السبت 9 أيار (مايو) 2020

إعادة : نيسان ...ومراتب الشرف

السبت 9 أيار (مايو) 2020 par أيمن اللبدي

حكاية الحركة الأسيرة الفلسطينية، هي ذاتها حكاية فلسطين المعتقلة، فلسطين المختطفة، فلسطين المسوّرة، فلسطين المحتجزة، وبكلام آخر هي حكاية كل فلسطيني وكل فلسطينية، من كان خارج الجدران الصغيرة، فهو داخل الجدران الكبيرة، ومن كان خارج الجدران الكبيرة، فهو على أبواب الأسوار المتقاطرة، الأبواب إلى فلسطين مصادرة، والشبابيك في فلسطين محاصرة، أيّ فسحة هناك تقول أن الفلسطيني، أي فلسطيني، وكل فلسطيني ليس أسيراً بمعنى أو بآخر؟ لا يوجد وغير متوقع أن يوجد، بل حتى العقل الفلسطيني كما الرحم الفلسطيني ذاته محاصر ...محاصر إلى حد كبير.
الذين ألقوا الضوء على الحركة الأسيرة التي تعني نضالات المناضلين والمجاهدين خلف قضبان الحديد، لم يلغوا من المدرك عندهم أنها أوسع من ذلك بكثير، لكنهم أرادوا أن يذهبوا إلى حيث التجربة في قلب معنى الأسر ذاته، إلى حيث تكة الساعات المحسوبة على الإنسان، إلى حيث المعنى بالاستفراد والإخضاع لبرامج القهر على العقل المرتطم، وضد اللحم الحيّ مباشرة، بعيداً عن العيون والآذان، إلى حيث المراوغات في المراودة، إلى حيث تلخيص صورة ذلك النوع من النشاط المقترب من الغرائزية الرئيسة في الحيوان، يمارسها السجّان حيث لا قعر بعدها للسقوط الإنساني.
مع ذلك فلقد صدمت الحقيقة الناصعة في صمود هذه البقعة المؤلمة من الجرح الفلسطيني النازف، كلّ توقعات الذين راهنوا على وحشية الغريزة الفاشية المتجددة عند العدو الصهيوني في النيل من هذا الجرح في هذه النقطة بالذات، بل لقد انتصر الجرح النازف غالبا وفي معظم الوقت على السيف وعلى الجلاد معاً، وانتزع صورة انسانيته الراقية النبيلة انتزاعا باهراً في ذات الوقت الذي عرّى فيه الجلاوزة وأحلامهم وكسر فيه أوهامهم وتمنياتهم معاً، نعم صحيح أن الحركة الأسيرة الفلسطينية احتاجت عدة سنوات كي تنتظم في دورة البرنامج النضالي الواضح، لكنها فعلت وأثبتت جدارتها لاحقا بامتياز.
في أدبيات الثورات الوطنية ، حكاية الأسر وتجربتها أقرب إلى الجسم الآخر للمعنى المباشر في الملحمة ذاتها، ، وهي ترتّب للحكم على درجة غنائها وفرديتها وتميزها ،كلّما ترسّخت أكثر، ارتقت أكثر، بحيث تطل أيقونة الأسير المناضل الذي يصارع كل أنواع القهر، وكل أنواع الهواجس ، من لحظة فقدانه لحريته، وحتى لحظة استعادتها، مع افتتاح فصل جديد للمواجهة ذاتها ، وغالباً منفرداً حيث قيمة المزية التي تجعل حكاية الأسر، ليس فقط اختباراً وامتحاناً للذات من حيث هي ذات منفردة بما تحمل، بل وأيضا من حيث هي اختبار للذات الجمعية والتربية النضالية في هذه الذات الجمعية، وما درجة صلابتها ومقاومتها، إن الأسير المحافظ على ذاته، المنتصر لمبدأه، الصامد على معتقده، كنز وطني بامتياز، فكيف بذلك المستمر في معركته مع العدو خلف قضبانه؟! هنا القيمة النضالية الاضافية التي حقّقتها الحركة الاسيرة الفلسطينية كمدرسة نضالية لا مثيل لها في التاريخ.
نعم، في ثقافات الشعوب المختلفة هناك طرق متعددة لتسجيل هذه المعارك وتخليدها وتكريس الاعتبار المناسب لأصحابها، والتاريخ لا ينفك يقدّم القصص والنماذج على أصحاب المواقف العظيمة وأساتذة المبدأ والتضحية في سبيله، بل إن تكريم الأسرنفسه كمجال للمواجهة، وخيار للنجاة في بعده الآخر، ورد في النصوص المقدسة جميعها، وهو يحكي قصة يوسف عليه السلام مثلا!، كيف تكزن النجاة في زنازين الفرعون نفسه، وتاليا هي كذلك بمركّب نفساني مختلف كما في موروث العرب بما يغني الراغب في تتبع محنة وتضحية المناضلين، شعراء كانوا كأبي فراس الحمداني ورومياته الشهيرة، أم فقهاء كانوا كمحنة الإمام أحمد بن حنبل واعتقاله الأشبه ما يكون اليوم بقصة سجناء الرأي والفكر.
النقطة الجوهرية الاضافية في مسألة الأسر، هي المسافة المسجّلة ليس فقط على صعيد معنى النجاة المجرّد ماديا وعقليا ونفسياً، بل حيث القدرة على عكس الاتجاه في الصورة، بمعنى جعل الِأسر نفسه فرصة لخوض معركة أو استكمال معركة لم تنته مع العدو نفسه، تخاض بأساليب مجترحة وبأدوات جديدة، هنا تكمن الاضافة التي حقٌّتها الحركة الأسيرة الفلسطينية على الخط الصاعد في تراكم الإنجازات المبهرة، وتماما حيث وصلت في مرحلة ما إلى كونها القادرة على التوجيه والإرشاد وأحيانا التحكم بضوابط أساسية في مشاهد الفعل الوطني المحيط بالمعتقل من الخارج. ترى كم حركة اعتقالية في التاريخ غيّرت في مجراه أحيانا كما فعلت الحركة الأسيرة الفلسطينية؟
العدو ولج عملية الأسر، وعينه على أن تتحول العملية ذاتها، من عملية قمعية محدودة يستخدمها العدو دائما في كل وقت ، خارج الأسر وداخله، أرادها أن تكون داخلة في العمق الأوسع مما يفعله دائما، أرادها أن تدخل بين حدين، حدها الأعلى هو تحطيم الأسير وإنهائه وجدانيا ومعرفيا وحتى جسمانيا إن أمكن، وبين حدها الأدنى وهو تقييد حرية الافادة عند الأسير للقضية التي ناضل من أجلها وجعل قيمة استكمال عطائه في هذا الواقع الجديد بلا قيمة، أو هامشياً ، أو حتى عكس قيمته إن أمكن، وهكذا تكون نقطة ال قياس في نجاح احد طرفي المعركة الجديدة وعلى حساب الآخر في هذه المواجهة المفتوحة الجديدة بين السجّان والسجين، قد تحدّد سلفاً.
لقد حققت الحركة الاعتقالية في فلسطين سمات لا يمكن على الاطلاق أن يخفت نورها لكل باحث وكل مراقب من أي نوع كان وفي أي مستوى كان نظره نحوها، فمن اهتم بالجانب النضالي المباشر استطاع الحصول على رواية مدرسة نضالية مميزة، وغنية تصلح لأن تكون منهاجا في أدب الثورات الوطنية ، ومن تلكم التي يقال فيها أروع النماذج الممكنة، ومن كان نظره في القيمة المعرفية والانسانية استطاع الوصول إلى مدلولات باهرة في قدرة الانسان المناضل، على تكييف الظروف واستخدامها، مهما كانت وحشيتها وقسوتها على وجدانه، ودواخل كيانه، ومن أراد النظر إليها من الجانب الفلسفي المجرّد، لم ينتظر طويلا قبل أن يعرف وجه الحقيقة وجمالها اللافت في مواجهة صورة الكذب القبيح وشيطانيته الفاحشة، وقلة تلكم التي فعلت ذلك التسجيل المثلث للمزايا في هذه الحكايات.
في نيسان وعلى ابواب السابع عشرة منه، يستطيع العدو أن يمعن في التفنّن بأنواع أدوات وإجراءات البطش والتنكيل التي يستحدثها داخل هذه المواجهة المستمرة، سواء أكانت قوانين يسنّها أو يستغلها بحكم صلف القوة الطاغية الباغية القاهرة، أو كانت داخل إجراءات وتعريفات وتعديلات قوانين هذه اللعبة الدائرة، لكنه رغم ذلك لم يستطع أن يحصل ولو لمرة واحدة على نتائج ذات كم يؤسس لظاهرة تقول أنه نجح في هدف من أهدافه في هذه المعركة بالذات مع الإرادات الفولاذية للحركة الأسيرة، ومع كل أنواع التشظي في زمن الفرقة الوطني، بقيت قلعة للأسر ويا للعجب هي قلعة الوحدة الوطنية الحقيقية، ومنارتها الأوسع في الفضاء المادي الضيق الذي يخنقه العدو بما استطاع ، يخنقه بالمرض أحيانا،أما خنق العدو جنرالات الصمود الرجال،الرجال،فارتقى منذ عام الشهيد ميسرة ومعه كثيرون؟ لكن مع ذلك بقيت الحركة الأسيرة هي البطل الحي الذي لا يموت في أسطورة العنقاء الكنعانية الدائمة.
في فلسطين مراتب الشرف ثلاث، حيث الشرف الخالد الباقي الذي لا يعلوه شيء، شهيد عند الله حيٌ يرزق، وأسير كالأسد رابض يقاتل ويعلّم، ومناضل على المبدأ ثابت حفظ وصاياه للاثنين معاً، إما نصر وإما شهادة، وما تبقى فتات.....



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 66 / 2165972

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مستشار التحرير   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165972 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010