إلى نبع لا ينضب، ودافعية متجددة، لكفاح وطني مديد، يحركه حلم لا يموت وتطلعات تحررية لا تنطفئ . “فشعب فلسطين سيظل يثور جيلاً بعد جيل إلى أن تتحرر فلسطين” . هذا ما جاء في إحدى رسائل القائد الفلسطيني الكبير الشهيد عبد القادر الحسيني . وقد صدقت نبوءته . إذ صحيح أن الشعب الفلسطيني لم يظفر بالنصر الحاسم بعد، لكنه لم يستسلم، بل ظل يقاوم متشبثاً بحقوقه الوطنية والتاريخية . ما يعني أن عمليات التشتيت القسري والتطهير العرقي المخطط وجرائم الحرب الموصوفة التي ارتكبتها، ولا تزال، الحركة الصهيونية وكيانها “إسرائيل”، لم تفشل -فقط- في إزالة الوطنية الفلسطينية من التاريخ والجغرافيا والسياسة، بل، كانت -أيضاً- السبب الأساس خلف تعميقها، وتجذير أهدافها في إنهاء الطابع الصهيوني ل“إسرائيل” التي لم يترك قادتها -بعدوانيتهم وتوسعيتهم وعنصريتهم- متسعاً للتسوية السياسية أو الحلول الوسط للصراع . وهو ما أنتج، ولا يزال، دوافع تجديد الثورات والانتفاضات الفلسطينية، كمبادرات شعبية هجومية لتعديل ميزان القوى، وفضح ما لحق بالشعب الفلسطيني من ظلم تاريخي قل نظيره في التاريخ المعاصر .
هذا هو الدرس الأول والأساس الذي يمكن استخلاصه من تاريخ مسيرة الوطنية الفلسطينية وصيرورتها . أما الدرس الثاني فيتمثل في أن انقسامات النخب السياسية والفكرية القيادية الفلسطينية، كما لم تفضِ في الماضي، فإنها لن تفضي لا في الحاضر ولا في المستقبل، إلى تفريغ الوطنية الفلسطينية من محتواها الشعبي . فالنخب القيادية الفلسطينية إما أن تتوحد وتعزز الوطنية الفلسطينية وإما أن تنقسم وتضعفها . وغني عن الشرح أن لهذا الخيار أو ذاك الدور الأساس في تعزيز الشرعية الشعبية لهذه النخب أو تآكلها، تقدم الأمر أو تأخر . لماذا؟
يتفهم الشعب الفلسطيني خلافات نخبه القيادية واختلافاتها السياسية والفكرية، لكنه قط لا يتفهم، أو يتسامح مع، تغليب هذه الخلافات والاختلافات على الأولوية الوطنية العامة التي قدم لقاء بقائها أولوية الأولويات شلالات دم غزيرة . فالذاكرة الجمعية الفلسطينية مثقلة بهذه الدماء التي سالت، طوعاً وعن طيب خاطر، دفاعاً عن الوطن . فمن انتفاضات عشرينات القرن الماضي رداً على “وعد بلفور”، ،1917 الذي كشف نوايا جلب المهاجرين اليهود لفلسطين، إلى ثورة الشهيد الشيخ الجليل عز الدين القسام التي عززت الوعي الوطني بترابط المشروع الصهيوني والمشروع الاستعماري الغربي، إلى ثورة 36-39 الكبرى ضد رؤية لجنة “إيرل بيل”، ،1937 التي قضت بتقسيم فلسطين إلى قسمين: تُقام على الأول “دولة لليهود”، ويُضم الثاني لإمارة شرق الأردن، إلى القتال الأسطوري الذي تجشم مصاعب ظرفه المجافي الشهيد القائد الوطني الكبير عبد القادر الحسيني ضد قرار هيئة الأمم بتقسيم فلسطين، (1947)، توطئة لإنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين لمصلحة قيام “وطن قومي لليهود” فيها، إلى القتال الذي لم ينقطع، (رغم صدمة النكبة ونتائجها الكارثية)، في خمسينات وستينات القرن الماضي، إلى إطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة التي لم تطفئ هزيمة، ،1967 لهيبها، بل حولته إلى حريق شامل من العمل الفدائي من خارج حدود فلسطين وداخلها،، ولم يفضِ ضرب مركز ثقله في الأردن، ،1970 إلى خموده، بل انتقل إلى لبنان، ولم يفضِ ضربه وتشتيته، بعد صمود أسطوري، (1982)، إلى خمود الثورة الفلسطينية، بل إلى انتقال مركز ثقلها إلى الوطن بعد اندلاع الانتفاضة الشعبية الكبرى، (1987-1993)، إلى “هبة النفق” المسلحة، ،1996 التي مهدت، وهبات جماهيرية تلتها، لاندلاع انتفاضة الأقصى، (2000- 2004)، وصولاً إلى الهبات الجماهيرية الجارية في أوساط فلسطينيي الضفة، وفلسطينيي ،48 دون أن ننسى صمود غزة الأسطوري في حربيْ 2008 و،2012 أو أن نتجاهل صمود اللاجئين وتشبثهم بحقهم في العودة والتعويض، رغم ما يتعرضون له من نكبة جديدة أعادتهم ثانية إلى حياة التشرد والقتل والحصار والحرمان، بل والموت جوعاً أيضاً . ماذا يعني هذا الكلام؟
إن المحتوى الشعبي للوطنية الفلسطينية الناجم عن تغلغل الثورة ثقافة وأشكالاً وأساليب وأدوات فعل في أوساط الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات، هو، قبل وأكثر من أي عامل آخر، ما أفشل رهانات قادة المشروع الصهيوني على كل انقسامات النخب القيادية الفلسطينية في الماضي . وهو -في التحليل الأخير- ما سيقود إلى إفشال رهانهم على الانقسام الحالي، من خلال إجبار طرفيه على تنفيذ بنود اتفاقهما الأخير لتوحيد الإرادة والجهود والإمكانات والطاقات الوطنية، بعد أن بددا سبع سنوات، قضتها قيادة الطرف الأول، “فتح”، في الرهان الفاشل على أن تجلب بالمفاوضات، إنجازاً وطنياً يعيد مكانتها إلى ما قبل خسارتها للانتخابات التشريعية والمحلية في العام ،2006 بينما قضتها قيادة الطرف الثاني، “حماس”، في الرهان الفاشل أيضاً على أن يعزز صعود حركات الإسلام السياسي عموماً، ووصول أصلها، جماعة “الإخوان المسلمين”، إلى السلطة في مصر، خصوصاً، مكانتها الوطنية والعربية والإقليمية والدولية، متناسية أن ما حازته من تأييد شعبي فلسطيني في صندوق الاقتراع لم يكن بسبب خيارها الإيديولوجي، بل كان بسبب أنها حركة مقاومة وطنية ضد الاحتلال .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 17 / 2165225

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165225 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010