الاثنين 7 نيسان (أبريل) 2014

محنة المثقف العربي بين المعرفي والأيديولوجي

الاثنين 7 نيسان (أبريل) 2014 par حسام ابو حامد

عبّرت اليوتوبيا الأفلاطونيّة عن حلم المثقّف صانع الفِكَر في أن ينتزع من المجتمع الاعتراف به وبدوره القياديّ، لكن كان على المثقّف أن ينتظر قروناً عدّة قبل أن تصبح هذه اليوتوبيا واقعاً بمعنى ما وتحديداً في أوروبا القرن الثامن عشر، الذي أعلن فيه تشارلز دوكلاس بكلّ ثقة أنّ «أهل الفِكْر هم الذين يحكمون لأنّهم يصنعون الرأي العام». إنّه عصر التنوير الذي تعاظمت فيه سلطة العقل وسلطة المثقّف صانع الفِكَر وحامل مشروع الحداثة، ابتداءً من رسالة فولتير في التسامح (قضية كالاس)، مروراً بالثورة الفرنسيّة التي قادها فكر فلاسفة الأنوار، وصولاً إلى بيان المثقفين (زولا و قضيّة دريفوس).
ابتدءاً من القرن الثامن عشر برز المثقّف كموجّه وصانع للرأي العام متحرراً من سلطة الدولة والكنيسة، مكتسباً مشروعيته أمام الرأي العام من خلال دفاعه عن القضايا العامة. هكذا يمضي جان بول سارتر في القرن العشرين حاملاً لواء الالتزام ومنظراً له من خلال مجلّة «الأزمنة الحديثة» التي أطلقت عددها الأول في أيلول 1944. وسرعان ما انتقلت قضية الالتزام هذه إلى مثقّفينا العرب, فأعلنت مجلة «الآداب» البيروتيّة منذ عددها الأول في كانون الثاني 1953 عن أنّ الأدب «نشاط فكريّ يستهدف غاية عظيمة هي غاية الأدب الفعّال (…) أدب الالتزام«.
وبدعوى الالتزام, وجد المثقّف نفسه أكثر فأكثر متورطاً في السياسيّ فكراً وممارسةً، مدفوعاً بحسن النوايا وبالرغبة في التأثير في الرأي العام والتغيير الاجتماعيّ، ومتمترساً خلف الشعارات الكبرى لمختلف الأحزاب والتيّارات السياسيّة. وربّما كان للانتماء إلى خط سياسيّ تنظيميّ وحزبيّ معيّن دور كبير في رواج عدد من الأسماء الثقافيّة وتصديرها إلى شريحة واسعة خارج دائرة الثقافة النخبويّة. لكن هذا التداخل بين المشروعين الثقافيّ والسياسيّ كان على حساب الأول, إذ أصبح الثقافيّ رهناً بالسياسيّ لا يتحرك إلا من خلاله وبتوجيه منه، مما أدى إلى سيطرة حالة من السياسوية التي لا ترى في أي نشاط إنسانيّ بما فيه الفكريّ والثقافيّ إلا بعداً وحيداً هو السياسيّ نظرياً وعملياً، مما أدى إلى بروز أزمة مزدوجة على الصعيدين المعرفي والسياسي. تمثلت هذه الأزمة سياسياً بحالة من الرومانسيّة أدّت إلى العجزعن ممارسة السياسة كفنّ للممكن، وبتلك الدوغمائيّة التي أوقعت التنظير السياسيّ في الأيديولوجيا من حيث هي وعي زائف عجزت عن التأثير الفعليّ في واقع الأشياء. أمّا معرفيّاً، فقد أفصحت الأزمة عن نفسها من خلال فكر لم يعد قادراً على إدراك العام في الخاص، وعجز عن امتلاك البعد الفلسفيّ اللازم لتكوين المفاهيم الضروريّة للقبض على الواقع نظريّاً. وكانت النتيجة، أشباه من المثقّفين وأشباه من السياسيين أسهموا في فشل ذريع سياسيّاً وثقافيّاً.
ومنذ تسعينيّات القرن العشرين أخذت تظهر تحوّلات سياسيّة فرضت واقعاً سياسيّاً جديداً وأدّت إلى تصدّع في الشعارات السياسيّة الكبرى، ترافق مع فشل الأحزاب والحركات السياسيّة العربية عن تحقيق الحدّ الأدنى من هذه الشعارات، وبالتالي الإعلان الفعليّ عن حالة الإفلاس السياسيّ والتنظيميّ والاجتماعيّ لكثير من الأحزاب والحركات السياسيّة العربيّة، مما أصاب المثقّف السياسيّ أو السياسيّ المثقّف بمزيد من الإرباك الفكريّ والإفلاس السياسيّ، وكانت آثار ذلك كارثية على المجتمعات العربية التي تُركت عرضة لمزيد من التهميش والإقصاء الاجتماعيّ الاقتصاديّ لصالح النخب الحاكمة.
من خلال فكرة الالتزام أنيط بالمثقّف إلى جانب وظيفته المعرفية وظيفة اجتماعية. وكان من المفترض أن يكون السياسيّ مجرد أداة يمارسُ من خلالها المثقّف تلك الوظيفة الاجتماعية. لكن انجرار المثقّف إلى تلك الحالة السياسوية أدى إلى عجزه حتى الآن عن ممارسة الوظيفة المعرفية الاستشرافية وأصبح دوره مقتصراً على البحث في تداعيات الأزمات المتكررة على المجتمعات العربية وتقديم قراءة ارتجاعية للحدث. لقد أدى تغييب الدور المعرفيّ الحقيقيّ لصالح السياسيّ إلى الاخفاق في تلك الوظيفة الاجتماعية.
لاشك أن الثقافة بوصفها نتاجا بشريا في مجتمع معين هي منحازة وملتزمة على نحو ما وهنا سنكون أمام السياسي بلا شك، لكن هناك فرق بين الوعي السياسويّ الذي يُخضع الثقافيّ والفكريّ والمعرفيّ عموماً للسياسيّ وبين الوعي الذي يقبض على العلاقة الجدلية بينهما ويحافظ على الاستقلال النسبيّ لكل منهما تجاه الآخر. إن الفرق بين الحالين هو الفرق بين الفكر اللانقديّ والفكر النقديّ. الأول هو في نهاية المطاف شكل من أشكال الأيديولوجيا بوصفها وعيا زائفا. أما الثاني فهو معرفة. وإذا كانت كل معرفة لا تخلو من الأيديولوجيا فإنه وفي الثاني فقط تظهر وحدة المعرفيّ بالأيديولوجي. لهذا يلوذ الثاني بأحكام الوجود أما الأول فيبقى مجرد نظرة معيارية قيمية .
إن الفكر النقدي المرتكز على البحث الأكاديمي الرصين والجاد والقادر على النقد الموضوعيّ لما هو قائم من مؤسسات هو الذي يضمن الخروج من تلك الحالة السياسوية، والتمهيد لتلك الوظيفة الاستشرافية التي يلتقي فيها دور المثقف الاجتماعيّ بدوره المعرفيّ.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 40 / 2165653

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفن  متابعة نشاط الموقع نشاطات  متابعة نشاط الموقع متابعات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165653 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010