الأحد 27 نيسان (أبريل) 2014

تراجعت الحروب الأمريكية . . لكن

الأحد 27 نيسان (أبريل) 2014 par علي جرادات

في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين الماضي انهار المعسكر السوفييتي، وطغت أحادية القطبية، وانتقل خطاب السياسة الليبرالية الجديدة إلى الهجوم على كل خطاب اقتصادي اجتماعي آخر، بل، أعلن بعض منظريه عن “نهاية التاريخ”، فماذا كانت النتيجة؟ شهد العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ميلاد أنظمة ديمقراطية ثورية اكتسحت أغلب بلدان قارة أمريكا اللاتينية، في مقدمتها البرازيل التي تشكل ثلث القارة جغرافياً وديموغرافياً، وفنزويلا التي تعدّ سابع دولة نفطية في العالم . وحقق المشروع التنموي الصيني قفزات مذهلة في بلد يناهز عدد سكانه 3 .1 مليار نسمة، (سدس البشرية تقريباً) . وتبوأ، (حسب الإحصاءات الاقتصادية العالمية لعام 2013)، المركز الأول في حجم صادراته، (نحو 4 تريليونات دولار)، وتخطى رصيده 4 .2 تريليون، فيما الجدل حول مستقبل السياسة الاقتصادية الاجتماعية للصين لم يحسم، بين من يخشى وجود اقتصاد السوق الحرة وظهور طبقة برجوازية، ومن يطمئن لتأكيدات مؤتمرات الحزب الشيوعي الحاكم على أن “لا مستقبل للصين دون الاشتراكية” . أما روسيا التي أرادت الولايات المتحدة وحلفاؤها تحويلها إلى دولة “عالم ثالثية”، فقد نهضت وتجاوزت مرحلة تدهورها في عهد يلتسين، وانتعش اقتصادها برصيد يقرب من 400 مليار دولار، وهو، إلى جانب قوتها العسكرية العملاقة وثروتها الضخمة من النفط والغاز، ما شجع رئيسها بوتين بتطلعاته القومية على القول: “سنعيد بناء الجيش ونستعيد مجد روسيا” . هذا ناهيك بصعود نجم ما يسمى “الدول البازغة” . فالهند ذات ال 1،1 مليار نسمة تتبادل السلطة فيها قوى قومية تتحالف غالباً مع قوى يسارية تحكم بعض الولايات والمناطق، شكلت مع الصين وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا ما بعد نظام التمييز العنصري، “مجموعة دول البريكس” ذات المشاريع الوطنية التنموية المستقلة والسيدة .
أفضت هذه التحولات التي طرأت على دول ذات وزن سياسي واقتصادي وعسكري كبير في ميزان القوى الدولي، عدا انتهاج دول وازنة كإندونيسيا وماليزيا وإيران مشاريع تنموية مستقلة، إلى تراجع هيبة ووزن ثالوث الليبرالية الجديدة، (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) . وبالنتيجة دخلت البشرية مرحلة عالم متعدد الأقطاب على وقع ما قادت إليه السياسة الليبرالية الجديدة من أزمة مالية-اقتصادية بدأت في عام 2008 بانفجار فقاعة رأس المال المالي الأمريكي، وامتدت لتشمل العالم برمته، وتسببت بخسائر تناهز 30 تريليون دولار . وكانت بلدان “المحيط” الأكثر تضرراً، بينما كانت الدول الأقل تضرراً هي الأقل اندماجاً بمضاربات البورصة العالمية، وبالاحتكارات المعولة، (نصفها وأقواها أمريكية) . هذا بينما تقدر الإحصاءات الاقتصادية العالمية مديونية الإدارة الأمريكية بنحو 17 تريليون دولار، وأوروبا بنحو 10 تريليونات دولار .
لكن هذه التحولات العاصفة في ميزان قوى أقطاب العالم لم تفضِ ومن السذاجة السياسية تصور أنها ستفضي إلى تسليم الولايات المتحدة بالواقع الجديد، لأن تسليمها يعني خسارتها، وهي التي ما زالت القوة العالمية الأولى عسكرياً واقتصادياً وعسكرياً، لما يجنيه طغيانها من نهبٍ لثروات العالم، وتحكُّم بمصائر شعوبه، وسيطرة على المؤسسات الدولية والإقليمية السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية . لكن، لئن كان من المحال تسليم الولايات المتحدة بالواقع الجديد، فإن الثابت الأكيد هو أنها لم تعد زعيم العالم المطاع الذي يشن الحروب وقتما يشاء، وحيثما يشاء، بقرار دولي أو من دونه، وينتهك القانون الدولي وسيادة الدول واستقلالها، بل ويدمرها ويعيدها بذريعة حماية السلم الدولي والديمقراطية وحقوق الإنسان، عقوداً، بل قروناً أحياناً، إلى الوراء، مثلما حصل في أفغانستان والعراق وليبيا . ماذا يعني هذا الكلام؟
ليس ثمة شك في أن حلول مرحلة عالم متعدد الأقطاب خلق قدراً كبيراً من التوازن داخل السياسة الدولية ونظامها وقرارات مؤسساتها، لكن ذلك لا يعني البتة تخلص البشرية من التدخلات الأمريكية في شؤون الدول عبر إعادة العالم من جديد إلى “الحرب الباردة” التي حلت بالفعل، سواء في شكل العقوبات الاقتصادية والعزل السياسي والدبلوماسي، وهذا واضح فيما افتعلته الولايات المتحدة لروسيا من أزمة داخل أوكرانيا، أو في شكل التدخل العسكري غير المباشر، (بالوكالة)، وهذا جلي فيما يجري في سوريا منذ ثلاث سنوات ويزيد . ففي مواجهة الموقف الروسي الداعم للنظام السوري، ما انفكت الولايات المتحدة تؤجج نار مأساة الشعب السوري عبر تقديم الدعم للمجموعات التكفيرية المسلحة: “داعش”، و“النصرة” و“الجبهة الإسلامية”، من دون أن تأبه لما أسفر عنه ذلك من خسائر بشرية تقدر بنحو 120 ألف قتيل، 25% منهم من الجيش، ونسبة مثلها من التكفيريين، والباقي من المدنيين الأبرياء، ناهيك عن لجوء نحو مليونين إلى خارج سوريا، ونحو 6 ملايين إلى مناطق داخلها، فيما تقدر خسائر سوريا الاقتصادية بنحو 200 مليار دولار، (بما يعادل إنتاجها لأربعة أعوام) . طبعاً لن تأبه الولايات المتحدة بذلك، مادام الحريق في مصلحة “إسرائيل”، ولا تمتد ألسنته إليها، بل وجنت منه حتى الآن تدمير ترسانة سوريا من الأسلحة الكيميائية، وإضعاف جيشها . ولا غرابة، فالولايات المتحدة لم تأبه بما أسفر عنه احتلالها للعراق من تدمير رهيب لمقدراته وتفكيك لجيشه وموت للملايين من أبنائه، وتشققات مذهبية وطائفية وعربية لنسيجه الوطني والمجتمعي، بل تركته لمصيره يعاني التقتيل اليومي بالسيارات المفخخة على يد المجموعات التكفيرية التي تسيطر اليوم على مدينة الفلوجة لإقامة إمارة مماثلة لإمارة طالبان و“القاعدة” في أفغانستان التي أعادها الاحتلال الأمريكي قرونا للوراء .
قصارى القول: إن مشكلة البشرية مع النظام الأمريكي الليبرالي الجديد المعولم مزدوجة: فهو متوحش يشعل كل أشكال “الحرب الساخنة” حين يسيطر على العالم منفرداً، ولا يتخلى عن توحشه وإغراق العالم في كل أشكال “الحرب الباردة” حين يصير أحد قطبين أو قطباً بين أقطاب عالمية، بل لن يكف عن ذلك ما دام نظاماً نهبياً استقطابياً لا تحركه غير مصالح أصحابه وتعظيم أرباحهم وثرواتهم بأي ثمن، وبكل الوسائل، بما فيها شن الحروب “الساخنة” منها و“الباردة” بكل ما يسفر عنه ذلك من إفقار للشعوب، وتدمير للدول، وانتهاك لسيادتها واستقلالها، ونشر للفتن والاحتراب داخل مكوناتها، وتخريب لاقتصادها، وتفكيك لنسيجها الوطني والمجتمعي، وإزهاق لأرواح الملايين من أبنائها .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2178525

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2178525 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 11


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40