الخميس 15 تموز (يوليو) 2010

«زعران» العنصرية و«أوادم» التوطين و...«الشياطين» الفلسطينية

الخميس 15 تموز (يوليو) 2010 par نصري الصايغ

«إن الذين يريدون تقسيم لبنان هم الفلسطينيون... لا بد من اتخاذ قرار في يوم من الأيام ونشن حرب تحرير... وسننقل الفلسطينيين إلى خارج لبنان بالكميونات إذا لزم الأمر.. بلا وسخهم وبلا «جيتهن» وبلا «قلعاطن»» (بشير الجميل قبل انتخابه رئيساً بالاقتراع الإسرائيلي).

I ـ صورة اللبناني في مرايا العالم

أطلق الجنرال ميشال عون على من تصدى للعنصرية اللبنانية، صفة «الزعرنة». فكل من أفتى برأي (لا فعل)، واعتبر مواقف بعض القيادات المسيحية «الوازنة» أو «الهشة» بأنها تصب في خانة التمييز، هو أزعر.

لا نتوقف عند العبارات واللغة والقدح العشوائي والذم الانفعالي. نقترح وضع ترسيمة واقعية، لحال اللبنانيين، في علاقتهم مع من ليس لبنانياً، أو، مع من يمكن ان يسمّوا «بالاغيار»، أو «الغوييم» العربي والعالمثالثي.

الصورة ليست وردية، فالشخصية اللبنانية الأنيقة والمنفتحة والمعاصرة، لا طاقة لها على إخفاء ما يعتورها من وهن قيمي وتخلف إنساني.. الصورة تبرز هشاشة القيم وضحالة الحداثة، والعوم على قشرة من الزيف الحضاري.

صورة اللبناني في سيريلانكا، بائسة جداً. هو أشبه بتاجر رقيق.. صورته في السودان أكثر بؤساً. هو أشبه بعنصري أبيض في زمن الاستعمار.. صورته في مدغشقر فضيحة. الأبواب أغلقت بين البلدين، لسوء أخلاق اللبناني.. صورته إزاء السوري، يرثى لها. دونية سياسية، واستعلائية طبقية ـ اجتماعية.. صورته إزاء الفلسطيني، كالحة ومزمنة السواد، أكثر من ستين عاماً من الإذلال والمنع والتحريم.. صورته إزاء الغرب (فرنسا، انكلترا، أميركا) تثير الشفقة : ذيلية وكفى. فمقام الذيلية أرقى ما وصل إليه من كفاءة في «التحضر».

الصورة المرسومة للشخصية اللبنانية، على وجه التعميم من دون التخصيص طبعاً، يمكن أن تكون ميدان بحث في مصح اجتماعي. فاللبناني إزاء الغريب، إما عدواني، أو تبعي ونسخي، فكيف هي صورة اللبناني إزاء «أخيه» في العائلات «الروحية» (وهي بلا روح بالمرة) المقيمة في «غيتواتها» المقفلة؟ كيف ينظر المسيحي إلى المسلم والمسلم السني إلى المسلم الشيعي وكيف ينظر بعضهم إلى بعض؟

حروب لبنان كتاب مفتوح للفتك الطائفي، والسفك العنصري. هذا الكلام الوارد أعلاه، يختصر آراء عدد كبير من الكتاب والمثقفين المؤمنين (فعلاً وقولاً) بشرعة حقوق الإنسان، نقيضاً للتمييز العنصري والديني والقومي، والمؤمنين بالديموقراطية، نقيضاً للطائفية والمذهبية، والمؤمنين بالمساواة، نقيضاً للتفرقة والتراتبية، والمؤمنين بالعلمانية (عن جد) نقيضاً لتطييف السياسة وتديين الحقوق.

هذا الكلام الوارد أعلاه، يستحق قائله والمؤمن به، تهمة «أزعر» برتبة الشرف الممتازة.. فماذا عن «أوادم» التوطين؟ ماذا عمن يدعي الوصل بامرأة قيصر، وهي قد هجرت البلد بعدما بلغ مرحلة «نهاية الأخلاق». متى نصل إلى نهاية الكذبة : «التوطين»؟

II ـ يوسف الفلسطيني... في لبنان

لم يدخل يوسف صلاح لبنان باحثاً عن عمل، ولا قصده سائحاً، ولا أمّه بحثاً عن إقامة، ولا انتهزه لاقتناص فرصة لاستئجار رأس مال ربوي أو نفطي أو «أبيض كولومبي»، ولا قدم إليه لقضم أراضيه والانقضاض على عقاراته... هو، كغيره من يتامى الوطن الفلسطيني، هجّ من المجزرة وهرب من الاحتلال... حضر إلى لبنان وأقام في وطن صغير بحجم خيمة، ريثما يتسنى له أن يعود، لأن من حقه أن يعود.

ظل يوسف ملتصقاً بلجوئه كقضية. هو لاجئ هنا وعائد إلى هناك. عاش المعادلة بمرارتها : اللجوء الدائم والعودة المؤجلة. احتفظ من أجل ذلك، بفلسطينيته كاملة. لكنته، نشيده الوطني. سمرته، بطاقة انتمائه، أحلامه، كل مد المدى الفلسطيني.

كبر يوسف، وابتعدت فلسطين أكثر. انتقل من «نكبة» إلى «نكسة» إلى أوسلو فوادي عربة وطابا... عوّض عذاب الفراق بسحر الويسكي. يشرب، كمن يحتسي العودة. السكر وحده يعوض تواطؤ المخيلة، ويفلت الحواس الخمس من جسده. وعندما كان يوشك في سكره على بلوغ فلسطين، كانت عودة الوعي تعيده إلى رشده : «أنت لاجئ في لبنان».

كبر يوسف. صار محرراً صحافياً. خرج من وطن الأبجدية إلى الربع العربي الخالي وخدم بالحرف فلسطينه مدة من الزمن. وهناك، اشتد به حنينه إلى أمه في عين الحلوة، فحج إليها حجة اللقاء، فتلقفته قوات الغزو الإسرائيلي عندما وصلت صيدا.

اعتقل بتهمة شملت فلسطينيي لبنان ومن ساندهم : «أنت مخرب». وأبقي يوسف مع الآلاف على الشاطئ مقيداً بفلسطينيته... حر صيدا حارق. شمس حزيران حارقة. لكن الظلم محرقة...

ونجا يوسف من «المحرقة»، وضاقت السبل وأقفلت الأبواب، ألزمت منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من لبنان، وألزم الفلسطيني بأن يعيش رعب المذبحة مرة أخرى، بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، إحدى مآثر العنصرية اللبنانية.

جاءه من يعرض عليه، ذات يوم، الجنسية اللبنانية.. مرسوم التجنيس على الأبواب. رفض يوسف لسبب وحيد : «أنا فلسطيني... لا أريد بطاقة هوية، بديلاً من بطاقة عمل. أحب لبنان، ولكن فلسطين وطني». وظل مع عائلته، بلا هوية لبنانية، برغم إغراءات اليسر وعواقب العسر اللبناني.

ارتقى يوسف بتسلله إلى مواقع إعلامية، و«كالمكتوم» عمل، من تولى إدارة تحرير وإدارة برامج تلفزيونية، أوصلته بعد التحرير إلى بث حلقة تلفزيونية، من موقع محاذ للحدود اللبنانية الفلسطينية.

وقف يوسف بعيداً. رفض التقدم باتجاه الحدود. لم يرفع بصره إلى مكان أبعد من قدميه. فلسطين خلفه ولبنان أمامه. الخط الأزرق وراءه وكذلك الأخضر الفلسطيني... طلبت منه المذيعة، وقد حان وقت البث المباشر، أن يقف في مواجهتها، فلم يتحرك. كادت أن ترفع المذيعة نزقها المحق. لم يجب. كان يوسف قد أصيب بالسكتة الخاصة به... اقتربت منه المذيعة وسألته عن السبب : قال : «لن أقف هناك. لن أقف في مكان أرى فيه فلسطين... إذا شاهدت فلسطين أمامي، فسأمشي. سأمشي عائداً. لا أحد يستطيع منعي من اجتياز الحدود. سأمشي وأمشي وأمشي إلى فلسطين، حتى يرديني الرصاص... وسأظل أمشي، «منتصب القامة أمشي».

وسكت يوسف طويلاً. لم تعد إليه صحته. انتابته سويداء كالحة : انقباض في الصدر وفقدان للشهية. فنصحه الطبيب بالمسكنات كي ينسى... هدأ يوسف قليلاً، ولكنه لم ينسَ.

ويوسف الفلسطيني هذا، ليس وحيداً. عدده كثير جداً، بعدد آلاف اللاجئين. ومركز الزيتونة أجرى استطلاعاً تبين فيه أن 92% من الفلسطينيين، هم إخوة يوسف... العودة دينهم. ثم يحدثونك عن التوطين... والسخرية أن من يتحدث عن التوطين، لا يكلف نفسه بشرح كيفية حصوله، إذا أعطي الفلسطيني ـ سليل الجلجلة، حقوقه في الإنسانية، وتملك شقة، ليسكن فيها، وعمل عملاً مكداً، ليقتات منه.

III ـ التوطين المستحيل والتسلل «الحلال»

نسأل : كيف يمكن أن يحدث التوطين؟

العينات، أفضل جواب :

يبلغ عدد الذين توطّنوا من الفلسطينيين في لبنان، وباتوا لبنانيين بكامل الحقوق والواجبات، حوالى مئة ألف فلسطيني. فالفلسطينيون المسيحيون، في أكثريتهم الساحقة، أعطوا الجنسية اللبنانية في عهود الرؤساء كميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو. كان التجنيس (التوطين) يتم خلسة، بحسابات طائفية، وبأسلوب الزعبرة اللبناني. 95% من الفلسطينيين المسيحيين صاروا لبنانيين، من قبل رافعي شعار خطر التوطين. متى يتوقف هذا الدجل؟

ومع صعود النفوذ الشيعي، تم تجنيس فلسطينيين من أصول لبنانية، أكثريتهم الساحقة من الشيعة المتحدرين من القرى السبع. وهؤلاء صاروا «مستوطنين» بالحجة المطلوبة المؤيدة بالقوة الشيعية الصاعدة.

أما «التوطين» السهل، فيحصل عليه كبار التجار والرأسماليين وأصحاب الشركات العملاقة، التي تهتم بالعقارات والأراضي وما عليها من إنشاءات ومصارف. ومن هؤلاء من لم يجد صعوبة في دخول «جنة التوطين»، من بوابته العريضة، ليقيم في مركز الصدارة وفي مراكز الثقل والنفوذ. من لم يسمع بالأسماء التالية : «يوسف بيرس (بنك انترا وكازينو لبنان، طيران الشرق الأوسط، وستوديو بعلبك)؟ حسيب صباغ وسعيد خوري (مؤسسا شركة اتحاد المقاولين العرب العملاقة)؟ ورفعت النمر وبدر الناهوم وباسم فارس واسعد نصر وعبد المحسن القطان وتيوفيل يوتاجي وعطا الله فريج وتوفيق غرغور وجورج عويضه ورضا إيراثي وفؤاد سابا وغيرهم» (من مقالة «مثيلة روما بعد سقوط القسطنطينية» لصقر أبو فخر).

هذه أنماط «التوطين» بالمفرق. فماذا عن مشروع التوطين الكبير؟

للإجابة على استحالة هذا المشروع، بالأدوات اللبنانية والدولية، نستعرض القوى العاملة من أجل التوطين والرافضة له.

يتألف معسكر التوطين من القوى التالية :

(أ) اسرائيل والصهيونية العالمية والجاليات اليهودية في العالم.

(ب) الولايات المتحدة الأميركية. ويمكن مراجعة مذكرات من كتب مذكراته من الوفود الفلسطينية، إبان محادثات، ما قبل وما بعد، كامب ديفيد.

(ج) المجموعة الأوروبية، التي ترى في حق العودة خطراً على يهودية الدولة.

(د) أغلبية النظام الرسمي العربي، بثقله المالي ونفوذه المذهبي. والدليل، محاولة التهرب من أدراج «حق العودة» في مبادرة السلام العربية المصابة منذ ولادتها بالموت السريري، كأرييل شارون الذي قصفها في رام الله، فسقطت على عتبة فندق الفينيسيا ولم يلمها أحد بعد.

أما المعسكر الرافض للتوطين فيتألف من القوى التالية :

(أ) الفلسطينيون في لبنان. (أكثرية 92%).

(ب) القوى الفلسطينية السياسية والكفاحية المسلحة.

(ج) الطوائف اللبنانية العظمى : الموارنة، الدروز، الشيعة، السنّة، ومن لف لفهم من الطوائف الركيكة عددياً.

(د) دول الممانعة والمواجهة، سوريا وإيران.

(هـ) المقاومة الإسلامية (حزب الله).

يضاف إلى ذلك، النص الدستوري الذي يحرم التوطين.

إذاً، من أين يبتدع الساسة اللبنانيون، تجار القضايا الكبرى برخص وابتذال، مسألة التوطين؟

لقد وفر ايهودا باراك، منذ أيام، الدليل الناصع والواضح، لحل مشكلة اللاجئين في لبنان. قال، مدافعاً عن قراره بسحب الجيش «الإسرائيلي» من لبنان في 25 أيار 2000، إن سبب الانسحاب نتيجة فشل الحرب التي خاضها شارون عام 1982.

لقد نجح شارون في تنفيذ خطته التي قضت، بطرد منظمة التحرير من لبنان، وفشل في تنفيذ الشق الثاني من الخطة، والقاضية بدفع الفلسطينيين (بعد انتخاب بشير الجميل ومجزرة صبرا وشاتيلا) في لبنان إلى الأردن، وفرض توطين هؤلاء بالقوة على المملكة، ليصبح الأردن، الدولة الفلسطينية العتيدة.

ظن شارون أن الحرب التي شنها، ستكون فاتحة لإيجاد حل نهائي وشامل، وبالقوة، للقضية الفلسطينية...

وعليه، ليس بوسع أي قوة أن توطن الفلسطينيين في لبنان، قد يستمرون في إقامتهم في لبنان عقوداً، ولن يكون التوطين سوى فزاعة، يلجأ إليها السياسيون في لبنان، لممارسة حروبهم الساذجة، تغطية لقضايا متهافتة.

التوطين أو حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، رهن بحرب اقليمية كبرى، قد تعيد الفلسطيني الى فلسطين او تشتته الى ما يشبه الابد.

يقولون هواجس مسيحية! ومتى عاشت الطوائف في لبنان، بلا هواجس ونوايا مبيتة ضد بعضها البعض... الهواجس، سفاسف سياسية. غبار عنصري.

بعض لبنان، حلة براقة من الخارج، واهتراء وتعفن من الداخل. ولن يشفى بعض لبنان، وهو بعض كثير، من عنصريته؟ ألن تتوافر له ذمة ليعامل الفلسطيني كبشري؟ أي برهان ضروري كي يثبت الفلسطيني أنه إنسان، وله حقوق تامة، باستثناء حق التوطين؟



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2165864

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

13 من الزوار الآن

2165864 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 13


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010