السبت 5 نيسان (أبريل) 2014

الوطن الممنوع

السبت 5 نيسان (أبريل) 2014 par خيري منصور

لو تناول أي ناقد حديث وبمنهج تفكيكي الأناشيد والأغنيات السياسية العربية في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لربما توصل إلى نتائج لا تخطر ببال من يستخفون بهذه الظواهر والإفرازات القومية والثقافية، فنشيد “الوطن الأكبر” على سبيل المثال الذي أوشكنا على نسيانه وقد لا تعرفه الأجيال الجديدة، شارك فيه مطربون من كل الأقطار العربية وبلهجاتهم، وكان المشهد على المسرح كما لو أنه أنهار أو سواقٍ تجري باتجاه مصب واحد .
وهذا بحد ذاته بعد رمزي للنشيد تماماً، كما أن الراية ليست مجرد قطعة قماش ملونة، لأن الملايين من البشر قد يموتون كي لا تنكس وتبقى ترفرف عالياً .
ونحن في العالم العربي لم نُقِم وزناً حتى الآن لهذه الحفريات المعرفية والبحث عن الدلالات الرمزية لأبسط الأشياء، لأن تناول القضايا بالجملة وعلى نحو تعميمي يسقط منه تفاصيل بالغة الأهمية والمغزى .
وأول ما يمكن رصده في الأناشيد الوطنية ذات البعد القومي الشامل هو أنها انحسرت على نحو ملحوظ، لتحل مكانها أناشيد محلية، وذلك تناغماً مع التحولات التي طرأت على مفهوم الأمة، وما يقابله من مفاهيم حول الدولة القطرية .
ويبدو أن كل أشكال وأنماط الأوطان مسموح بها باستثناء وطن واحد، هو الوطن الأكبر، بكل ما يؤطره ويجذره من هوية رؤوم لا تقبل الخصخصة أو التفريع، وبالتالي التفريخ إلى هويات صغرى تفرضها الطوائف والمذاهب .
الوطن الممنوع في قاموس العولمة وأدبياتها، هو الوطن الذي يشكل القاسم المشترك الأعظم بين كل الناطقين باللغة الواحدة، وأصحاب الذاكرة الواحدة والتاريخ الواحد، وهذه القواسم نادراً ما تتوفر لدى أمة أخرى، حتى باعتراف خصومها والمستشرقين الذين مهدوا لغزوها وقدموا للجنرالات والأساطيل بوصلة هي بمثابة الدليل .
وقد يكون العالم العربي وحده من قدم نماذج في الآونة الأخيرة لتغيير أناشيد وأعلام كأنه يشطر ذاكرته إلى ما قبل حدث ما وما بعده، وهناك من تطرفوا إلى حد المطالبة باستئصال كل ما له علاقة بنظام حكم، كما فعل بعض الروس حين طالبوا بخلع السكك الحديدية وتدمير العمران الذي شيد في الحقبة الستالينية .
ما هكذا تعامل الذاكرة القومية، وما هكذا أيضاً تورد الإبل والخيول وحتى الدبابات، وهذا ما قاله بالحرف الواحد الزعيم الراحل عبدالناصر لأحد الضباط الذي كان يدير الإذاعة ومنع أغنيات أم كلثوم لأنها غنت قبل ثورة يوليو للملك، قال عبدالناصر دمّروا الأهرام وأبا الهول إذاً، لأنها موجودة قبل ثورة يوليو وقبل ثورة 1919 وثورة عرابي أيضاً .
وهناك ظاهرتان يقول علماء النفس والاجتماع إنهما تخضعان للمزاج السائد في مرحلة ما، وقد تصلحان كمدخل نموذجي لقراءتها هما الأناشيد السائدة في ما يتعلق بالهوية والوطن وشكل المعمار، فالأقواس ليست كالمستطيلات أو المثلثات والزوايا المدورة ليست كالزوايا الحرجة . ولأننا مستغرقون حتى آذاننا في بحر السياسة يبدو أنه لا وقت لدينا لمثل هذه الحفريات .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2165442

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

2165442 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010