الثلاثاء 29 نيسان (أبريل) 2014

لماذا تعنينا قضية “المحرقة” اليهودية؟

الثلاثاء 29 نيسان (أبريل) 2014 par د. إبراهيم علوش

صرح محمود عباس أن “المحرقة” اليهودية هي أكبر جريمة عرفها التاريخ، ومثل هذا القول يمثل جوهر الاعتراف الثقافي بالكيان الصهيوني، أي ليس بحقه بالوجود فحسب، بل بضرورة وجوده... فماذا تعني “المحرقة اليهودية”، ولماذا تعنينا؟ ننشر هذه المادة بمناسبة احتفال الكيان الصهيوني بالذكرى السنوية للمخرقة، أي الكذبة، أكبر كذبة في التاريخ في الواقع...

لماذا تعنينا قضية “المحرقة” اليهودية؟

كثيراً ما يعرب الفلسطينيون والعرب والمسلمون عن إحباطهم باللامبالاة التي يقابل فيها الرأي العام الغربي المعاناة الفلسطينية والعربية على أيدي الحركة الصهيونية. والواقع أن الصهاينة نجحوا بتقديم أنفسهم للرأي العام الغربي كشعب لقي من الويلات في “المحرقة” ما يعطيه حق ارتكاب أي عمل ضد أي شخص في أي وقت بدون أي وازع. وغالباً ما يلوم العرب أنفسهم على التقصير الإعلامي الذي يعتقدون أنه يكمن في عدم قدرتهم على إيصال صورة صحيحة عن معاناتهم إلى الرأي العام الغربي. لكن الغرب لا تنقصه المقدرة على معرفة ما يعانيه العرب على أيدي الصهاينة، فهو يعرفه، لكنه يقلل من أهميته لأن صورة “المحرقة” قابعة ابدأً في خلفية عقله الجمعي ووسائل إعلامه، لذلك تتضاءل المعاناة العربية الحقيقية أمام المحرقة اليهودية المزعومة، وهنا تكمن المشكلة الأساسية.

وكشخص عاش وعمل ودرس وعلمَّ وكتب في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من ثلاثة عشر عاماً، كنت من العرب الذين يجيبون حين يسمعون “المحرقة” تساق دفاعاً عن الحركة الصهيونية: لماذا يجب أن ندفع ثمنها نحن؟! فلا أحد، حتى اليهود أنفسهم، يتهمون العرب بأنهم هم الذين ارتكبوا المحرقة. وقد كنت أقود السيارة مرة عبر ولاية اركنسا، ولاية الرئيس السابق كلينتون، باتجاه ولاية أوكلاهوما، فوجدت بلدة صغيرة هناك اسمها فلسطين، وهناك بلدات كثيرة في الولايات المتحدة بهذا الاسم، فدخلتها ووجدت حولها أراض زراعية شاسعة، ثم بضعة آبار من النفط، فكتبت مقالة دعوت فيها الرئيس كلينتون أن يعطي اليهود فلسطين الموجودة في ولايته إذا كان يحبهم إلى هذه الدرجة، لعلهم يرحلون عن فلسطين العربية، لكن مسائل الجغرافية السياسية ليست بهذه البساطة، و“المحرقة” أقوى من المنطق.

إن أساطير “المحرقة” مهمة جداً بالنسبة للحركة الصهيونية، وبالتالي بالنسبة لنا، للأسباب التالية:

أ) إن الإدعاء القائل بأن اليهود أبيدوا بشكل منهجي من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية أصبح حجة لا تناقش حول ضرورة إيجاد ملجأ آمن لليهود في دولة خاصة بهم. “فالمحرقة” تعني الحاجة لوجود “إسرائيل”، وهذا معنوياً أقوى من الاعتراف بحقها بالوجود. وعندما لا يكتفي الصهاينة بالاعتراف القانوني، بناءاً على قرارات الأمم المتحدة الظالمة أو غيرها، بحقهم في الوجود، فإنهم يطالبون فعلياً بأن تعترف الأنظمة العربية بالحاجة اليهودية لوجود “إسرائيل”. باختصار، إن “المحرقة” تبرر اغتصاب أرض فلسطين أمام العالم، والمطلوب الآن أن ينتقل العرب من الاعتراف بهذا الاغتصاب على مضض، بالقوة، إلى الاعتراف بالحاجة اليهودية إلى ممارسة هذا الاغتصاب من خلال اجترار أساطير “المحرقة”، فالمحرقة هي جوهر الاعتراف الثقافي بحق العدو بالوجود.

وكما قال الكاتب اليساري الصهيوني يوري أفنيري، ولا فرق بين اليمين واليسار في الكيان الصهيوني، أن اليهود مثل رجل قفز من مبنى يحترق فوقع على رأس رجل يسير في الشارع، واليهود وقعوا على رؤوس الفلسطينيين، فهم “ضحايا”، والفلسطينيون ضحايا “الضحايا”، ولذلك لا يتعاطف العالم معهم، كما تعاطف مع الأفارقة في جنوب إفريقيا، فلا مجال لمقارنة الإبادة [المزعومة] لملايين اليهود في :المحرقة"، بالاقتلاع [الحقيقي] لبضع مئات الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم.

الأهمية السياسية لأسطورة المحرقة

المراجعة التاريخية للأسطورة إذن ليست مؤامرة لإنكار “المحرقة” بل طريقة لوضعها ضمن إطارها العلمي، وبالتالي لوضع قيام “إسرائيل” ضمن إطارها العلمي، فالمسألة راهنة سياسياً، وليست مجرد قضية أكاديمية تخص المؤرخين. وإذا كان الإدعاء القائل بأن اليهود أبيدوا بشكل منهجي من قبل الألمان قد اصبح حجة لا تناقش حول ضرورة إيجاد ملجأ آمن لليهود في دولة خاصة بهم، وبالتالي الحاجة إلى وجود “إسرائيل” في نظر الرأي العام العربي، كما جاء سابقاً، فإن هنالك فوائد سياسية راهنة للجوانب الأخرى من أسطورة “المحرقة” أيضاً.

ب) إن الإدعاء القائل أن اليهود أبيدوا بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري برمته، وهو ما يسمى بفرادة موت اليهود، أي أن اليهود ليسوا فقط شعب الله المختار كما يزعمون، بل أن موتهم نفسه غير موت بني البشر باعتبار أنهم فقدوا حسب زعمهم ستة ملايين على أيدي النازيين، هو الأمر الذي يستطيع أن يجعل من موت أي صهيوني اليوم في الصراع العربي – الصهيوني أكثر أهمية من استشهاد أي فلسطيني أو عربي أو مسلم. نلاحظ طبعاً هذه الازدواجية بوضوح في طريقة تعامل الإعلام الغربي مع موت الصهاينة وطريقته في التعامل مع قتل الصهاينة للعرب، وغالباً ما تعزى هذه الازدواجية لاعتبارات سياسية محض، ولكن الازدواجية لا تقتصر على الإعلام الغربي، بل تتعداها عامة وليس دائما،ً إلى المواطن الغربي نفسه الذي تبرمج ثقافياً، من خلال جانب فرادة موت اليهود في أسطورة “المحرقة”، على التعامل مع موت اليهود بحساسية فريدة من نوعها.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، فأسطورة فرادة موت اليهود في “المحرقة” وشدة معاناتهم فيها بشكل لا نظير له في التاريخ، تقدم المسوغات الأخلاقية لدولة “إسرائيل” وللحركة الصهيونية العالمية لانتهاك كل الأعراف الدينية والدنيوية المعروفة للبشر وقوانين الأمم المتحدة بدون معارضة المواطن الغربي، وحتى بتعاطفه. وهذا الأمر هو الذي يضيء الجانب الثقافي في تعاطف، أو على الأقل سكوت، المواطن الغربي على قيام “إسرائيل” بقصف العراق وتونس ولبنان، وحيازة الأسلحة النووية، في الوقت الذي مدد فيه الحصار على العراق بحجة عدم سماحه بالتفتيش عن أسلحة أقل شأناً، ويطلب من سورية أن تنزع سلاحها الكيماوي للسبب نفسه...

ج) إن الإدعاء القائل أن بلدان وشعوب الغرب تتحمل مجتمعة ذنباً جماعياً تاريخياً على جريمة “المحرقة” المزعومة، وترسيخ عقدة الذنب الجماعية هذه في أذهان الغربيين من خلال وسائل الإعلام والترفيه والمناهج المدرسية، هو الجذر الأساسي لدعم الرأي العام الغربي لدولة “إسرائيل” والحركة الصهيونية. وقد كان هذا الشعور الغربي العام بالذنب الجماعي ظاهرة اجتماعية – سياسية حديثة نسبياً تبلورت بعد حرب عام 1967، وليس بعد الحرب العالمية الثانية، حسب الكاتب اليهودي الأمريكي نورمان فينكلستين في كتابه عن استغلال “المحرقة” لأغراض سياسية الذي صدر عام 2000 تحت عنوان “صناعة الهولوكوست”.

ويقول نورمان فينلكستين في كتابه أن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة كان يتجنب إثارة “المحرقة” في وجه ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة تساوقاً مع الاستراتيجية الأمريكية العالمية في تجنيد ألمانيا وباقي دول أوروبا الغربية في مواجهة الاتحاد السوفياتي.

مع العلم أن فينكلستين من الكتاب الذين يعترفون بالأسطورة ويكرسونها...

المهم، أصبحت عقدة الذنب الجماعية مصدراً مهماً للدعم المالي والعسكري والتقني والسياسي الذي لم تكن “إسرائيل” لتقوم أو تستمر بدونه، وقد كتب غيري عن هذا الجانب في أسطورة “المحرقة”، لذلك لن أسهب فيه، باستثناء الإشارة إلى أن عقدة الذنب الجماعية تجاه اليهود والحركة الصهيونية ليست صنيعة الحركة الصهيونية وحدها، بل هي حاجة سياسية للحكومات الغربية نفسها التي تدعم “إسرائيل” لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية.. ففي الدول الغربية التي تتمتع بهامش نسبي من الديمقراطية يجب أن يتقولب المواطن على دعم “إسرائيل” والحركة الصهيونية قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع، و“المحرقة” تصبح هنا الرافعة الثقافية لوعي سياسي لا يتساوق مع مصالح الحركة الصهيونية فحسب، بل مع مصالح النخب الحاكمة في الغرب أيضاً.

ونخلص من كل ما سبق عن أهمية “المحرقة” السياسية إلى السبب الذي يجعل المؤرخين المراجعين بخلفياتهم الإيديولوجية المتنوعة يشكلون مثل هذا الخطر الجدي على الحركة الصهيونية وحلفائها: أنهم يستخدمون العلم والعقل في التشكيك بكل جانب من جوانب “المحرقة” المزعومة، فيحرقونها ببرد المنطق وماء الأقلام، ثم يبددونها بعد كشف هياكلها السياسية الصهيونية كالرماد المنثور.

إن المؤرخين المراجعين إذن يهددون ببتر الشريان الذي تتغذى منه الحركة الصهيونية في الغرب، ولذلك يحاصرون ويتعرضون لعمليات الاغتيال والتجويع. ولكن جهودهم ومواقفهم تجعلهم حليفاً لا غنى عنه للفلسطينيين والعرب والمسلمين، حليفاً خليقاً بالدعم والمساندة والتشجيع منا ومن كل المدافعين عن الحقيقة والعدالة في العالم. وكما قال لي أحد أنصار المؤرخين المراجعين في أوروبا: “لن تتحرر فلسطين حتى تتحرر عقول الأوروبيين من المحرقة”.

بالمقابل، نجد بعض المثقفين العرب وقد خدعهم أنصار الصهيونية بفكرة مفادها أن جعل القضية الفلسطينية تلقى القبول في الغرب يتطلب منهم الاعتراف بالنسخة الصهيونية لأسطورة “المحرقة”، ويتطلب منهم المشاركة باضطهاد المؤرخين المراجعين. ولكن هذا سلوك انتحاري من وجهة النظر السياسية، فالاعتراف بالادعاءات الصهيونية عن “المحرقة” يمهد الطريق لما يلي الاعتراف بها، مثل:

أ) القبول باغتصاب فلسطين وبمشروعية الغزو اليهودي لها من خلال قبول الرواية الصهيونية عن المبرر الذي “اضطر” اليهود للمجيء إليها.

ب) القبول ضمنياً بالغطاء الثقافي للدعم السياسي والمالي والمعنوي الذي يقدمه الغرب للحركة الصهيونية، الأمر الذي يعيق الجهود المخلصة للعديد من العرب الناشطين في الغرب من أجل كسب التأييد للقضية الفلسطينية.

ج) القبول ضمنياً بأحد دوافع الحصار على العراق، فالعراق يعتبر أولاً وأخيراً خطراً على “إسرائيل”، وتختلط ذكرى تدمير العراقيين القدامى لمملكة إسرائيل البائدة قبل آلاف الأعوام، وأسطورة “المحرقة” في هذا السياق، مع الصواريخ التي وقعت على تل أبيب في حرب الخليج الثانية، لإعطاء صورة قاتمة عن شعب يهودي تحت خطر دائم يتطلب رده استمرار الحصار والعقوبات على العراق بعد أكثر من عقدين على خروجه من الكويت. وعندما كان يقول الساسة الغربيون أن العراق يشكل خطراً على جيرانه، من تعتقدون أنه المقصود بهذا القول أكثر من “إسرائيل”؟

والتتمة طبعاً هي نزع السلاح الاستراتيجي من كل الدول العربية أو المعادية للكيان الصهيوني في المنطقة.

بالتالي، ليس من المجدي للإنسان العربي أن ينال القبول الفردي في الغرب عن طريق الاعتراف بالرواية الصهيونية عن “المحرقة”، لأن ثمن هذا القبول الفردي سيكون الحقوق الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، وهذا الثمن لا قبل للشرفاء به.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 42 / 2165350

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام منوعات  متابعة نشاط الموقع الكلمة الحرة  متابعة نشاط الموقع كتّاب إلى الموقف  متابعة نشاط الموقع ابراهيم علوش   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

2165350 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 19


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010