الاثنين 17 آذار (مارس) 2014

الأرشيف يقول أيضا ً....

الاثنين 17 آذار (مارس) 2014 par أيمن اللبدي

مقالات أختيرت من أرشيف ثلاث سنوات بين 2003-2005 ونشرت في صحيفة الحقائق الدولية يمكن لها أن تدلّل بحقيقة واضحة أن مشروع تخريب الساحة الفلسطينية لم يكن إلا مشروعا شارونيا بامتياز بلغ ذروته في هدم حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح التي نعرف منذ اجتماع بيت لحم في آب 2008.

من أرشيف مقالات 2003

[(عن أي فتح ٍ تتكلمون ؟)]

منذ أيام ونحن نسمع ما يصل من فصول هذه المسرحية الهزلية السوداء ودائما حول ما يسمى بالهدنة ، وطبعا هذا المسمى الهدنة هو ليس هدنة فلا يوجد أي شبهة من أي نوع كان يسمح بتوصيف ذلك الذي يحدث بالهدنة ، وإنما اختيرت حكاية هذه الصفة بدقة شديدة من قبل المنغمسين فيها ولتكون مسمىً خادعا ومقبولا على أذن من تشدَّد أولا وانساق تاليا وأيضا ليسهل مرورها على جماهيره وكوادره لاحقا ، ومهما كانت المبررات والتبريرات تسهيلا لتمرير خطة الطريق الصهيوأمريكية على النحو الذي تحب وتشتهي هذه الخطة في عين صانعيها والمروجين لها والمتحالفين معها فإن هذه جميعا ترقى إلى مصاف الجريمة التاريخية والتفريط الكبير الذي لم يعد ممكنا قبول الصلة به ولو حتى من باب الحوار ذلك المدخل الثاني والذي استخدم مع أداة الهدنة لقنص الانتفاضة والإنجازات الوطنية الأخيرة لقضية فلسطين .

واليوم لم يعد الهدف الرئيس والمطلب الأساس على جدول أعمال هذه الجهة المخططة هو اجتثاث الانتفاضة كما كان قبل فترة وجيزة كان طابعها المرحلية في التخفيف من أزمة الكيان وتمكين واشنطن من إكمال مسار خططها للمنطقة كلها بروية وهدوء لا سيما وأن هذا الهدف القديم أصبح بالنسبة لراعي هذه الخطط من استراتيجيي التخطيط البعيد المدى جزءا من المتحقق وفي اليد وذلك حسب ظنهم بفضل تسليم حكومة عباس وتعهد منبريها الأمني والإعلامي للقيام بهذه المهمة مقابل أثمان بخس على الصعيد الوطني لا تستحق أن ينظر إليها أصلا كمقابل بعد مؤتمر البحر الأحمر وما تلاه وربما تكون هذه الأثمان على صعيد آخر ذات بال في نظر من انغمس فيها ، بل لقد أصبح الهدف الآن هو شطب الفصائل الفلسطينية شطبا جذرياً وتسليم المفتاح لشارون وحكومته الليكودية ومع هذا الشطب طبعا إنهاء فلسطين كقضية ولا يهم المسحوق التجميلي الذي سوف يوضع لأن هؤلاء يعتقدون جازمين أنهم في وضع الإملاء وليس في وارد تقديم المجاملة ، بل إن ما سمته حكومة عباس هدنة واجتهدت في التركيز على هذا المسمى طبعا لتمرير المرفوض على الفصائل وعلى جماهير الشعب الفلسطيني ترفضه هذه الجهات المخططة والمنفذة في كل من واشنطن والقدس المغتصبة وتصر على إعادة تسمية الأمور كما هي دون مكياج.

يمكن لحماس وللجهاد أن تقدِّما عددا من الذرائع ولو في صورة اشتراطات لا تعني طبعا شارون ولا بوش الذين أكدا أكثر من مرة أن ما يعنيهم في نهاية الأمر هو ما تقوله حكومة عباس وطبعا لا نتوقع أن هذه الحكومة تقول بقدر ما هي أصلا جاهزة ومقبولة للسمع وليس للقول وإن كان لا بد من أن تقول فلتقل لشعبها ما يسهل عليها تمرير المطلوب لا أكثر ولا أقل ، ويمكن لحماس وللجهاد أيضا أن تشير إلى الضغوط هنا وهناك كتعليل لسرعة الانتقال في موقفيهما ولكن لن يكون من السهل عليهما أن يقولا لنا كيف تساوي الهدنة حاصل مشروع إعادة تموضع فقط وإكمال الفاصل الكانتوني وإعادة رسم وترسيم المغتصبات إضافة طبعا إلى استمرار الملاحقة خاصة مع الإعلان باستمرار الهدف الأمني لحكومة شارون دون أي عائق جغرافي كما أعلن صراحة والبقاء بعد ذلك في ظل الهدنة المعلنة .

أما الموقف النضالي الذي اتخذته الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فكان يكاد يكون الموقف السياسي الوحيد المنسجم مع الثوابت الوطنية والرؤى الواضحة للقضية ومنعطفها النضالي بل إن الأخوة والرفاق في الشعبية قد مارسوا ذات الصفة التي كانت لازمة متلازمة للأمين العام المؤسس د.حبش باعتباره ضميرا للثورة الفلسطينية وهم بموقفهم هذا لم يكونوا إلا حاملي هذه الصفة بكل ما فيها من شموخ ، ولكن اللافت أن حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح برز لها أكثر من موقف حسمه رعاة التيار الأسلووي الاقتصادي والمهادن باختطاف الحركة إلى موقع المقامرة من جديد بكل ما حققته الحركة الوطنية الفلسطينية حتى الآن في مقابل أسوأ ما يمكن توقعه على الإطلاق وهو الذي جعل كتائب شهداء الأقصى تصل عبر بعض من عناصرها وكوادرها إلى اتهام مصدري البيان بالهدنة نيابة عنها بعدم تمثيلهم للكتائب وعدم استشارتها قبل أن يتم تمرير موقف الرضوخ والتهليل لإعادة التموضع الجارية الآن ، ولم يحدث في التاريخ أن تنازلت حركة وطنية عن موقف نضالي متقدم طواعية مقابل إعادة تموضع لقوى الغزو طبعا تمهيدا لانقضاض جديد لا أكثر ولا أقل ، إن ضمير الكتائب الذي نطق مؤخرا هو ضمير فتح وهو وحده الذي يمكن أن يحدث تغييرا حقيقيا يوم يتلاقى مع ضمير الثورة في الرؤى والفعل .

فتح الآن ليست فتح التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية ولا هي فتح التي راقبت تجربة الخيار الأسلووي معطية له مهلة إنتاج نتائج وطنية على الأرض وإلا ابتدعت البدائل ، ولا هي فتح التي سمحت على الأقل في القترة السابقة لمعرفة أبعاد خارطة الطريق وإلى ماذا يمكن تطوير سقفها قبل الولوج إليها على هذا النحو الذي تم عليه ، لا بل هي فتح المختطفة من قبل تيار الخارطة والساكتين عنه تماما والذين استطاعوا أن يأخذوا فتح إلى ما أصبحت بعده مجرد ظل لحكومة عباس توقع على ما تلح في طلبه هذه الحكومة وما تمثله من تيار ولعل أحد أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الاختطاف هو عدم جدية هذا التيار الذي هيمن على الحوار الوطني السابق بمنع فتح الحوار على أبعد وأوسع آفاقه تحت مظلة إغناء الموقف النضالي وتوسيع القيادة الجماعية وتعزيز خطة استراتيجية وفهم وطني شامل يكون لكل قوى الشعب الفلسطيني في هذه الخطة موقع الرأي في الحوار وموقف التنفيذ بعد إنجاز الخطط ووضع الآليات له ، بل حصر هذا الحوار عنوة في تطويع الفصائل لموضوعة التهادن والهدنة وآليات السماح من جديد بإعادة الأمور إلى مربع الاحتفال بإعادة التموضع وتقديمه للشعب الفلسطيني على أنه إنجاز وطبعا مع ضرورة بعض التوابل المناسبة ولو تضمنت الإفراج عن عدد من المعتقلين وصرف عدد من المرتبات هنا وهناك وتنشيط التصوير أمام الكاميرات على أنها مفاوضات وهي ليست إلا مجرد تنسيق أمني في أفضل الأحوال أثناء إنجاز مهمة الانقضاض على المجاهدين في كل الفصائل دون استثناء هذه المرة ، ومثل هذه الفتح لن تستطيع أن تجند الشارع الفلسطيني خلفها فضلا عن أن تقنع الكوادر والعناصر حول العالم

بأنها لا تزال فتحهم وما كانت تمثله في جسم القضية الوطنية ، وعليه وحتى إعادة المختطف ممن اختطفه ومن داخل الحركة ذاتها وبالطرق الفتحاوية الواضحة المعلومة وأهمها المؤتمر الحركي العام ففتح التي تسمعون ليست فتح بل صوت خاطفيها ومحاصري قيادتها التاريخية ومزيفيي إرادة كوادرها المقاتلة ومطاردي روحها المنتفضة !

[(شعارات طروادة الفلسطينية الجديدة)]

ضرب قادة الكيان الصهيوني أخيرا السياسيون قبل العسكريين ضربتهم المتوقعة إجمالا واغتالوا الشهيد المهندس إسماعيل أبو شنب ظهرا وقبل أن تخفت أوداج كاتر الحكومة التفريطية من انتفاخها الأخير موجها ضد حركتي حماس والجهاد الإسلامي هذه المرة عقب عملية القدس الاستشهادية النوعية ، وظن البعض لوهلة أن مجرد إعلان الخطوات المزمع تنفيذها من قبل كاتر الحكومة إياها والتخويل الذي حصل عليه هؤلاء سيكون نقلة نوعية بالنسبة لهم تفيد في الانتقال إلى مربع الفيل انقضاضا على حركات المقاومة وتنفيذا للمطلوب في معرض الطلب الرئيس المتعلق أساسا بالدور المنظور من مجيء هذه الحكومة ، وقبل أن تغرب شمس اليوم التالي أجاب شارون وخيّب آمالهم كثيرا وقفز عن التنسيق والتلفيق وأثبت لهم عيانا بيانا أنهم ليسوا إلا إحدى حجارة الكومبارس التي لا تنفع حتى لو استبدلت في اللعبة ولا يمكن أن تستبدل إلا بوصفة خاصة شرطاها أن لا يكونوا إلا كومبارسا وأن لا يكونوا حتى بعد الاستبدال قادرين على الانتقال ذاتيا ً .

حماس طلبت على لسان هنية استقالة حكومة عباس ، لكن نحن هنا بالذات لا نطلب استقالة هذه الحكومة الآن بل نطلب من كاتر هذه الحكومة العتيد بدءا برأسها الأول ومروراً بلسان حالها وزير الإعلام الفذ ا ويدها الأمنية المفوّضة بالبطش والتنكيل والزائد في كاترها مؤخرا الوزير عبد ربه أن يبقوا في ذات موقعهم ليس لسواد عيونهم مع انه لم يعد لها لون بعد هذه اللطمة الشارونية بل ليثبتوا أنهم حكومة كما يقولون ويتفضلوا ليقدموا أول مهام وأجندة أي حكومة في هذا العالم بحماية الشعب الذي تدعي أنها تمثله في مثل هكذا ظروف !، نعم... نطلب من حكومة عباس اليوم طلبا واحدا لا غير نغلق معه كل صفحاتها السوداء بكل ما فيها إن قامت بهذا الدور ووجهت معه قواها السياسية والدبلوماسية والعسكرية التي كانت للتو تهدد به الفصائل وجماهير الشعب الفلسطيني لتطلب حق هذه الفصائل وهذا الشعب ولتطالب بدم الشهيد المهندس أبو شنب ممن سفحه أمام أعينها وتحت مواضع أقدامها وفي شوارعها التي لم تكن قطعت بعد .

طبعا حكومة عباس لم تفعل ذلك وكل ما فعلته أنها أدانت هذه العملية بجمل منمقة أقرب إلى مقام السقوط الذي أثبتته هذه بإصرار عجيب حتى الساعة ، وقالت بنوع من الغنج أن هذه العملية لا تخدم السلام ؟ عن أي سلام تتحدث حكومة عباس غير معلوم بتاتا في هذه اللحظات وكل ما يذهب مع زبد مثل هذه الحكومة هو في نهاية الأمر من جنس خيبتها حتى في إنقاذ رأسها بعد أن اكتشفت ورأت رأي العين أنها لا تعدو أن تكون كومبارسا كانت روابط القرى على الأقل تمارسه بنوع من أنفة الجاهلية حتى وهي تنفذ ما يراد أن تقوم به ، بينما هذه الحكومة لم تصل في ردة فعلها ولا في فعلها ذاته لو وجد يوما حتى نصف الدرجة التي كانت عليه هذه الروابط يوما من التعفف في بعض المهام حتى مع تنسيقها وتعاونها المفضوح مع إدارة ميلسون المدنية الصهيونية والتي أقيمت أصلا لتمرير مرحلة التدجين وتقديم حلول التركيع التي لن تختلف نتائجها في الحالتين ما بين دور الروابط ودور حكومة التفريط كثيرا لو تمتا فرضاً .

هذا الواقع هو واقع فلسطيني لا نظن أنا بحاجة لاستعارات تاريخية من عند أمم أخرى لا من عهد بعيد ولا من عهد قريب لوصفه وتشبيهه ، وفي ذلك أيضا لن نحتاج مثلا لأن نقول هذه هي حكومة فيشي العباسية ، فالروابط على أي حال كانت أقرب مثلا وأوضح تعبيرا طالما أن الممارسة هي المأسدة على فئات وفصائل هذا الشعب وجهاده وتقديمه لقمة سائغة أمام العدو الصهيوني الذي أصبح أكثر شرهاً من أن يقبل بمجرد هذا الوضع بل يقفز أماما ويرفع من سقف ما يريد في كل خطوة تتلو تطبيق حكومة السلطة تطبيقا معيبا كالذي اجترحته فقط قبل أربع وعشرين ساعة من استشهاد القائد إسماعيل أبو شنب ، والأمثلة على تصعيد شارون في كل مرة تخنع فيها هذه الحكومة أكثر هي أوسع من أن تعد أو تحصى وفي كل القضايا الأساسية بدءا بالقدس واللاجئين والأسرى والجدار العازل والانسحابات وحتى قضية المطاردين والمطلوبين.

مثل هذا الوضع ينتج عن حركة في أرض واضحة وليس مجرد تخبطات كما كنا وكان عدد من المراقبين يظنه حتى الساعة ، والفضل في كشف الرؤيا ليس لإعلان عباس عن توقعه بلوم عرفات إن وقعت حادثة كعملية القدس وما فهم من تحريض على أساس ذلك وبشكل واضح سمج على ما تبقى من عرفات خاصة بعد أن وصل الحصار مداه وانتقل إلى حصار من نوع خاص على أيدي هذه الحكومة وعلى يد عدد ممن كان داخل خيمة أبو عمار نفسه بهرب سلاّم مؤخرا ومحاولة استقطاب عدد آخر من أمثاله إلى صف هذه الحالة ، بل ظهر بشكل واضح عبر البيان الذي أراد أن يضع حصان طروادة الفلسطيني الجديد في الساحة عبر شعار السلطة الواحدة والقانون في مقابل المقاومة والمطالب الجماهيرية بتحقيق عنصر الردع الفلسطيني والذي مثلته حماس في عملية القدس الأخيرة حتى والهدنة ما زالت معلنة وما زالت هي تقول بها قبل أن تذهب هذه الأخيرة لاحقا مذهب إلغاء التعليق مع الجهاد بحسب بيانها الأخير .

حماس والجهاد وكتائب الأقصى وبقية الفصائل المقاومة سعت باختصار لتحقيق عنصر ضبط الموجة حتى والهدنة معلنة ورغم خروقات الكيان الصهيوني التي وصلت قرابة الألف خرق ورغم كل ما حاط بعملية الأسرى الموعودة والتلاعب بالانسحابات وما حاولت حكومة عباس أن تظهره وكأنه الثمرة التي كانت تسعى لقطفها لتقديمها صك براءة لتوجهها في وجه هذه الفصائل ، لقد صبرت جماهير الشعب الفلسطيني والفصائل وأعطت وقتا كافيا لحكومة عباس في موضوعة الأسرى فماذا كان النتاج ؟ وصبرت أيضا في موضوعة الإنسحابات فماذا كانت الحصيلة ؟ وصبرت أطول من ذلك في مسألة الجدار فما الذي تم وتحقق ؟ لا نعتقد أن عاقلا يعلّق أملا على ما ستقدمه حكومة الكيان لحكومة عباس في أي ظرف ومهما طال الصبر وطالت المدة فالقضية أصلا غير مؤسسة على عناصر الإنضاج بل على عناصر القطف السريع وعلى الدوام في نظر شارون طالما هو يعتبر هذه الحكومة كومبارسا ودورها الرئيس هو اغتيال المقاومة .

نعود إلى مسألة تحقيق ضبط الموجة والذي هو في الواقع الترجمة الحرفية لتحقيق معادلة توازن الرعب الذي أرعب شارون واستراتيجييه وتمثل أمامه قبل أن يظهر في صحافة الكيان وخاصة العسكرية منها إرهاصات حلوله قريبا كواقع قادم لا محالة لو نجحت فصائل المقاومة في تنفيذ عملية استشهادية كل مرة من باب الرد على كل خرق كبير من قبل الكيان الصهيوني واستمرت وتيرة المجابهة على هذا الأساس خلال المدة المعلنة ، ومثل ذلك كان سيعتبر الدخول الحقيقي في اللعبة القوية المفضية تاليا إلى خربطة الطريق أمام شارون وبالتالي أمام رافديه ومريديه وسيعتبر تحقيقا لنقلة نوعية في إدارة الصراع لو بقيت الهدنة أو لم تبقى تاليا لهذه المدة ، إذ لن يهم أمرها بعد ذلك كثيرا ولذا لجأ شارون فورا إلى الفرار بعيدا عن وضع كان سيكون صورة مماثلة لما فرضه حزب الله والمقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية على الجيش الصهيوني وقطاعاته في جنوب لبنان وشمال فلسطين المغتصب .

في لبنان استطاعت المقاومة أن تحقق شروط هذه المعادلة ليس عبر الكاتيوشا كما يمكن أن يظن الناس سريعا بل عبر النابض الأساس والرافعة الرئيس التي تشكلت فورا ً من موقف الدولة اللبنانية وداعمي موقفها إقليميا ومن الموقف الشعبي اللبناني الذي شكلته جماهير هذا الشعب معا وكانت أداة تنفيذه هي الكاتيوشا ، في فلسطين العمليات الاستشهادية وصواريخ القسام مهما كانت في ميزان الأثر العسكري فإنها كانت ستشكّل معا أداة ناجحة بامتياز خاصة مع الجاهزية الكفاحية العالية للفصائل وجماهير الشعب الفلسطيني ولكن نقص النابض وغابت الرافعة ، فالنابض مكسور بموقف إقليمي يخص مربع فلسطين تشكله ساحة تختلف عن ساحة سوريا فهي ساحة ترتبط بمعاهدات سلام مع هذا الكيان وليست مستعدة لتشكيل هذا الرافد والأهم أن حكومة عباس تنبطح أمام هذا الموقف مما يغري هذا المربع بالمزاولة من ذات الوصفة وذات الصفة ، ولو كانت حكومة عباس فرضا على غير ذلك الموضع لربما وسع البعد الإقليمي على الأقل أن يحيّد ويكتفى بالموقف الجماهيري الذي سيعوَّض حتما هذا الغياب في مثل هذا الفرض .

هنا نكتشف أن حكومة عباس وحتى الحكومات التي سبقت هذه الحكومة في جهة واستراتيجية المقاومة في جهة مضادة تماما بل نرى بوضوح أن دور هذه الحكومات التي قامت باسم السلطة الوطنية لا يعدو أن توجه هذه السلطة أجندتها المتفرعة والمعادة حينا والمستعادة أحيانا أخرى ضد استراتيجية المقاومة ولن نرى في قضية السفينة المحتجزة برهانا على رغبة متأخرة في تحقيق هذا التوازن مسبقا حتى ولو زعم ذلك طالما أن ذات الحكومات هي التي أقفلت طواعية وبحماس عجيب بعض أنفاق رئيسة استخدمت عبر الحدود المصرية ، إذن لم تكن حكومات السلطة حتى في أثناء الانتفاضة ومنذ انطلاقها تنطلق من التوازي مع الجهد المقاوم بل كانت دوما عنصرا كابحا يأمل بقطف ثمار آنية محرمة جراء واقع الجهد الكفاحي لإضافته ورقا في سلّة اللعب التفاوضية لا أكثر ولا أقل .

حكومة عباس قد أوضحت نفسها بجلاء من خلال هذا البيان الذي أعلنته عقب عملية القدس الأخيرة دون لف أو دوران حتى وإن خرج مثل هذا البيان باسم القيادة الفلسطينية وسبقته أو تزامنت معه اجتماعات مع اللجنة المركزية لفتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تحولت إلى ماسك ختم يمهر البيانات المطلوبة في هذا الاتجاه لا أكثر ولا أقل حينما يراد اتخاذ خطوات باهظة كالتي أعلن عنها في البيان إياه ، ولذا فإن وجود هكذا حكومات هو معطّل أولي في طريق تحقيق المعادلة التي أرادتها المقاومة والتي لو نجحت اليوم أو لو نجحت سابقا في أثناء السنتين الأوليتين من عمر الانتفاضة لأمكن اليوم النظر بشكل مختلف تماما لواقع الحال ، ولأمكن تصوّر انسحاب غير مشروط كالذي تم في جنوب لبنان ولما فرضت علينا معادلات جديدة من نوع “دحلنة أجهزة السلطة” وإنشاء الجدار العازل وما تبقى وتفرع من نتائج وتفرعات ينجح الكيان الصهيوني دوما في إدخال الحركة الفلسطينية إليها جراء هذا العيب الإستراتيجي على الساحة الفلسطينية .

تقول السلطة الوطنية بوحدانية السلطة وسيادة القانون ولم تخالف فصائل المقاومة أيا من هذا بل الذي خالفه فعلا هو حكومة عباس نفسها ، لم تزاحم الفصائل السلطة الوطنية على كراسيها ولم نجد دليلا واحدا يقول بعكس ذلك ، كما لم تظهر هذه السلطة يوما واحدا في معرض حماية هذا الشعب لا وحدها ولا مع غيرها ، بل ظهرت دوما متخلية عنه في كل الظروف بلا استثناء وقمعت حتى الأجهزة التي حاولت أن لا يتعارض فيها الضمير الوطني واشتركت في واجب ردع العدوان بل وحاكمت من تجرّأ على مشاركة الفصائل في ردها لأي من الاعتداءات على المدن الفلسطينية ، وفي المقابل عملت الفصائل دوما على ضرب الكيان الصهيوني في العمق في كل العمليات الاستشهادية ولو كانت هذه هي المقصودة بخرق القانون فلتتفضّل الحكومة وتقول لنا بوضوح اسم هذا القانون وأي قانون هذا الذي تتحدث عنه اليوم اللهم إلا أن يكون قانون حماية العمق الصهيوني ؟

في المقابل وضعت هذه الحكومة خلف ظهرها فعلا كل القوانين عبر الفساد والإفساد واخترقت أصل القوانين وهو القائل بأن دور هذه الحكومة الرئيس يفترض فيه توفير حماية دماء ومقدرات هذا الشعب ! إن أي قراءة من أي وجه كان لن تصل بالموضوعي إلا إلى هذا الاستنتاج ، واللطيف أيضا أن هذه الحكومة ذاتها تعمل خارج قانون الشرعية فهي في زمن انتهى فيه صلاحية مرجعها أي المجلس التشريعي وحتى فترة الرئيس عرفات الرئاسية قد انتهت أيضا دون تجديد في دورة جديدة وهو دونها يمكن بقاؤه على أساس رئاسة اللجنة التنفيذية أما هي فلا تمتلك أي صفة من أي نوع ، إذن عن أي قانون تتحدث حكومة عباس وعن أي وحدانية وما المقصود بهذا غير أن يكون شعارا لطروادة الفلسطينية الجديدة ، مثل هذا الشعار الطروادي يذكّر بشعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل الذي ملأ الدنيا صراخا عقب انتهاء معارك الاجتياح الصهيوني للبنان وخروج المقاومة منه ، يومها دارت معارك طرابلس تحت ظلال هذا الشعار .

طبعا مفهوم تماما أن الوضع الذي أفضى للمواجهة آنذاك كان نتيجة تراكم عدد من العوامل ومنها ربما ما استخدم مظلّة لهذا الشعار عبر الخلاف السوري الفلسطيني مع قيادة الرئيس عرفات ، وكان يمكن آنذاك أن تحل الأمور مهما تعقّدت وأن يفضي ذات الشعار المرفوع باسم القرار الوطني المستقل إلى نتيجة أخرى ترضى به سوريا ويبقى العمل الوطني الفلسطيني في اتجاه مقاوم يتمتع بما تمتعت به الحركة الوطنية اللبنانية، ولكن هذا الشعار هو ذاته الذي أفضت الحركة المطلوبة منه يوم ذاك إلى اتجاه مختلف تماما ليحسم تاليا عبر ساحة مصر المبعدة عقب كامب ديفيد وباتجاه التسوية على قاعدة الكامب أو بإحدى تفريخاتها ، وهو ما كان نتيجته وحصيلته طبيعيا في أسلو وما بعده وهكذا ترجم هذا الشعار نفسه إلى ما هو قائم اليوم بوضوح شديد واستطعنا معه أن نتيقن أنه شعار طروادي ألقى في النهاية عبر ممثلي أسلو وعلى رأسهم عباس بالنضال الوطني في خانة الكيان الصهيوني أسيراً مكبّلا باستراتيجيا الأوهام .

الانتفاضة الفلسطينية حقّقت الجانب النشط والفعلي في هذا الشعار السابق وأطلقت القرار الوطني الفلسطيني الحقيقي المستقل من عقال أسلو الطروادي ودخلت مراحل جديدة كان بمقدورها أن تحدث تغيّراً استراتيجيا في مسار القضية الفلسطينية ، ولكن التيار ذاته الذي تكفّل أصلا بحرف الشعار الأول وتحويله شعارا طرواديا عاد من جديد لممارسة ذات الدور الطروادي وهذه المرة من خلال الشعار الجديد المتمثل في وحدانية السلطة وحكم القانون ، التناغم الأمريكي جاهز عبر إعلان خائب عن تجميد أصول قيادات المقاومة وتصريحات مسؤولي الخارجية الأمريكية ، والانتظار الصهيوني أيضا جاهز عبر مهلة اليوم المعطاة بانتظار رؤية هذه الحكومة في مربع الفيل وكأنه لم يحدث مثل هذا العمل القذر صهيونيا بعد وتصريح لسان حال هذه الوزارة مؤخرا وقبل ساعات يفيد ويؤكد استعداد الدخول في الدور الطروادي الجديد .

والسؤال هل سيتمكن الطرواديون من جديد في إلقاء المعادلة عبر هذا الشعار في سلة شارون ؟ أم أن لفصائل المقاومة ولجماهير هذا الشعب المرابط ولمن تبقى من جماهير أمتنا العربية والإسلامية كلمة أخرى ؟ هذا في الواقع ما سوف تكشفه الأيام المقبلة وتحديدا الأسبوع الأول عقب عملية شارون القذرة باغتيال الشهيد إسماعيل أبو شنب .

[(تبَّت يدا أبي دَحَل ٍ وتب ْ.....)]

حركة الشبيبة الفتحاوية الطلابية في رام الله قالت في بيانها أن لحظة الحقيقة قد اقتربت وزادت أن حكومة السيد محمود عباس دون الكنية كما يرغب بذلك هو ، أشبه بحكومة مجلس حكم بول بريمر في العراق المحتل ، وسبق أن قلنا أن التشبيهات هذه من قبيل الرياضة غير المفيدة على الإطلاق في هذا الظرف الذي اخترقت فيه هذه الحكومة كل الحواجز سقوطا إلى الدرك الأسفل بحيث أصبحت في نوعها قابلة لأن تكون مرجع التشبيهات لمن أراد التشبيه فيما هو قادم من زمن وليس العكس .

أما قضية اقتراب لحظة الحقيقة فهذه أيضاً فجيعة لأن هذه اللحظة بالذات قد مرّت بالجميع وأصبحت ماضيا وأن نوعية الحقيقة التي أصبحت نفلا عن الرؤيا ونفلا عن القول أيضا فقد أصبحت مع رسالة الدحلاني هذا والذي كشف عنها ونشرت في مواقع الإنترنت حقيقة من نوع خاص ، لم يعد ممكنا اليوم التحايل على واقع مدرك حتى دقائقه التفصيلية التي ما عادت هي ذاتها بحاجة لمن يوسعنا تنظيراً وتحليلا لأنه لم يعد هناك من مركّب بتاتا وأصبحت كل الأمور في أبسط أشكالها التي لن تنحل بعده إلى ما هو أبسط فلقد وصلنا إلى الإليكترون الخياني أيها السادة في ذرات الموقف ، وانكشفت كل المخفيات وما عاد هناك أعظم ، ولزم أولا هذه الحكومة ولزم السيد محمود عباس إعلانه المزدوج بالبراءة من هذه الرسالة والبراءة من صاحبها قبل كل شيء .

عصابات المافيا التي يتحدث عنها من هو أسوأ من المافيا التي على الأقل كان لها أخلاق الأسرة الواحدة التي لا تبيع أيا من أعضائها مع سخف المقارنة التي اضطرتنا لها عبقرية السقوط الدحلانية ومن وراءها ، والذين يريد هذا الدحلاني اجتثاثهم من أصولهم واجتثاث أفكارهم وآرائهم عبدا بين يدي هيكل الصهاينة نقول له بصوت واضح أنك قد بلغت في عتهك كل مبلغ وهذا أهون الرتب ، وإن الأفكار التي تريد استئصالها هي نبت الأرض التي تدنسها بقدميك يوميا وتسمسر على ما شربت من دماء من أجل الحياة الراكعة تحت سوط الأسياد الذين تعدهم بقرب التخلص من أبناء لهذه الأرض بررة كل همهم حياة تسر الصديق أو ممات يغيظ العدى ليسوا متطفلين إلا بقدر أصلك وما ضربت من مثال في أداء الأمانة وخلق المؤتمنين ولأرض لن تقبل هؤلاء الذين تمنيهم الأماني وما يمنيهم الشيطان إلا غرورا .

تابعنا ما رآه عدد من الأخوة المحللين وآخرها مقالة الأخ بلال الحسن حول نوعية الخلاف القائم في الساحة الفلسطينية وإحالته إلى الجهوية في وجهة النظر وليس للشخصانية أو الفردية ، ونتفق معه في ذلك تماما بيد أنا نرى أن المعادلة التي أسعفنا بها تحليله الدقيق ما عادت قائمة حيث اتضح نوعية الهدف “الوطني” الذي تراه حكومة عباس من خلال هذا الدليل القطعي وغير القابل للتأويل ، ولن يكون منفذا أن يقال بأنه غير ملزم لحكومة طالما أن الحكومة مسؤولة بالتضامن وحيثما كان السبب المعلن لحرد رئيس هذه الحكومة هو مطالبته بمزيد من الصلاحيات الأمنية في يد كاتبها ، وإن كان يدري هذا الرئيس بمثل هذه الرسالة والتوجه فهي مصيبة وإن كان لا يدري فالمصيبة أعظم وفي الحالين فإن بقاء هذه الحكومة أصبح جريمة وطنية يشترك بها كل من يسكت عنها بعد ذلك.

قلنا وطالبنا في كل مقالاتنا السابقة وأكثرها وضوحا “النيابة ضرورة وطنية” بضرورة هذه النيابة وناشدنا مرارا القيادة الوطنية الفلسطينية والرئيس أبو عمار واللجنة المركزية لحركة فتح والفصائل المختلفة وكذا فعل مئات الكتاب والكوادر الفلسطينية وعدد أكبر من المثقفين بأن يصار إلى تشكيل قيادة جماعية تكون بديلا للهرطقة الحالية التي شجعت هذا الدحلان وغيره على أن تمتد لرمز الثورة الفلسطينية المعاصرة وقائدها على هذه الصورة الوقحة الخائنة والغادرة وهي ذات اليد التي لم تنبت إلا بعطف ورعاية هذه القيادة وكانت أول ما فعلت هو عض هذه اليد والقفز عليها بأخس ما تكون الصفات ، وناشدناك يا أبا عمار أن تقوم فورا بوضع إطار ضمان الحماية وصمام الإمان الوطني لهذه المسيرة عبر هذه النيابة وعبر هذه الجماعية ولكنك ما زلت تعطي فرصة تلو فرصة فماذا تراك معطيا عقب ذلك ؟

نعم أصرَّ السيد محمود عباس على التشاور مع الرئيس أبو عمار إبان الوساطة المصرية وهو إصرار من لم يكن بعد قد قدّر ظرف فتح المواجهة على مصاريعها لا أكثر ولا أقل ، وتمنع حتى الساعة عن تنفيذ الفصل الثاني من المواجهة مع الشعب وفصائله المقاتلة أو وجهة النظر الثانية لأن القوى اللازمة لذلك لم تصل الذروة بعد التي تؤهلها لدخول هذه المرحلة ليس إلا ، وحينما ضاق صدرها بالوقت مهدّت من باب خلفي لدعوة أساطيل الأمريكان تحت حجة وجود القوات الدولية كجزء ضامن من خارطة الطريق التي ماتت وبالدليل الرئاسي الذي حاول أن يخفف من درجة وضوحه السيد أبوردينة عبثا ، ونحمد الله أن أساطيلهم تنوء بكلكل ولم تعد تحسن القيام وهي غارقة في اذنيها في الوحل الذي حشرت أنفها فيه غطرسة وصلفا ، فالمسألة ما عادت في طور الشاعرية اللغوية ولن تنفع بعد ذلك محاولات تشكيل اللغة على قاعدة الزجاج العاكس الشفاف لأنه لم يعد هناك من شعاع ليعكس .

عدم حضور اجتماعات اللجنة التنفيذية من قبل السيد محمود عباس متكررا هذا النوع من التصرف لأكثر من مرة في ضوء الاكتفاء بالعتاب فقط رغم خطورة مدلولاتها هو ذاته الذي سيكون معه تشنيف آذان المجلس التشريعي اليوم بترهات خرافة الانجازات لحكومته خلال مائة يوم ورفض النقاش أمامه لهذه الإنجازات والوصول إلى مغادرة مبناه لو طلب عكس ما أراد الرئيس المستأسد وقد كثرت البغاث واستنسرت ، ولا ندري هل سيرفق خارطة تفصيلية أيضا بمجمل الكوارث التي لحقت بهذا الشعب الصابر المرابط في ظل هذه الحكومة العتيدة خلال هذه المائة يوم من السقوط المدوي أم سيترك الأمر لحكومة شارون حتى تقرأها إنجازات لها أمام الكنيست الصهيوني لاحقا .

أيها الرئيس عرفات لم يعد الأمر محتاجا لكثير من تلكوء وتردد أمام ما نعلمه علم اليقين من حرصكم وحكمتكم وحيثما هي الشرعية الباقية الآن في رئاستكم للجنة التنفيذية فإن إقصاء هذه الحكومة الآن وليس غدا أصبح في حكم الواجب الوطني وإن إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية وإسناد مهمة قيادتها إلى مجلس أمني قومي أصبح في حكم الفرض، والسنة بعده حكومة وطنية جماعية نظيفة ومراجعة شاملة ولا يقال إنما هي فورة غضب ونزق استخف أو صيد في ماء عكر فما عاد هناك من عكر إلا عكارة وجوه شاهت وأيدي تبت وهلكت بعد ما قدّمت دليل الانتساب إلى ما هو غير وطني وغير فلسطيني وغير إنساني ، إن عدم النهوض بذلك الآن يترك المجال مفتوحا أمام أخطر الاحتمالات التي ستكون باهظة الثمن وأعلى من أي ثمن آخر ومهما كانت السلبيات الناشئة أو المضاعفات عن هذه الخطوات في ظن من يظن فإنها بلا شك ستكون محدودة ومؤقتة في ضوء تفجير المعادلة التي ما عادت قائمة إطلاقا ، وفي أفضل الأحوال فإن التضحية بحكومة وتجربة أفضل من التضحية بمسيرة هذا الشعب وإلقائها في مهب الريح.

[(حكومة مع خصومة “نعم” .......قيادات أنابيب “لا”)]

ولدت لتسع عشرة ليلة ٍ خلت من رمضان الحالي أخيرا حكومة السيد أحمد قريع تامة من غير نقصان بسبب طارئ أو غير طارئ ، ومنح المجلس التشريعي هذه الحكومة العتيدة الثقة بأغلبية واضحة ، بينما وجدت أزمة وزارة الداخلية طريقها للحل فجأة ، ولم تعد تعكرِّ صفو الساحة الفلسطينية السياسية هذه الأزمة التي نشبت قبل فترة وجيزة بكلِّ ما حملته من مضاعفات أحيانا ومن تجاذبات أحيانا أخرى ، والأهم من ذلك كلِّه هو ما حملته عملية الولادة من اختفاء مظاهر الاحتقان المفتعلة في بعض القطاعات والرهانات الخائبة في قطاعات أخرى بحيث تم إدراك حجم التهويل في بعض الصور التي كانت حتى عهد قريب شاغلة الشاشات ومثيرة المشاغبات دون رصيد سوى ما أودعته الفضائيات .

حسنا نعلم تماما أن تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة برئاسة الأخ أبو علاء ينتظرها وقت هام قبل أن تشرع في متابعة مهامها الوطنية في هذه المرحلة وندرك أيضا أن من أهم ما أنيط بهذه الحكومة على الصعيد الفلسطيني هو متابعة الحوار الوطني الفلسطيني والتأسيس لحوار دائم متفاعل ينهي حالة سادت من مروره ببعض الرشوحات أحيانا والنزلات القوية أحيانا أخرى ويقفز عما هو معلوم عنه من سمات الموسمية والمناخية والتوظيفية ليصبح نشاطا مستمرا متصلا ً منتجاً وسيلة لا غاية في حد ذاته ولكي يستوعب فيه ومع إنجاز ذلك حوله كل طاقات ومقدرات الشعب الفلسطيني وزخم فصائله ومؤسساته وجماهيره في كافة مساحات التواجد والرباط .

وإذا كانت عملية الحوار الوطني هي أول المهام التي يجب أن تشرع في التأسيس لها حكومة أبو علاء وفق هذا المنظور بعيدا عن سيوف الوقت وحساسية الظروف طالما أن الحكومة العتيدة قد تشكَّلت وليس لديها من وجع تعانيه في هذه الناحية حيث امتصت حكومة الطوارئ الأولى هذا الجانب ، فإن العملية التي يجب أن تنتهي بها هذه الحكومة في هذا الجانب هو على الأقل بملامح الاتفاق الوطني حول المشروع الواحد والبرنامج المتفق عليه في مواجهة العدوان الصهيوني المرشَّح برغم بعض مظاهر الترطيب التي لها أهداف ليكودية خاصة برسم إعادة شحن بطارية الحقد الصهيوني عند الانتقال للجزء التالي في المواجهة المفتوحة .

وفي ذات الوقت الذي يجب أن تكون فيه خطى الحكومة مؤسِسة لهذا المشروع الحواري ولهذا البرنامج الاتفاقي فإن على الحكومة أيضا أن تعمل على الاتجاه الموازي لهذه النقلة بضمان التهيئة لانتخابات فلسطينية داخلية على كل المستويات وأن تكون جاهزة أيضا لتنفيذ هذه الانتخابات لو أتيحت الظروف لها بحيث تبقى الصورة متصلة وخالية من الفراغات والشقوق التي تكلِّف كثيرا لو حلّت دونما جاهزية ، وفي هذا الجانب فإن مشروع الهدنة الذي نشكُّ أن يستمرَّ الحديث حوله طويلا -طالما بقيت حكومة ليكود في تصعيد خطواتها- ولو حدث أن توفّرت الظروف فإن هدنة ما يجب أن تبدأ من الطرف المعتدي وبضمانات أساسها قوات فصل أممية وقرار من مجلس الأمن يحدد ذلك .

هنالك برنامج كثيف بانتظار حكومة الأخ أحمد قريع وهنالك عدد من المفاصل التي يمكن تناولها في قصة ولادة حكومة أبو علاء كما يمكن قراءة البرنامج الذي تقدمُّه الحكومة بتفصيلاته والاستفاضة حول هذا الموضوع وسنترك ذلك إلى جزء آخر في قصة ولادة الحكومة الفلسطينية فرضت حقيقته ولادة هذه الحكومة على هذا الشكل وهذه الصورة ونرى في ولادة حكومة السيد أحمد قريع هذه الجواب الشافي والرقية الفلسطينية لكل من يشكو الأوهام وآلام توافد وذهاب الأيام في حفلة من مبالغات الرهانات والأرقام وحساسية الصدر والعقل والأنف بالزكام كما نرى أيضا فيها إشارات تتلو عملية الرقية الفلسطينية لأطراف بعينها حتى لا تغرق في الذهاب إلى أبعد مما توهّمت .

أما الاستخلاص الذي خرجت به ولادة الحكومة العتيدة فهي وإلى من يهمه الأمر تدور في هذا الأبعاد :

أولا : - فلسطينيا

وهي الأهم أظهرت هذه العملية أن ظاهرة “قيادات الأنابيب” لن تمرَّ في الساحة الفلسطينية وخاصة الساحة الفتحاوية ومهما تطوَّرت أساليب التهجين أو التلقين أو حتى التسمين فإن المؤسسة بقوانينها الوطنية الأصيلة تبقى هي الرحم الطبيعي الذي يرفض هذه البويضات المجانية في مختبرات الشارونية والبوشية ويلفظها حتى قبل أن تحاول الالتصاق بجدران المؤسسة ، ولن يشفع لها أو يغنيها لو كانت تحاول ذلك بالطرق الحديثة والميكانيزم الذي يغلب عليه وصفات التلميع الهولوويدي من نمط “كيف تصنع ترافولتا من جديد ؟” ، لقد أثبتت هذه المرة كما كل مرة سابقة بأن المؤسسة الفتحاوية كما توقعنا تبقى هي المركز الذي لن يسمح بقيادات مبتسرة ونصف مبسترة .

لقد أصبح واضحا أن توهُّم حدوث انقلابات على طريقة خروج بضع عشرات من مرتزقة هذا أو ذاك بأموال دفعت تحديدا لتنفيذ مثل هذه المهمات الاستزلامية القذرة والتي أخرجت تاليا من خرج بها ومن أخرج لها من ربقة المؤسسة وحمايتها مما يتوجب معه أن تأخذ هذه المؤسسة اليوم حقها التام من هؤلاء النفر الذين أشاعوا جوا ً قبيحا وخطيرا يصل إلى حدود تهديد هذه المؤسسة ذاتها ، وعليه فإن حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح بلجنتها المركزية وبمجلسها الثوري برغم ذلك كانت هي الأقدر وهي الراسخ الصلب في مرحلة الاحتراق التي شهدتها عدة أيدي وعديد وجوه بعضها كانت حتى ساعة قريبة تحسب على قيادات طبيعية كفاحية قبل أن تتحالف مع قيادات الأنابيب ويسقطان معا سقوطا مدويا ً.

كما أظهرت ولادة هذه الحكومة فلسطينيا أيضا أن الجسم السياسي الفلسطيني وإن كان يعاني من بعض المصاعب كما هو الجسم الحي ويحاول جهده أن يتفاعل بحيث يلج مراحل متتابعة من النضج والمراجعة باتجاه المثال الأكثر انسجاما والأكثر حيوية والأكثر فعالية فإن الخط الأحمر الذي يفترضه هذا الجسم السياسي يبقى كذلك ، وفي هذا الجزء نرى الوحدة الوطنية الفلسطينية كحالة سياسية لا يمكن كسرها باتجاه الاقتتال والاحتراب ويمكن على الأقل إبقاء هامشها الأدنى في هذا البعد وفي هذا الصمام الأمين ، ولنتذكّر أن التجربة الأخيرة وخاصة حكومة الطوارئ باتجاه هذه الحكومة وما حاول البعض أن يشيعه يومها بأن الهدف هو ضرب القوى الوطنية بعضها ببعض قد ألجمت هذا التحليل جبلا من حجارة هذا اليوم دون ريب وأظهرت عقمه وفجاجة طرحه .

ثانيا :- إقليميا

أرسلت رسالة واضحة بأن الجسم السياسي الفلسطيني ومهما تعرض له عصيٌ على الكسر ويحتفظ فيه للرئيس عرفات بالرقم الأول رمزا وفعلا وبالتالي فإن التلويح أو التصريح بما يحاول أن يتجاوز ذلك لن يصمد ولن ينجح بل وستكذِّبه الأحداث التالية له مباشرة والتي فيما يبدو ما عادت تأخذ طويل وقت حتى تظهر للعيان ، كما أوضحت في ذات الوقت أن الرئيس عرفات أصبح مع التجربة السابقة أقوى حتى من وضعه السابق وأن العمليات الطفولية بالقفز في الهواء أمام هذه الحقيقة لن تجدي نفعا ، وأن على الحكومة الصهيونية وعلى الأحزاب الصهيونية أن تقرِّر إما أنها تريد فعلا حلاً متوازنا هو ممكن فقط مع هذه القيادة التي تصرُّ حتى الساعة على الثوابت الفلسطينية وإما أنها لا تريد ذلك الحلّ من أصله أو أنها لا زالت أسيرة لعبة الوقت وستبقى المقاومة وهذه المرة تقترب لأن تكون بأجندة حكومية .

في ذات الوقت فلقد عبرت القيادة الفلسطينية أزمة شديدة نعم على كل المستويات ولكنها اليوم خرجت قوية وسليمة بل وأشدّ متانة وصحة في الطريق إلى ما هو أفضل وشكرت هذه القيادة الأطراف العربية التي نشطت في التوسط على حلقات بين الأطراف الفلسطينية وأهم ما يميّز حكومة أبو علاء ويسجَّل لها أنها ولادة فلسطينية 100% من غير توسُّط ولا توسيط ومن غير جولات عربية مكوكية واجتماعات في عواصم من أجل حلّ وتوسط في حلّ هو حقيقة كان جزءا من ذات المشاهد التي تكرَّرت والتي فجأة اكتشفنا مع ولادة حكومة أبو العلاء أنا لسنا بحاجة لهذا الجزء من التسلسل المشهدي ضمن هذه الرواية صاحبة العنوان القريب ، وعلى أي حال فإن الرسالة أيضا للأطراف العربية هي أن القيادة الفلسطينية تنتظر هذه المرة دعم برنامج الحكومة التي تم تشكيلها في مواجهة العدوان المستمر على أبناء الشعب الفلسطيني والتخفيف عنهم هذه الآثار والمساهمة في تعزيز صمودهم عوضا عن دعم خطوات ومراحل عملية التشكيل .

ثالثا : - دوليا

أجهضت نتيجة العملية حقاً أوهام بوش المسكون هذه المرة بسرطان المواجهة في العراق الشقيق بحيث لم تجد التشكيلة تعقيبا من إدارته سوى حسرة الخيبة بعدما كانت إدارة بوش تراهن على جملة من الأهداف ربما تقع في مجموعها حول عزل القيادة الفلسطينية واستجلاب قيادات أنابيب هنا وهناك في الحكومة والمؤسسة الفتحاوية وتنظيم ضرب الجماهير بالسلطة تاليا وتحشيد أذرع العدوان ضد فلسطين كقضية وكشعب وإلحاقها تاليا بمشروعها الوهمي في حرب الإرهاب بحجة رفض السلام والديموقراطية وإلى آخر هذه المعزوفة الممجوجة ، إذن لدينا في فلسطين قيادة منتخبة بطريقة ديموقراطية وتشكِّل حكومتها أيضا بطريقة ديموقراطية وتنال الثقة وتطرح برنامجها وتقول أنها الطرف المعتدى عليه وعلى العدوان أن ينسحب إن كان بريد سلاما .

في المقابل كانت هذه النتيجة في وقت واحد صفعة لبوش ومكافئة سياسية لبعض الأطراف الأوروبية التي بقيت على قرارها بلقاء القيادة الفلسطينية ورفض المزاعم والدعاوى والحجج الواهية لعزلها ومقاطعتها وأكّدت العملية أن العنوان فلسطينيا واضح وصريح وعلى الدول في العالم أن ترى هذه الحقيقة من خلال الأرض وواقعها وليس من خلال برامج الدعاية والتضليل الرسميين الأمريكي والصهيوني ولا عبر وسائل إعلام معينة تشكّل جزءاً من هذا التضليل السياسي والتآمر التمثيلي على قيادة فلسطينية وقضية فلسطينية ، وإذا كان ذلك أصبح واضحا على صعيد الدول بالمفرّق فإنه أدعى أن يكون واضحا على صعيد ذات الدول بالجملة والحزمة عبر الأطر والتجمعات والمنتديات والمنظمات الدولية واتحادات هذه الدول المعبّرة جغرافيا أو ثقافيا عن إراداتها ومصالحها ، وعليه فإن العنوان لمن يريد واضح عندما يتعلق الأمر بفلسطين .

هنالك العديد من المواضيع التي تنتظر النشاط الحكومي وعلى حكومة فلسطين أن تأخذ ذلك بعين الاعتبار منذ اليوم الأول لها ونتمنى لها التوفيق كما تمنى لها الرئيس ياسر عرفات في خطابه أمام المجلس التشريعي لدى عرض الحكومة على هذا الأخير ، ونعلم أن الحكومة ستلاحظ بالتضامن ورغم عدم رؤيتنا لمعايير كثيرة كان يمكن أن تطبَّق بشكل أفضل بالذات فيما يتعلق بالسادة الوزراء واختيار بعضهم لا سيما وأن هذا البعض أثبت فشلا مكرَّرا وبعضهم أثبت أخطر من ذلك ، إلا أن دواعي معينة واعتبارات محسوبة نعلم أنها لم تغب عن بال القيادة في التشكيل كما هو واضح ومع ذلك نأمل أن لا يبقى أداء هذه الأسماء كما عرفنا عنه وأن يرتقي لأفضل مما عرفناه عنهم .

قطعا فيما هو قادم سنرى عددا من الموضوعات والتطبيقات في الأداء الحكومي مما لن يكون بالضرورة مثاليا أو في مستوى النجاح المميز ، وسنختلف ويختلف معنا كثيرون مع الحكومة في أدائها جملة أو في بعض أجزاء وزوايا بينما قد اختلف بالفعل البعض الآخر مع هذه الحكومة في نقطة الدعوة إلى استئناف المفاوضات ، ومع ذلك فإن أيَّ خصومة هنا أو هناك ستبقى بالتأكيد أهون شرا وأقلَّ خسارة من أن يكون البديل من نمط حكومات مفروضة على هذا الشعب – لو تم ذلك – أو قيادات مستنسخة أو معجّنة أو منشَّفة على البخار أو الهواء البارد لا يهم من نمط ما حاولته بعض الأطراف أن تصنعه عبر ما دار من أجواء إبان حكومة السيد أبو مازن وبعدها ، ستبقى القيمة الفعلية للمنجز الوطني مع هذه الحكومة في نقطة الشروع أو التكليف والمسار المبدئي في صالحها وليس ضدها وبالتالي فإن هناك أمل ما دامت البداية سليمة بأن تكتمل النهاية بمنتج وطني سليم .

في جانب آخر نعلم أن حكومة السيد أبو مازن فشلت بسبب تعنت الكيان الصهيوني وإدارة بوش ولكن أيضا لأسباب تخص ذات الحكومة وفي تركيبتها هي وما حاولت أن تقفز به وتقفز عليه ، وبعيدا عن الإغراق في التوقعات المفرطة بالتفاؤل فإن هذه الحكومة ستكون أطول عمرا لأسباب عديدة أهمها أنها أتمت الحمل والولادة طبيعيا وعلى السرير الفلسطيني ولم تحمل بويضات مجانية ملقَّحة بافتعال على طريقة إنتاج بعض قيادات الأنابيب ولأنها لم تضع في اعتبارها ما هو خارج عن المتوافق من دون افتعال المزيد من الضجيج والأزمات وأحسن تماما السيد أحمد قريع منذ البداية بالإشارة إلى الدور المؤسسي الذي سيكون – وقد كان -في إنتاج هذه الحكومة ، وهذا يعتبر أوَّل عوامل الاستبشار بهذه الحكومة طالما بقيت وحافظت على هذه المرجعية الوطنية بالمؤسسة والفصائل والانتخابية الهيكلية بالمجلس التشريعي في كل ما سيعرض لها من منعطفات .

باختصار نرى الكرة في ملعب الكيان الصهيوني سياسيا ولن تفلح مجموعة الجمل المتقاطعة التي يطرب عليها شارون فقط هو وغيسنج بتاعه في (انتظار الأفعال للحكم) وذلك لأن الذي حقََّق َ هذه المرة الصفعة فعلا وقال الفعل هو الطرف الفلسطيني وعلى حكومة الكيان أن تنسحب وتهدم جدارها وتنصاع للقرارات الدولية في مقدمة الخطوات الممهدة لمفاوضات أو لعملية سلام صحيحة تتيح إحقاق الحقوق الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتها حق العودة مع التعويض التام المادي والمعنوي والقدس والمقدسات والدولة ومواطنيها الأحرار وإلا فهناك كلام .....

من أرشيف مقالات 2004

[(فتح والجواب الكبير .....)]

جملة العلائق الجدلية المؤكدة بين صحة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وبين صحة الحالة الفلسطينية وانعكاساتها على الحالة العربية والدولية تاليا ليست ضمن التوهمات ولا ضمن المفاخرة أو اختيارات مسبقة ، وبالمثل فإن هذه الأخيرة تعكس بالمقابل تأثيرات متبادلة على صحة هذه الحركة ضمن استقراء تاريخي على الأقل خلال الأربعين عاما المنصرمة .

في تفسير ذلك ترد عدة شروحات لعلّ أكثرها تكرارا هو موقع فتح باعتبارها التنظيم القائد في الساحة الفلسطينية والحركة الممثلة لعصب وقلب العمل الوطني الفلسطيني بحكم التاريخ المسجَّل حتى الساعة ، والبحث في سبب ذلك سيطول وسيتفرّع قطعا ولا بد هو آخذ بعين الاعتبار المكوّن الهيكلي لهذه الحركة باعتبارها بوتقة الصهر والتجميع المؤهلة نظرا لطبيعة التكوين.

ولعل هذه الوضعية هي التي كانت دوما أحد أبرز الركائز الاستراتيجية التي تأخذها في الاعتبار عناصر الخطط المجابهة العدوانية على طاولة معتمدي القرارات الاستراتيجية الصهيونية وحلفائها في كل مرحلة من مراحل هذه المواجهة المفتوحة ، وبالتالي فإن إدراك هذه الناحية هو الموقع الذي يجب أن لا يتم إغفاله أو القفز عليه ولا التقليل من شأنه بتاتا .

وصلت الحال بهذه الحركة مؤخرا إلى جملة من العلل ساهم توقف منشّطها الحيوي أي المؤتمر العام عند العام 1989 في مزيد من المضاعفات الخطرة والتي وجدت آثارها بسهولة بالغة إلى المشهد الفلسطيني مخلفة كثيرا من الإرباك ومغرية البعض بحملة من الهجومات المختلفة ذهب بعضها إلى الجرأة حدا بعيدا ، ولعل مواد هذه التعرضات كانت على الأغلب أدوات من داخل أو محسوبة على داخل هذا التشكيل العام .

الاجتماعات التي أعلن عن بدئها اليوم للمجلس الثوري للحركة تشكل قطعا أحد بوابات العبور من حالة العلة هذه إذا ما أحسن معالجة الأسباب الكامنة وراء انتشار هذه المضاعفات وهي الطريق الأمثل للإعداد لكل ما من شأنه إعادة الحيوية والصحة إلى العمل الفلسطيني بشكل عام ، وقطعا ستكون هذه الفرصة تاريخية بشرط ضمان وصولها إلى منتهاها الطبيعي دون ابتسار أو تراخ ٍ مهما كان نوعهما.

أمام المجلس الثوري المجتمع سيكون بلا شك عدد من الأوراق التي ستتناول البناء وما عرض له والأداء وما حوله ومؤثرات المحيط وتجاذبات القوى وواقع المجتمع الفلسطيني ومصير التجربة والسؤال الكبير حول العقيدة الفتحاوية وبرنامجها الأمثل للوصول بالشعب الفلسطيني إلى أهدافه الوطنية ، ولن يكون على الإطلاق مسموحا في هذا أي مساس بهذه الأهداف لأنها ذاتها هي التي شكّلت مبررات الحركة وليس العكس .

حسنا ندع لهذه الاجتماعات فرصتها التامة ولن نستبق الحديث عن النتائج التي نتوقع أن لا تخيّب آمالا بل ونصرّ على أن لا تكون كذلك لأنها اليوم ليست في مجال الذاتي بهامش قطاع الفردية في المجموع بل هي برسم المصير الوطني العام ولذا فعليها أن تكون كذلك وعلى ثمارها أن تعيد بناء جسم الصورة من جديد.

فتح لا يمكن لها أن تفرّط ولا أن تنفرط كما لا يمكن لها أن تتنكّر لتاريخها جملة ولا يمكن لها أن تتوقع بناء ذاكرة مشوّهة وهي ليست في معرض البحث عن تجربة غيرها لها ، وعليه فإن ملامح الجواب الوطني المنتظر ليست ملامح مؤقتة أو مسكّنة بل يجب أن تكون ذات صبغة علاجية قطعية حتى لو كانت بوصفة الكيّ والكيّ هو آخر مراحل العلاج .

إن المعضلة الحقيقية تكمن في الإجابة عن مفصل مركزي واحد يقبع في الوقوف أمام مسألة المشتبك والمنفك عن علاقة الثورة بالدولة من كل الوجوه ، وهنا يمكن تلمّس الخطى السابقة والخطى اللاحقة وإلى أين تسير ، وإن البرنامج المنتظر الولادة هو البرنامج المستقى من الإجابة الشافية حول هذا المفصل أساسا وما تبقى سيكون من جملة الفروع المنسابة حوله .

في الإجابة عن السؤال السابق زمنيا ومكانيا وما يتبعه من تقييم تكمن وصفة الاختراق وتكمن إرهاصات الإعداد لهذه الوصفة وتتلوها بكل تأكيد معادلة الحصول على حالة وطنية فلسطينية سليمة ومعافاة ، وهذا ليس مرانا فكريا بقدر ما هو مقاربة استراتيجية يجب أن تأخذ في اعتبارها المحددات الرئيس العودة والقدس والدولة وقارب الوحدة الوطنية الفلسطينية وتناغم القوى السياسية والمجتمعية مع هذا كله في قارب الانتفاضة المباركة.

كتائب شهداء الأقصى وليس السلطة الوطنية هي لا شك كانت حتى الساعة الخيط أو إن شئتم الحبل السري الوحيد الذي ضمن الإبقاء على الصلة بين الجسرين وهي في هذا الجانب ستكون الأرضية الواجب من فوقها مواجهة الواقع دون حسابات مفزعة في تكاليفها والاستقطاب من حولها سلبا أو إيجابا ، خاصة في استحقاق ثمار السلام الفجة وبعضها المتعفّن ، فماذا ستكون عليه مستقبل الإجابة ؟ بانتظار الجواب الكبير....

[(التفكيك بعد رحيل (أبو عمار) مرتكزاً...)]

رحل أبو عمار وأصبح في ذمة التاريخ، وهذا هو التوصيف السهل للحالة الفلسطينية من خارج المشهد ولكن الحقيقة تقول أن الرئيس الباني قد قام من ساعته التي وري فيها الثرى في فناء المقاطعة التي شكلت عرينه وعنوان ثباته وصموده الاسطوري الذي سيثبته له التاريخ كما سيثبته له ضمير شعبه الجمعي ووعيه السياسي والفكري في ذات الوقت ليؤسس لمرحلة جديدة بعد غياب الوالد في أسرة فلسطين .

نعم هذه الأسرة التي يتوجب عليها أن تظهر اليوم ظهورا يأخذ في الاعتبار دور كل مؤسسات الأسرة الواحدة والتي كان والد هذه الأسرة يضطلع بها في جزء منها نيابة عن هذه المؤسسات المكونة لها وفي جزء آخر إلقاءا بالحمل الكبير عليه وإن كانت لتدعي شيئا آخر ، واليوم سيكون على مؤسسة الأم ومؤسة الأخ الشريد والأخ الشهيد والأخت الأسيرة والأخت المغيّبة وبقية تفاصيل هذه المؤسسات المكونة أن تنهض بدورها وأن تنهض إلى كل الاستحقاقات دون تلكؤ ولا اضطراب.

لقد ظهرت الصورة التي انتقلت عليها قيادة مؤسسات الشعب الفلسطيني حتى الساعة بما قطع عددا من الرهانات البائسة والمعلوم مصدرها وأجبر العالم أن يعيد التحية التي قدمها للرئيس الراحل يوم مشى في جنازته المهيبة مرتين ، وهذه المرة لهذا الشعب العظيم ولهذه المؤسسات الناهضة إلى دورها ، وربما كانت الخدوش التي أحدثتها حادثة إطلاق النار المخجلة في بيت العزاء المقام في غزة هي العيب الذي يجب أن نخجل منه جميعا وأن ندعو إلى عدم التساهل قطعا مع تكرار حدوثه.

جملة الأسئلة التي تراكمت مع حقيقة مرض الرئيس ومع أداء هذه المؤسسات خلالها لا يجب أن تبقى بلا أجوبة قاطعة كما لا يجب أن تبقى مسائل كثيرة عالقة دون فحص ومصارحة بما فيها ما دار حول التركة المالية وتقاطعات دور السيدة سهى عرفات وبعض المسؤولين عن تنفيذ العمليات المالية والاستثمارية في حياة الرئيس عرفات ، ولكن الأكثر أهمية في الظرف الراهن هو الوصول إلى معالم المرحلة القادمة وأهمية إعادة صياغة دور المؤسسات ومعالجة القضايا الاستراتيجية في مسيرة الشعب الفلسطيني .

حسنا لم تنصت القيادة الفلسطينية لنداءات ضرورة إقرار النيابة في حياة الرئيس عرفات وآثرت تأجيل هذا الملف وداهمت الأحداث المسرح الفلسطيني وتركت الباب مفتوحا أمام اختبارات عديدة نجح حتى الآن هذا المشهد في اجتياز المؤهل منها للامتحانات الحقيقية التالية ، وحينما أعلن رئيس السلطة الوطنية المؤقت الأخ روحي فتوح عن موعد الانتخابات الرئاسية فقد حدد موعد واحد من هذه الاختبارات الحاسمة دون ريب .

في مسألة نهوض المؤسسات سقط سهوا عن خاطر العديد من المتابعين منصبا أساسيا كان يجمعه الرئيس عرفات ضمن بقية المناصب التي مثّلها ولعله الأكثر أهمية هنا وهو منصب رئيس دولة فلسطين التي أعلنها أبو عمار نفسه في دورة المجلس الوطني الفلسطيني المنعقدة في الجزائر عام 1988 والتي انتخب الرئيس عرفات في هذه الدورة رئيسا لدولة فلسطين المعلنة كما انتخب الأخ فاروق القدومي وزيرا لخارجيتها .

ربما كان مثل هذا الاغفال متعمدا لحين ولهدف ولكن الأمر يبدو من الأهمية بمكان أن يثار اليوم دون تأخير مسألته ربما حتى قبل مسألة انتخابات رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ذلك لأن الدولة المعلنة هي التي حظيت باعتراف دول العالم وهي التي في نهاية المطاف تمثل الشعب العربي الفلسطيني التمثيل الوطني والقانوني أيضا وتكتسب شرعيتها من شرعية المجلس الوطني الفلسطيني الممثل لكل قطاعات الشعب العربي الفلسطيني أينما كان.

إن المرتكز الرئيس في الاستراتيجية الفلسطينية نراه في المرحلة المقبلة ملزما بالاحتكام غلى أساس التفكيك لأن واقع مرحلة ما بعد الرئيس الباني الشهيد هي التفكيك في جملة القضايا والأدوار التي كان ينثلها أبو عمار ويقودها بنسق واحد لحد اختفاء جميع المؤسسات الأخرى خلف كوفيته العتيدة ، بينما اليوم أصبحت الحال تقتضي القيام بعودة هذه الاستراتيجية إلى التفكيك وإعادة التوصيف .

في هذه المسألة تندرج أهمية إعادة صياغة كل ما يتعلق بعملية المفاوضات والمقاومة معا مثلما هو حال علاقات المؤسسات بها وبتجمعات الشعب الفلسطيني في ضوء النتيجة التي آلت إليها أسلو ، فمرجعية العملية التفاوضية هي مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية الأم الحاضن كما هي مرجعية فصائل العمل الوطني الفلسطيني أيضا، ولعل الحوار الوطني الفلسطيني بين فصائل العمل الاسلامي والوطني يجب أن يندرج في هذه المرحلة حول صيغة منظمة التحرير ومجلسنا الوطني الفلسطيني الذي يكون فيه المجلس التشريعي نصابا قانونيا لتجمع فلسطينيي الضفة الفلسطينية وقطاع غزة والقدس .

بمعنى أو بآخر فإن عودة السلطة الوطنية الفلسطينية وأجهزتها للقيام بالدور الوظيفي المباشر في كل المناشط الخدمية وفرز كوادر مهنية مدربة وتحقيق الشفافية التامة في أدائها ومحاسبتها أمام المجلس التشريعي وفصل ذلك عن نشاط اللجنة التنفيذية ونشاط القيادة الموحدة التي يمكن أن تكون معها بالتقاطع أو التوازي في إدارة المفاوضات والمقاومة هو عنصر رئيس في تجنيب المرحلة القادمة الكثير من المعيقات والكثير من المخاطر المفزعة التي كانت منخفضة الشدة في مرحلة قيادة الرئيس الرمز أبو عمار بحكم زعامته الفذة .

لنفاوض العالم مرة أخرى من جديد من خلال المؤسسة الأم ودون وكلاء من الباطن لأن عنوان أي مرحلة قادمة هو حق العودة الذي يمس أساسا ثلثي شعبنا في الشتات ولأن منظمة التحرير ومجلسنا الوطني هو المرجع الرئيس في هذا العنوان ، وبالضرورة فإن إعادة تفعيل وتنشيط كل مؤسسات منظمة التحرير وعلى رأسها السفارات الوطنية في برنامج من هذا النوع يكفل تحقيق المزيد من تحشيد نقاط القوة في صالح أي من البرامج الوطنية التي سيتفق عليها وستغدو جسد المرحلة القادمة.

لا يجب إطلاقا أن يتعارض ذلك مع فهم عدد من الأخوة بأن القيادة الفلسطينية قد عادت في معظمها إلى أرض الوطن وهي الآن تمارس دورها من الداخل ، كما لا يجب أن يفهم أن مثل هذا الطرح هو نزعة للتفصيل بين داخل وخارج فهذا سيكون قصورا في الفهم وتشوها في النضوج ، ولكن التفكيك المقصود هو تفكيك في البنى وليس تفكيكا جغرافيا على أية حال ، وفي ذات الوقت فإن إغفال دور جماهير الشعب الفلسطيني في الشتات في المرحلة السابقة كان بالإضافة إلى كونه خطأ كبيرا هدية مجانية تقدمها القيادة الفلسطينية بوعي أو دون وعي لمن سيسعده تلقيها .

إن أساس الحكم على قبول أو عدم قبول موقف ما هو مدى انسجام هذا الموقف مع المؤسسة وإن كان الخطأ الكبير الذي أخذ على الأخ محمود عباس يوما هو تغريده خارج سرب المؤسسة فإن وجوده اليوم داخلها والتزامه بقراراتها وسيمفونيتها هو ذاته الذي سيتيح لكل من اعترض يوما عليه أن يكون اليوم أول المتقدمين خلفه ما دام قد ازال سبب الاعتراض هذا ، والأمر ذاته ينطبق على ما يندرج تحت هذا المفصل فلا شخصنة في الاعتراض ولا هوى في أن يكون العنوان هو المعارضة .

لتقدّم المؤسسة هذه من تريد وسيكون لزاما دعم هذا العنوان ولكن أيضا على هذه المؤسسة أن تشرع في تجديد ذاتها وأن تعجّل في إعادة ترتيب شرايينها ودوما عبر ممارسة ديموقراطية معلومة وفي هذا المجال فإن عقد مؤتمر عام لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح أصبح في خانة الضرورات لأن رأس فتح بعد أبو عمار هو المطلوب صهيونيا مدخلا لضرب الحالة الفلسطينية بعامة والتهرّب من كل الاستحقاقات الدولية التي ستكون أكثر إلحاحا في المدى القريب على هذا الكيان الذي بات يعاني أكثر أزماته الوجودية حدة وخاصة بعد أن فقد ليكوده الصهيوني وجنراله مجرم الحرب شارون مبرر استقطابه باستشهاد الرئيس عرفات.

قطعا فإن جزءا كبيرا من شروط تعزيز أزمة هذا الكيان الوجودية ستعتمد بشكل قاطع على التأثيرات الأقليمية والدولية والتي يشكل دقائق المشهد في العراق المحتل قسما كبيرا منها حيث تخوض هناك المقاومة العراقية الباسلة نيابة عن الأمة العربية شوطا حاسما فيها ، إلا أن نفاذ البرنامج الوطني الفلسطيني القادم إلى حيز الفاعلية بكل مظاهر الصحة والعافية مرتكزا على إعادة التفعيل بعد التفكيك وتزخيم هذا المشهد بكل ضرورات النشاط هو الرافعة الرئيس في تحقيق تنفيذ هذا البرنامج وغرس مقدمات تحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية التي لا تفريط فيها وأولها حق العودة والقدس مع الدولة الفلسطينية المستقلة.

من أرشيف مقالات 2005

[(الطريق لاغتيال فتح والرقص على دمائها....!!!)]

- كلكم متهمون....!!

بعد وصلة الرقص المفزعة على دم القائد الشهيد الرئيس أبو عمار، يبدو أننا بصدد وصلة رقص جديدة وهذه المرة على دم فتح نفسها دون ريب إن بقيت هذه التفاصيل في المشهد على هذا النحو ، هذا توصيف مختصر لما نشهده حالياً و لما هو قائم في منظور الأفق الفلسطيني الراهن، أفق يزدادُ قتامة ساعة بعد ساعة ليغرق في بحر أسود وظلمة قاتمة موغلة في بشاعتها وجبروتها ونكرانها للمنطق والعقل والحكمة وقيمة الصواب.

هذا الأفق الأسود لو قدّر له أن يسيطر فعلاً لكان أكثر مما تمنته طموحات العدو، فهي حال تلبي له احتياجاته الإستراتيجية وليس فقط السياسية الآنية أفضل تلبية، وهو وضع يختصر عليه الطريق باتجاه أخذ التجربة الفلسطينية الثانية وثورة الشعب العربي الفلسطيني الثانية والتي افتتحتها( فتح) في أواخر منتصف القرن الماضي إلى المجهول الذي ليس أقله أن تؤول في حالها إلى ما آلت إليه حال التجربة الفلسطينية الأولى وثورة الشعب العربي الفلسطيني الأولى في الجزء الأول من نصف القرن الماضي .

ليس ذلك داخل في باب التشاؤم ولا التفاؤل وإنما هو في صلب النتيجة المنطقية والعلمية المباشرة لتحليل الواقع الراهن بعد تفكيكه بالعودة إلى جذور هذه التصادمية القائمة على هذا النحو ، هذه التصادمية التي لا تدلل على صراعات كراسي وصراعات نفوذ كما يتيح المشهد في القراءة السريعة له ، وليست بطبيعة الحال أيضا مؤشراً لاختطاف فتح ولا حتى لانقلابية فيها وفي أطرها التنظيمية ، فكلُّ ذلك كان سيكون لو صدق التحليل على هذا النحو هو أهون الشرور، بل إن القائم حالياً هو أخطر من ذلك بكثير، إنه ببساطة مشروع اغتيال لفتح نفسها.

نعلم أن في هذا الطرح المصارح والمكاشف قدر كبير من الصدمة المروّعة ولكنَّ الحقيقة دوما أكثر سبل العلاج نجاعة إن أريد العلاج الحقيقي ، إن الفزع من تصوّر صراع داخلي بين الفصائل والقوى الفلسطينية على نمط ما مشابه لما سُجِّلَ على الثورة الفلسطينية الأولى وأودى بتجربتها سيكون أقلَّ درجة من مصيبة اغتيال قائدة العمل الوطني السياسي وصاحبة المشروع النضالي في التجربة الثانية فتح، ذلك لأنه ببساطة سيحمل في طياته بالإضافة إلى مشروع التدمير الداخلي مشروعاً آخر باغتيال المنطقة بأسرها في هذه المعادلات الاستراتيجية الجديدة.

الرئيس عرفات ذهب شهيداً ، ومنذ ذهب أبو عمار طوي ملف اغتياله وكأنه لم يكن هناك من ملف اللهمَّ إلا أن يسجّى في باحة عرينه وساحة مقاطعته ولكي يزار بين الفينة والفينة من ضيف أو اثنين إذا ما حطت ركابهما في فلسطين على شكل إضافة بروتوكولية غير ملزمة ، وأن تسير إلى مزاره الركبان المتقاتلة من أبناء فتح تشكو إليه حالها ومآلها كما شاهدنا مؤخرا ، أما ما صنعت هذه الركبان في ملف اغتياله وما قدّمت للشعب الفلسطيني بأسره حول قضية اغتياله فهذا شأن آخر تماما، وهكذا فإن الشعب الفلسطيني الذي لم يسمع ممن ادعى حرصا على ملف أبو عمار شيئا بهذا الخصوص - وكأنَّ الصفحة طويت بتسليم الملف الصحي الذي نقلته فرنسا شيراك للسلطة الوطنية- سمع الرئيس السوري بشار الأسد في خطابه الأخير أمام مجلس الشعب السوري بوضوح يقول (اغتيال الرئيس عرفات).!ولم يحرِّك أيٌّ ساكناً بعد هذا التصريح الخطير وكأن الرئيس السوري كان يتحدَّث عن اغتيال زعيم الهنود الحمر؟؟؟

حينما صاحت أرملة الشهيد عرفات وصرخت بأعلى صوتها دون حرصٍ على تأنق وترتيب في المفردات أو جهد في توليف طريقة الخطاب وقالت (نفر من المستورثين) قامت الدنيا وما قعدت، ولسنا بمعرض الحديث عن الطريقة ولا عن الأهداف ولا المخاطر فيما كانت عليه الصورة ، وبغض النظر عن تقييم أرملة عرفات وجملة المشهد كله فيما يتعلق بها منذ لحظة اقترانها بالرئيس الشهيد وحتى لحظة غيابه فإن لبَّ المعنى الذي يؤخذ من ذلك المشهد هي هذه الكلمات الثلاث وبعيداً عن أي سياق آخر.

هذه الكلمات أصبحت اليوم مترجمة ولشديد الأسف على صعيد الواقع تماما فيما يجري اليوم في فتح ذاتها ، فهناك عوضاً عن النفر الآن أنفار من المستورثين كلٌ على طريقته وكلٌ وفق حساباته الذاتية البعيدة كلِّ البعد عن النضالية والوطنية والشرعية بل وحتى الإنسانية ،كل ذلك يجري باسم فتح وباسم مصلحة فتح وباسم بقاء فتح ولكن الواقع حقيقة هو الرقص على جسد فتح وعلى دماء فتح المسفوحة تماما كما رقصت الأقدام يوماً على دم الشهيد عرفات ، يبدو أن الرقص على الدماء أصبح هذه الأيام هو القانون في هذا الإقليم !

- لماذا يجري الرقص على دماء فتح ومن يتحمّل مسؤولية ذلك ؟

كانت كلُّ الكتابات والمطالعات في الآونة الأخيرة تقول وتعنون خطابها بأزمة فتح وكنا نقول مع القائلين ولكنَّ الحقيقة أن هذه الأزمة أصبحت تتعدى قانون الأزمات وتدخل في منحنىً آخر أهون ما فيه الأزمة وهو ما قدّر له أن يظهر عاريا في أفق الشمس مباشرة بعد غياب الرئيس شهيداً ، هذا الرئيس الذي يبدو أنه كان يشكّل أيضاً - بالإضافة إلى مجموع ما كان يشكِّله - جبلاً عالياً من الجليد فوق مشهد فتح ، فما إن ذاب ثلجه حتى بدت الملامح الدفينة على أسود ما تكون قبحاً ووحشيةً وظلامية .

لن نحاكم هذه الجليدية على أنها من السيئات أو الحسنات ففي ذلك مزيد من الشرح والتحليل ولكنَّ الأهم في هذه الحكاية الآن هو مشهد ذات الثلج الذائب وما أبرز من تحته وما أظهر للعيان ، هذا هو المهم وهذا هو النتاج على أي حال، فإن كان الجليد قد خدم مرحلة ما في أحسن التأويل بغض النظر عن خطيئة وجوده أصلاً ومن مهّد لكي يكون، فإن ذوبانه وانكشاف ما ستره هو الآن الوجه الحقيقي المفجع دون رتوش ودون غطاء !!

دم فتح الآن على طريق أن يسفك ويرقص فوقه لأن فتح لم تكن وما كان يجب عليها أن تكون (فتح) و(غلق) في ذات الوقت ، فتح ونقيضها المباشر من حرف الألف إلى حرف الياء، فتح (حركة النضال) وفتح (حزب السلطة) ، فتح قائدة المشروع الوطني الفلسطيني كفاحيا ، وفتح المزاودة والمسمسرة على ذات المشروع الوطني الفلسطيني أمنياً لصالح العدو، فتح الممثلة لكل قطاعات الشعب الفلسطيني في أصقاع شتاته ، وفتح المختطفة الشعب الفلسطيني على أقل من ثلثه ، فتح قائدة مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية والمثبّتة أقدامها فوق خارطة العالم السياسية والقانونية والدولية، وفتح مغيّبة منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح كومبارساً وأحياناً بديلاً في تنفيذ الحركات البهلوانية الخطرة، فتح فاتحة ذراعيها للعمل الديموقراطي التقني والقائم على المبادرات الخلّاقة ، وفتح المنغلقة على دكاكين وبازارات المنفعة والوظيفية والشللية والقاتلة لكل ِّ تميّز وإبداع، فتح المستقبل المنطلق من ماضٍ عريق أصيل سيّجته دماء شهدائها وعزائم مناضليها، وفتح الحاضر الناكص إلى غير تاريخه والمأسور على بقاع الفساد والانتهازية والنفعية والأنانية المطلقة !

ليس صحيحا ما تنخدع به النظرة ولا القولبة فيما يسمع ويشاهد من أسطوانة أزمة بين تيار تكريس وتيار تأسيس ، ذلك هو منتهى الخداع الأسود في هذه القصة، بل ففي التيار الذي يقول بالتكريس على أساس الشرعية التاريخية من هو أحرص على التأسيس الجديد وعلى تنقية فتح من أدرانها والسير بها إلى الصورة النقية التي يستحقها هذا الشعب الصابر والمأخوذ باسمه في الحالين رهينة وتغطية لكلِّ أرب وأجندة خاصة ، وفي الجزء الذي يقول بالتأسيس على صورة الديموقراطية والكفاحية والإصلاح من تذهب أدرانه به إلى أخفض من حضيض لحد وفيشي وكرزاي وعلاوي مصنوعاً على عين العدو في نتاج ما هو واصل ولو يدعي الذهاب إلى تحقيق ضده طالما ذهب على أسلوب يقود إلى هذه الصفة، ليس حقيقيا ما تراه بعض العيون وما تسمعه بعض الآذان وما تترجمه بعض الأقلام إطلاقاً، الأزمة الحقيقية في فتح كانت منذ البداية هي أزمة فتح الصامتة المراقبة وليست أزمة فتح المشتعلة يمينا وشمالاً بين هؤلاء وهؤلاء عسى أن يرعوا أو أن يكون فيهم رشيد !

وإذا كانت جذور هذه الأزمة ليست في مسألة الفصل بين المتنازعين اليوم على أساس الإصلاح والديموقراطية ومنهج تجديد الحركة غير صحيح تماماً ولا هو بالخيط الفاصل حقيقة بين المتعاركين ، فإنها أيضا ليست الجذور في مسألة الأجيال والأعمار ولا خيط الفصل هذا قائم هنا ولا هذه المسألة بناقوسه وقاموسه ،وهي ليست بين تيار فتح المنتفع والذي آثر أن ينطلق منازلاً في زمان ومكان الغنائم والعطايا والهبات والمفاسد بأنواعها ، وبين تيار فتح الذي لم تتسخ يداه ولا سقط وجدانه في هذه المستنقعات وبقي وفياً لقيم النضال ومصلحة شعبه التي قادته يوماً إلى اختيار فتح في السرآء والضرّاء، بل إنَّ الأزمة وجذورها الحقيقية في مكان آخر تماما ، نعم في موضع آخر لأن أزمة فتح هناك في الداخل فهي أزمة يتحمّل فيها النصيب الأكبر من المسئولية موضع ٌ آخر!

أزمة فتح كانت في قبول فتح الصامتة أن تحيّد نفسها بانتظار ما أخذت على عاتقها فتح المجرِّبة والتي أرادت تجربة أوسلو عسى أن تفتح الطريق إلى قاعدة آمنة ومرحلة وسيطة في كفاحيتها، واستمرت هي في المشاهدة جالسة على مقعد المشاهدة البعيد بينما تأخذ هذه الصورة في توليف إيقاعاتها التي انحرفت في بعض تفصيلاتها عن أساس ما دخلت له وذهبت باتجاه جعل هذه التجربة قدراً لا مفرَّ منه مهما كانت نتائجه ومهما كانت كلفته، فتح المراقبة التي راقبت في تحوّل بذور العمل الموعود والمبشّر به إلى مشروع في الكسل أصبحت له سمة القدرية والتي ولدت وتناسلت على إيقاع نزعات الإقصاء وحرق الجسور مع منبتها وقبلت أن يغيب المؤتمر العام عقوداً وأن تدار إستراتيجياتها بوصفة المناورة والتأجيل والتسويف، فانتهى العرض وبقيت هي جالسة على مقاعد المتفرجين...!

أزمة فتح الحقيقية بدأت حينما قبلت فتح الصامتة أن لا تكمل ما كان مفترضاً أن يكون للدور الذي اختارته بالصمت والمراقبة والذي كان يكمّله المحاسبة والتنبيه والتغيير وهو ما لم تعره انتباهاً إلى أن وصلت الحالُ بأن تختصر فتح الصامتة في كل العالم بصفة فتح السابقة بعد أن فقدت حيويتها طيلة عقد كامل، فتح الصامتة التي رأت ولمست طبيعة بعض فتح المجرّبة والتي تشكّلت بانحراف عند بعضها على طبيعة الغنائم والإمبراطوريات والوظيفة والفساد والانهيارات وعند بعضها الآخر على التستر على هذا الانحراف أو استغلاله أحيانا ، وبحيث تصبح أزمة مصالح وأزمة مغانم وليس أزمة نضال وأزمة عمل وبرنامج ورؤيا وحلول أو باختصار أزمة تجربة وطنية وكفاحية ، أزمة فتح بدأت حينما لم تطلب فتح الصامتة بقوة ولم تسمع نداءها بضرورة (البريسترويكا الفتحاوية) الحقيقية في سبيل فتح ذاتها لا في سبيل الرقص على دماء فتح ..

لهذه الفتح التي صمتت طويلا نقول اليوم سواء أكنتم في داخل أم خارج ، في الأطر أم خارج الأطر، في الأجهزة أم خارج الأجهزة، في أي مكان وأي زمان، لم يبق ما يشاهد ولم يعد ما يرى، ومقاعدكم تطرد انتظاركم وإلا فأنتم شريك وطرف في سفك دم حركتكم التي كانت وتبقى أغلى وأثمن ما وعيتم عليه فلا تسلِّموها إلى سفاحيها الجدد على مقاعد الانتظار كما تم تسليم قائدها الشهيد....ومن كان منكم بلا خطيئة في دمها فلينطق الآن أو يسكت إلى الأبد!

كلّ فتح متهمة وكل فتح تغوص بقدميها وبركبها في دماء فتح القتيلة التي لم يسممها العدو هذه المرة ويغتالها ويسلّم ملفها للأرشيف، بل تغتالها الآن أيديها وتتفرّج على جسدها الممزق وروحها المعذّبة ، فلا تسألوا من يقتل ويغتال فتح ويصرخ ويهتف باسمها....؟!

[((فتح التخريب)... مشروع شاروني ..!)]

ينبغي أولاً أن ندرك أن حركةً نشطةً قد استولت على انشغالات مختلف مستويات وفعاليات وجغرافيا حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) مؤخراً وعلى نحو واضحٍ صريحٍ لا لبسَ فيه وعبّرَ عن نفسهِ مؤخراً بعدةِ أشكال وعدةِ أوجه، ولعلَّ هذا التعبير الذي أخذ طريقه أحيانا على شكل ورشاتٍ صحفية وحوارية بين هذه جميعاً هو مقياس جيد ومفيد لمعرفةِ مدى واتساع أفق هذه الحركة النشطة لا ريب في ذلك ولا خلاف عليه.

بيدَ أن هذا النشاط يؤدي بدوره حكماً إلى وظيفة تالية في استنتاج عدد من الدلالات الإضافية التي تحتويها فعلاً مناولات هذه الحركة في جميع الاتجاهات وتفاعلاتها مع التاليات السياسية العاصفة من حولها داخليا وخارجيا، وهي تصلح بالتالي لإعطاء صورة عن تقدير الموقف الذي تشهده الساحة السياسية الفلسطينية مؤخراً في العمق، هذه الدلالات مهمة من أجل تصوُّرِ كيفية التعاطي مع قيمتها وطريقة الاستفادة منها أمام هذه المعالجة.

- دلالات في المشهد

ولعلَ أهم الدلالات التي تحتويها هذه المناولة وأبرزها يمكن النظر إليه عبر هذه الوفرة من الالتقاطات في المشهد:

أولا: أن حركة فتح كانت ولا زالت في تاريخ الثورة الفلسطينية الثانية مرتكز العمل السياسي الفلسطيني بما يعتريها من أشواط صحة وأطوار علة، ولهذا فإن ما تسير إليه هذه الحركة يسير إليه مجمل الثقل النوعي للعمل السياسي الفلسطيني وبغض النظر عن أية متغيرات زمكانية أو تبدلات تعبيرية أو تمظهرات معادلاتية نسبية في شأن الحجوم والمقاييس التمثيلية النقابية الخطية المباشرة.

ثانيا: أن مستوى تناغم الأداء الجمعي السياسي الفلسطيني قد أسلم قياده نتيجة لذلك تاريخياً لهذه الحقيقية التي أصبحت ترقى إلى مستوى القانون العلمي الطبيعي > في التطبيق السياسي < منه إلى مستوى النظرية أو الافتراض، وعليه فإن التجربة السياسية الفلسطينية الجديدة بجملتها ورسم الكلية فيها سينقاد حكماً لمدى نشاط وصحة هذه الحركة ودورها مهما اختلفت التوزيعات بين مرتكزات الثقل فيها وقادت إلى تغييرات حقيقية أو عابرة عليها.

ثالثا: أن أيَّ خطط أو برامج تستهدف مصير التجربة هذه من على طاولة استراتيجيي العدو ومعسكره ستضع في اعتبارها هاتين الحقيقيتين بشكل رئيس عند التعامل مع القضية الفلسطينية، وتبلغ درجة أهمية هذه الخطط بمقدار درجة الضغط الذي يوجه لهذه الحركة ومقدار عزم القوة الواقع عليها، وحينما يتم كشف مقدار مخيف وغير مسبوق من هذه القوة يمكن معها استنتاج درجة الاستهداف المطلوبة في أيِّ مرحلة من المراحل.

رابعا: إن ما كشف عنه مقياس الكتلة الأخير في قوة الاستهداف على فتح يري بشكل واضح أن هذه المرحلة تدخل في باب استهداف رأس فتح ذاتها وليس أياً من أطراف جسدها، وبالتالي فإن خطط العدو الحقيقية قد دخلت الآن مرحلة الاستعداد للانقضاض على صلب المشهد السياسي الفلسطيني في معركة شطب تجربته الجديدة وليس التعامل معه من أجل أيِّ خطىً لاحقة كما كان عليه الحال حتى مرحلة بدء حصار الرئيس الشهيد عرفات.

خامساً: إن اكتشاف حقيقة الخطط الصهيونية باستهداف رأس فتح تقود فوراً إلى الاستنتاج بأن هناك عملية تغطية سياسية ستقودها حتما الإدارة الأمريكية وبحسب المطلوب، فإذا كانت خطط العدو تستهدف رأس فتح تامة فإن طريقة التغطية ستختلف عما لو كانت تريد (فتحاً خاصة ً).

سادساً: أن الدور الإقليمي العربي والدور الدولي المفترض بإزاء خطط هذا الشطب هي غير ذات أثر بل هي عبارة عن موظفات من أجل إتمام هذه العملية لصالح هذا الشطب القادم، فالعملية تستهدف أولاً سلاح فتح الفاعل عبر (كتائب الأقصى) والمقاومة ثم في مرحلة ثانية (سلاح مخيمات الصمود) وأخيراً تمركز فتح السياسي خارجياً، وحيث أن الشطب النهائي لن يكون ممكناً في هذه المرحلة الوصول إليه لوجود عدد من عوامل الممانعة، لذا فلا بأس من الدخول في عملية تطوير باستبدال الشطب التام (بشطب خلّاق) يعني توفير عناصر تكوين (فتح خاصة) تقبل بأن تصبح هذا الشريك المطلوب.

سابعاً: أن فتح ذاتها تشهد حالياً ثلاث تمركزات واضحة ليست هي التي جرى دوماً توصيفها على أساس المعسكرات والأجندة مهما كانت نوعية الباراميتر المستخدم للتصنيف، بل إن التصنيف الحقيقي الذي يرى في حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح ) الآن هو التوزيع بين (فتح التغليب – وفتح التجريب- وفتح التخريب)، وهذه الأنماط الثلاثة هي التي تشهدها فتح بملاحظة أن فتح التخريب قد خرجت من رحم فتح التجريب وأصبحت تطلُّ برأسها منافسة لها على خصائص الشريك القادم ومستعدة في كلِّ لحظة لوراثتها وسجنها >ربما مثلا في معسكر أريحا كما هو حال الرفيق سعادات ورفاقه

- خصائص شريك المرحلة المقبلة

هنا يمكن فهم مدلولات التصريح الذي أطلقه الرئيس الأمريكي (بوش2) مؤخراً مستبقا زيارة شارون ومحمود عباس لواشنطن حيث بادر في إعلانه عن ثقته بالجنرال شارون وحكومته وأنه مطمئن تماماً إلى مساعي الجنرال شارون في سعيه إلى عملية (سلام) وأن شارون هذا يود أن يرى شريكاً حقيقياً في الطرف المقابل ( طبعاً شريك من نوع خاص) !!

هذا التصريح يحتوي بدوره على مكشاف وظيفته ونوعية المرحلة المطلوبة ونلحظ فيه التالي:

1- في الجزء الأخير من كلامه حول ثقته بأن السيد محمود عباس يريد الشيء نفسه > كما ختم < يفترض إن الترجمة تعني على الأرض خصائص هذا الشريك الذي يبحث عنه الجنرال شارون الساعي إلى السلام بكلِّ خطاه وهذه الخصائص هي القبول بما سيعلن تاليا عقب لقاء شارون وبوش القادم.

2- في حالة رفض هذا الشريك المفترض والمدعو للزيارة على هذا الأساس فإن الإعلان المتوقع من كلا الطرفين هو عدم توفّر هذه الخصائص في هذا القادم للزيارة على أساس أنه يفترض شريكا حتى نهاية زيارته ونتيجتها، فإن قبل بجملة ما سيعرض عليه كان بها وإلا فإن الإعلان القادم عن عدم توفُّر خصائص الشريك فيه محتملة تماما في نسخ كربوني لمشهد إعلان كلينتون والجنرال باراك لعدم توفّرها في الرئيس الشهيد(عرفات) قبل حصاره ومرحلة اغتياله.

3- إن العرض المتوقع والذي جرى تسريب معظم مفاصله هو بشكل أو بآخر التوصيف العلني لما يتم على الأرض من عملية رسم آفاق النتيجة وحلولها والتي لم تتوقف يوماً واحداً مستفاداً من قيمة التهدئة الممنوحة من إتمام الجدار وشبك المستخربات وتهويد القدس وشطب كل المقومات البشرية والمادية لنهوض دولة حقيقية على الأرض.

4- وأهمية القفلة المقصودة في التصريح المذكور أن مرجعية صلاحية الشريك ليست في أيِّ معيارٍ آخر غير ما يحدِّدهُ شارون نفسه، وهنا تبرز قيمة المخادعة الكبرى في التغطية التي أوردها بوش على تصريحه هذا من نمط القول (أن إدارته تؤمن بأن خارطة الطريق مهمة ) وبأن( هناك ضرورة لوقف الاستخراب ) في الضفة الفلسطينية، مثل هذا الكلام لا قيمة له إلا في محاولة خروج هذه الإدارة من ورطتها المكشوفة تماماً أمام العالم وهي تضيف إلى صفريتها صفراً آخر طالما أن من يحدِّد في النهاية خصائص الشريك والشراكة هو شارون نفسه !

5- أن مجمل الحركة السياسية القادمة في واشنطن هي قائمة على محور واحد فقط لا غير هو تقديم العرض وأخذ الجواب وبالتالي توصيف الجزء القادم من التطور بحسب الجواب والذي يعني في نهاية الأمر أن على كافة الأطراف أن تتناغم مع الجواب القادم كلٌ بحسب المطلوب منه.

الشريك الجديد في المرحلة المقبلة والمبارك شارونياً يجب عليه أن يتعامل مع أهم قضيتين استراتيجيتين بالنسبة لشارون تحضيراً لتهيئته لهذه المباركة المشترطة:

أولا: شطب عوامل الممانعة نهائيا والمتمثلة أولا في وجود كتائب شهداء الأقصى (قلب فتح النابض) والدخول تالياً إلى مصادرة البندقية المقاومة قبل فرض ذات الأمر الواقع على بقية الفصائل طبعا في وصفة الحرب الداخلية بين السلطة والمقاومة، طبعا هناك سلاح فوضوي وغير شرعي يجري أحياناً استخدام قصته (كقصة تغطية) على جوهر المطلوب.

ثانياً: شطب جسور المناعة الذاتية من خلال حرق العلاقة داخل فتح بين التجربة والرخصة وتكوين طبيعة خاصة لهذه التجربة يمكن توظيفها تالياً للحصول على خميرة الشريك الجديد الذي يقبل بحل شاروني فيه تكون حكومة غزة وتقاسمات وظيفية في الضفة هي كل الصورة المتبقية ولا وجود لأي من الثوابت التي كانت الخطوط الحمراء أمام التجربة وعلى رأسها القدس وحق الملجئين الفلسطينيين بعودتهم إلى فلسطينهم ثم الدولة الفلسطينية السيدة على تام خطوط ما قبل عدوان الرابع من حزيران عام 67.

ولذا فإن جملة ما ستقوم به أو قامت به السلطة الفلسطينية الترجمة الفعلية لفتح التجريب على الأرض من خطوات بما فيها التهدئة وفرضها وما تلا أو سيتلو ذلك من تعديلات وتغييرات إدارية وهيكلية على أجهزة السلطة ذاتها بالإقالات والتعديلات وغيرها ليست هي الجوهر المطلوب وإن أعلنت الأطراف الدولية وعلى رأسها الإدارة الأمريكية ترحيبها مثلا بذلك في طريق ما درجوا على طلبه تحت مسمى الإصلاح والشفافية، فالمطلوب الحقيقي كما يتضح هو شيء آخر تماماً ربما تأخَّرَ الإصرار عليه ولكنه حتما سيظهر قريبا على السطح.

- 4 آب القادم مشهد زلزالي

عند هذه الدلالات يمكن أن نتناول حقيقة التطورات التي تمر بها هذه الحركة وماذا يمكن أن يتولّد في المرحلة القادمة من سيناريوهات مختلفة، ربما تكون الفرصة هي هذا التاريخ هي معرفة المستقبل السياسي لإطار العمل الفلسطيني، وربما تكون أيضاً بذور تشكيل قسري يزلزل هذا التاريخ نفسه ويجعله فيصلاً في حياة فتح، ولكن أيّ فتح ؟!

فتح التغليب وهي فتح التي أعطت الفرصة والتي تقف الآن على مفترق طرق حقيقي ويجب عليها أن تأخذ موقفها الواضح والصريح مما يجري وأن لا تكتفي بتبيان الموقف ثم الركون إلى مقاعد المشاهدة، ربما كان في أعضاء اللجنة المركزية في فتح ممن بقي في خارج فلسطين أعمدة لهذه الفتح بالإضافة إلى عدد أقل ممن هم في داخل فلسطين قادت إليه بعض الملاحظات الظاهرة، لكنَّ الحقيقة تقول أن هذا الجزء من فتح هو معظمها أخذا بعين الاعتبار خلاصة الحوارات والتفاعلات الحركية التي جرت مؤخرا في عدد من الأقاليم في أوروبا وآسيا وأفريقيا والأمريكتين وقطاع عريض من قطاعات فتح الداخل وعلى رأسها كتائب شهداء الأقصى التي تمثل قلب فتح على أي حال.

فتح التغليب تستمد قوتها من الإرث النضالي الكبير الذي مثَّلته فتح في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية ومن متانة موقفها القومي والوطني ووضوح خياراتها، ربما يتوجب عليها أن تقود مسرح البدائل وتقترح مسار الخروج وتجترح إبداعا ما في معادلة قادمة، ولكنها بالتأكيد تعوِّل أولاً على مسؤولية الأطر في ذلك وأهمها الناظم الرئيس أي المؤتمر العام، ليس الجوُّ الدولي ولا الإقليمي في صالح هذه الفتح وحتى لأسف شديد ما كانت عليه مؤخرا حسابات بعض الفصائل والقوى الفلسطينية في غير ما كان يجب أن تكون عليه معها لأسباب عديدة معظمها واهية وضيّقة وفئوية، ولكنَّ هذه الفتح هي ذاتها التي انطلقت في عام 65 بنفس درجة الجو المغلق أمامها ولذا فهي صاحبة مشروع وخبرة في البقاء والولادة الدائمة.

أما ما تمثّل فتح التجريب وتتمظهر أساساً في رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية وصاحب المشروع السيد محمود عباس وعدد ممن حوله في المركزية وبالإضافة إلى جزء كبير من ذلك القطاع من التنظيم الذي أفرغ التنظيم علنياً لصالح السلطة في بداية أوسلو وأخواتها وقاد تاليا إلى إفراغ منظمة التحرير الفلسطينية جزئيا وكان حتى وقت قريب يضغط باتجاه إفراغها نهائيا لصالح هذه السلطة أيضاً.

إن فتح التجريب كان رخصة حاولت أن تنقلب على طبيعة ترخيصها ومرجعها هروباً من مواجهة نتائج تجربتها الكارثية والسلبية تحت غطاء حاجتها لمزيد من الوقت كما حاجتها إلى مسرح ذي طبيعة خاصة من أجل تصحيح هذه السلبيات والحصول على ثمار ما لتجربتها، بيد أن الحقيقة وطبيعة الأشياء تقتضي أن نقول أنها يلزمها أولاً تجديد هذه الرخصة من صاحبها وهو المؤتمر العام هذا قبل أي شيء آخر، وهو ربما ما أدركته أخيراً وما تحاول أن لا تبتعد عنه كثيراً في نهاية الأمر، وعلى ضوء ذلك يمكن قراءة الاجتماع المرتقب للجنة المركزية قريباً – حسبما أعلن- خارج فلسطين بتمام عدد أعضاء هذه اللجنة من أجل مستحقات تجديد هذه الرخصة وعلى رأسها المؤتمر العام القادم في 4 آب.

إن أخطر ما يواجه فتح التجريب ومشروع السيد محمود عباس ليس في طبيعة علاقتها مع فتح التغليب ولا مع مانحها الرخصة بالتجربة ولا يجب أن يكون هذا هو شعورها بل أخطر ذلك في مكان آخر تماماً، ويمكن تسجيل محاولات العدو وضابطي إيقاع تنفيذ استراتجياته دليلاً في صحة هذا القول حيث نشط هؤلاء مؤخراً في حملات التدليس، هؤلاء لم يعدموا وسيلة عن التلويح بروايات التدليس أمامها طوراً بالترغيب وآخر بالترهيب وأحيانا بالتشكيك في هدف واضح وصريح هو حرق الجسور النهائية من أجل تسهيل الجزء الثاني من استهداف (فتح)، هذا ما يمكن قراءته من فم آفي ديختر وأجهزته وإعلامه.

فتح التجريب كانت حتى الساعة تحظى بالقبول الدولي والحضانة العربية والإقليمية نوعيا وعلى الأقل في تسهيل الحركة – من دون ثمار حقيقية – لا على صعيد التقدم في عملية سلام ولا على صعيد الدعم المالي الممنوح لفظاً كما في مؤتمر القمة العربي الأخير ومؤتمر لندن والممنوع محلاً وفعلاً ولا على صعيد وقف تدهور آفاق تجربتها أمام اجتياح شارون الكاسح لكل مقومات فرصة حياة هذه التجربة من خلال ممارساته الإستراتجية وفق أجندته المنكرة تماماً لهذه التجربة وما تريده.

إذن أين الخطر ؟ والجواب أن الخطر الآن هو ولادة فتح التخريب من عباءة مرحلة التجريب ومن سقطها وتحت سمعها وبصرها ومسؤولية هذا النفر التاريخية في تحويل العملية النضالية إلى الوظيفية والمصلحية وجملة المتقاطع بينها والمبني عليهما، وبالتالي الدفع باتجاه قدرية التجربة في السقوط النهائي في فخ (خصائصية الشريك المطلوب) بحكم هذه الارتباطات التي سلخت الوجه النضالي وفي بعض الأحيان بشكوك حول الوجه الوطني عن حقيقة هذه المتعاطيات في هذا الجزء الذي بدأ يلعب دوراً خطيراً يجب الوقوف عنده ويتجاوز عملياً سمات الفساد والإفساد المعروف كجريمة فردية أو شائهة ظاهرة في التجارب وعملياتها على هامشها الواسع.

أما تشكيلات فتح التخريب فمن البديهي أن تكون في عين العدو وعين الإدارة الأمريكية، ربما لم يحن الوقت بعد لإعلان ذلك وتنصيبها إذ لم تنجز فتح التجريب تهيئة المسرح لها بعد(عن غيرعلمها) ، وثمة عدد من الخطوات الضرورية المطلوبة حتى يمكن أن تخرج هذه إلى الساحة فعلياً وعملياً في نسخة ممجوجة لقصة سعد حداد وأنطوان لحد وجميل 17 أيار وتاليا لكرزاي ومجلس حكم العراق، ليس مفاجئا الاعتراف بأن ثمة فتح تخريب تضطلع الآن بدور أشبه ما يكون بهذه الأدوار في اتساق مع نماذج أخرى كما سبق منطلقة من قعر الحل القدري الذي بدأه السادات وأوراقه 99 والتي عبّرت عن نفسها في مشاهد تلامذة الشيطان وأبنائه.

إن موعد 4 آب من العام الحالي بلا شك هو الاستحقاق الفعلي الذي سيحسم أي وجه لفتح هو الذي سيطغى في المرحلة القادمة، وبالتالي ما يمكن أن ينشأ عن ذلك من خيارات بما فيها التحوّل إلى حزب سياسي مثلاً أو العودة بالتجربة النضالية إلى مرحلة جديدة أو حتى الوصول إلى صيغة جديدة بينهما، وهذا الناتج هو المكوّن الحقيقي لما ستكون عليه صورة المشهد السياسي الفلسطيني بالتقاطع مع الأجندة الفلسطينية الخاصة بمنظمة التحرير والفصائل والقوى والمقاومة والسلطة وبقية تفاصيل هذه المنظومات، فهل يشهد هذا التاريخ مشهداً زلزالياً أم يبقى مجرَّد إمكانية ؟!

[( أين ملامحُ جمهورية الكوفية الثانية ؟!)]

وضعت بعض الحملات الانتخابية أوزارها في فلسطين انصياعاً لصندوق الاقتراع ونتائجه التي أظهرت فوزا واضحا يوم 10/1/2005 لمرشح حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) السيد محمود عباس ولبرنامجه الانتخابي مدخلة فلسطين التي كانت على موعد والتي صوتت واقترعت في أراضي السلطة الفلسطينية من الباب العريض إلى ملامح ( جمهورية الكوفية الثانية ) ، واتصل مرشحوها بالفائز فوراً ليبلغوا تهانيهم ويؤدوا دورهم الديموقراطي وبروح عالية في القادم من ملامح استحقاق الجهاد الأكبر كما جاء على لسان رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية الثاني الجديد بعد أن أهدى هذا النصر الانتخابي إلى الرئيس الأول ورمز الكفاح الوطني الفلسطيني الحديث الراحل الخالد (أبو عمار) وشعبه وأرضه وجماهيره.

في مسألة البرنامج الذي اقترع عليه الناسُ حديث ذو شجون وهو لا يختلف من حيث الجوهر عن برامج المرشحين الآخرين إلا في مسألة واحدة تم استفتاء من شارك في التصويت عليها بطريق غير مباشر وهي مسألة اختيار مرحلة من التقاط الأنفاس ليشرع عباس في خطوات لازمة إن أراد البناء على الهدم وإن أراد إصلاح ما أفسد الدهرُ ودفع الناسُ إلى أمل فيما لديه من قول وفعل، وهذا فقط هو ما يتيح فهماً لائقاً لمعنى الجهاد الأكبر الذي أراده حيث توظيف المعنى لجهاد النفس وإصلاح البيت ولم شعت الحالة الفلسطينية ثم النظر إلى أي الطريقين المسار في تتبع أثر الختيار لبناء الملامح.

أما البعض الآخر من هذه الحملات فقد استمر في الباطن على نار مستعرة حينا ومستترة أحيانا في عجز أن لا تنوءَ بكلكلِ ما تحملهُ من أثقال، فيظهرُ ذلكَ جلياً في مسلسل بعض التعليقات وردود الأفعال التي اندلقت فجأة بعضها في غير موضعها وبعضها في غير ما يرتضى فصارت أشبه بمن أتى الدور من حيطانها وفعل ما استوجبَ أن يصمه قول حافظ إبراهيم في شعره المجيد ( فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها)، ولعل الشك والريبة هي أبسط ما يقال في مثل هذه المواضع التي ندت فيه جملة من هذه الانفعالات عن منطق الرأي الحميد الذي هو المقصود بالمدحِ في (قبل شجاعةِ الشجعان) كما أراد ماليء الدنيا وشاغل الناس شيخ الحكم في شعر العربية أبو الطيب المتنبي حيث أراد أن يضع الرأي في أولى المراتب ونحن معه فيما وضع ولكن أيُّ رأي ٍ وأيةُ ألسن؟!.

في مسألة الانتخابات هناك فائز واحد لا شك في ذلك هو الشعب العربي الفلسطيني الأصيل وبكل تأكيد وحينما نقول الشعب الفلسطيني فلا نقصد قطعاً ذلك الجناح المستقرُّ المقيم منه في أرضه وأرض آبائه وأجداده ولا جزءه الذي تسنى له أن يصل صندوق الاقتراع أو الذي لم يستطع أن يفعلَ هناكَ لأسباب لا يمكن أن تخفى عن عين مراقب حصيف ولا عن بصيرة متابع نزيه، بل نقصدُ أيضاً من الشعب ذلك الجناح الطائر الذي حرم أو لم يكُ بمقدوره أن يشارك في هذا الاستحقاق الوطني وأيضاً لأسباب عديدة مختلفة اختلاف انتشاره وحقائق هذا الانتشار وما تفرضه وضيق ذات اليد عن تنظيم ما يمكن أن يتسع له جميعا أو الزمن القصير الذي كان يجب أن يلتزم به اختباراً وامتحاناً.

في الأسباب المانعة من الانتخاب تنوع كبير يلزمه الحصر على نمطين: فبعض الأسباب ذاتية والمتمم لنوعها الآخر أسباب كيدية، وفي الأسباب الذاتية بعض تقصير نأمل أن يصار إلى تجاوزها لاحقا حرصاً على كمال التجربة الديموقراطية العتيدة، وبعض امتناع لرأي ونظر وهذا فيه امتناع عن دور مستحق وواجب وطني ونأمل له بعد التروي والتفكير في مستقبل قادم أن يصار إلى إنجاز التغيير، أما في الأسباب الكيدية فليس لنا إلا أن نبذل مزيدا من الجهد والاجتهاد وإرادة العمل، وحيث أن هناك فائزاً واحداً لا شك فيه فإن ترجمة هذا الفائز ما يقع في ظل هذا الفائز الأوحد عبر برنامج الفائز علناً وشخصه ومن اقترع له أو اقترع لغيره جهاراً نهاراً.

وطالما هناك فائز أكبرُ فإن هناك أيضا خاسراً أكبرَ في هذه الانتخابات وهذا الخاسرُ هو حاثي التراب على رأسه المولولُ يوم الحج الأكبر بعرفة يوما من السنة وبكل موقع فيه انتصارُ الحكمة والعقل والضمير والوعيُ على ما سواها باقي أيام السنة، وأظنك قد عرفته فإن لم تكن قد عرفته بعدُ فاعلم رعاك الله بأنه شيطانُ الحالة الفلسطينية وعدوها(دوت كوم) من الجن والإنس معاً وفيهم أقوال.

ما لفت في ردود الفعل المسجلة عقب الانتخابات ذهاب بعضها وللأسف الشديد إلى التشكيك عبرا لنظر من الثقوب مع أن نصيحتنا كانت ولا زالت بأن النظر من الثقوب طويلا وديدناً يورث الحَوَلَ حكما واجباً مؤكداً، كما تكون الفصاحةُ والبلاغةُ والبيانُ في وصف نصف الكأس الفارغِ ليست إلا جملاً لا محل لها من الإعراب ولا التقدير إن حصرت نفسها هناك وأصبحت ليست إلا براعةً في الحصر وعنةً في العصر، وهي براعة شائعة مؤخراً ليس فيها من الخبرِ إلا نصف حقيقة ونصف ضلال وليس فيها من الإنشاء إلا ما طاولَ واستطال ولاطم الخيال، وإن كانت هذه مجرَّد هفوة فلا بأس في النصح والإرشاد أما إذا كانت حرفة ودربة فهنا تصبحُ نذير شؤم ومعولَ فساد.

وأما ما جاء من انتقاد وتمنيات لقادم ٍ في تجارب شعبه ومن خلال النظر عبر نصف الكأس الملآن أولاً وابتداؤه المعالجة فهو عين التحدي ومحك العقول واللغة وميزان الرأي وسوية الوجدان والمنطق، فإن تناول بعد ذلك شيئا من الثقوب وشيئا من فراغ الكأس أو حتى كلها وكله فقد قدّم على الأقل موضوعية وتحرياً فقال ماله وأحصن ما عليه، وأدى دوراً هاماً في الرأي والمشورة وتوجيه شراع السفينة وما أشفى صدورَ شياطين الحالة الفلسطينية سراً بحطه من قدر تجربتهم التي ظهرت بما يستوجبُ الاعتزازَ في حالة ما شهد لها التاريخُ البعيدُ ولا القريبُ مثيلا ومع ذلك تسجّلُ مع فرادتها هذه مثالاً في قيمة العمل مع التصميم وإرادة الفعل للشعوب الحرة المستنيرة.

لمسنا من واقع الردود إضافة لما تقدّم في شأن استمرارية الحملات عربةً في قطارِ الاستحقاق الثاني المتأهب وإن كان على رصيف الانتظار في انتخابات المجلس التشريعي في تموز القادم وما سيتبعه من استكمال الانتخابات المحلية بعدها، كما لمسنا تنوعاً في التعقيب على نتائج هذه الانتخابات وكل على طريقته من الصحافة والإعلام والشارع ثم خلطات عجيبة في الدوائر المحيطة و الدوائر الرسمية وغير الرسمية هنا وهناك، ربما لأن كل واحد في هذه الأجزاء قد بنى رد فعله تبعا لما أراده من هذا الانتخاب وتمناه وذلك كله من المنطق، بيد أن هذا لا يوصِّفَ هذا الانتخابَ تبعاً لأي من هذه المواقف ولا يحصرها فيما تمنته منها وكان عليه حال ردة فعلها، بل يوصِّفها برنامجها ورجلها وما هو فاعلٌ بعد حين.

في شارعنا الفلسطيني الفاعل المتفاعلِ هناك من رأى في الانتخاب هذا مجرّدَ استحقاق لملء فراغ تركه رحيل القائد الشهيد، وبالتالي فلا نسبَ ولا أرقام ولم يولها أكبر من هذا القدر في الاهتمام، وآخرون رأوا فيه خطوة أساسية لاستكمال البناء وتجديد المؤسسات على صعيد السلطة الوطنية تحديداً، سيما وأنه قد اقترن مع الدعوة إلى الانتخابات التشريعية وسبقته جزء من عملية الانتخابات المحلية، أما آخرون فقد أرادوه لبنة في بناء جديد للحالة الفلسطينية بعامة ومؤشراً عليها، وفي خارج شارعنا الفلسطيني أراده المعظم مجرَّد استحقاق في عملية إنقاذ لهم من حصرهم أنفسهم بأيديهم قبلئذٍ بمواقف سابقة ضارة وربما على أمل جزئياً من أجل الخطوات المقبلة في مشاريع نصف وهمية ونصف ممكنة وهكذا...

نزعم أن فيما رآه شارعنا الفلسطيني أقربُ إلى حقيقة الأمر مما رآه غيره ُ بيد أن جميع هؤلاء تناسوا قدرة البرنامج الذي تمت عليه عملية الاقتراع في انتزاع التوجه إلى أي المنطق هو أقرب، فالبرنامج لا يمنع أن يكون في أجزائه إجابة لبعض تمنيات وتوقعات أي من هؤلاء وفيه أيضاً ما ينفي جزءً أو أجزاء مما أرادوه من هذا الاقتراع ونتيجته، في واقع الأمر إن هذه الانتخابات كانت في معرض الإجابة عن سؤال هام هو: (هل كنا ندخل فصلاً جديداً في المرحلة القائمة ؟ أم أننا نتوجه إلى مرحلة جديدة كاملة ؟)

استرشاداً بما في سابقتها من إيجابيات وبالتالي البناء على هذه الإيجابيات وإقصاء لما في سابقتها من سلبيات ومن ثم الحرص على استحضار أفضل ما يناقضها ويبعدها من علاجات.

ونحن نؤمن أن ستظهر الإجابة على ذلك في كل ملامحها قريبا لتقول إلى أي الطريقين نحن أقرب تنفيذاً لهذا البرنامج الذي اقترع عليه الناس، وقطعا فإن خطورة الإجابة والفزع منها هو الذي أثار وما زال يثير بعض الغابة الكثيفة من الأسئلة، وهي إن بقيت في أطرها المنطقية وحقها الموضوعي ستظل محترمة وتحظى بقدر كبير من المصداقية لأنها محقة في طرحها ولأن لطارحيها الحق في المشاركة وهم يحملون هم شعبهم وهموم قضيته الوطنية في هذه المفارق المصيرية، كل ذلك مفهوم ولكن غير المفهوم ولا المبرر هو نمط شاذ من الأسئلة التي تحمل في بطنها أجوبة ملغومة عن قصد وسابق تصميم لاعتبارات حزبية أنانية ضيقة تصل أحيانا إلى الانتهازية السياسية.

هناك غابة كثيفة من الأسئلة غيرا لمفهومة الآن وعلى أنماط شتى من مثل: هل يحق التصرُّف بهذا الاستحقاق الذي اكتمل على أساس أنه قياس لشعبية وأحجام ؟ وهل فيه تفويض أم هو تفويض ناقص ؟! وهل ذلك التفويض -الذي كان مفترضاً على أي حال- عند انتهاء الاقتراع وخروج النتيجة هو لفصائل وقوى أم لبرامج ومرشحين ؟

أسئلة قد تبدو ملحة ربما ولكن ترى هل هذا أوانها وبالطريقة التي خرجت بها؟! وهل إرسالها عبر الفضاء هو الطريق السليم لجعلها على باب المسئول عنها؟ ولماذا لم تثر قبل الانتخابات ؟! وهل هي فقط نتيجة لفوز فلان دون فلان ؟! ومع ذلك فقد كان واضحاً إقرار الرئيس الجديد (أبو مازن) بأن الثوابت هي الثوابت وأن الموقف إزاء أي مسألة أو تسوية إن نضجت وعرفت معالمها سيكون رهنا بالاستفتاءات الشعبية ونتائجها، إذن ففيم من بعضهم الهلع المصطنع ومن آخرين إظهار الوله والوجع ؟!

وبعيداً عن الأسئلة ومهارات إثارتها في غير موضعها مدخلا لحملات تشكيك مجانية وتحريض مسموم قد تصل في فعلها إلى مراحل خطرة من التيئيس، فإن هناك جملة من الممارسات هي في واقع الحال قد تلقي ظلالا من الشكوك حولها، مثلا في المزج بين الشيء وضده في ذات الوقت فقط للوصول إلى نتيجة مسبقة التحديد هدفاً، وهذه ممارسة شاذة لا شك في ذلك، ووضع عجيب اتضح في مواقف البعض عبر - يد مقاطعة ويد في الاقتراع – أليست ممارسة من هذا النوعِ ولا سيما إن أتبعت بعد ذلك بالانقضاض على استخدام أي الحالين أربحُ ( الاقتراع أو المقاطعة) في جدال عقيم هو أيضاً من نمط الشذوذ المسلكي؟!.

من جهة أخرى ما أثبتت سلسلة المقاطعات في موضع والمشاركات في موضع آخر دون وجود متغيّر سوى الزمن شيئا في الحالة الفلسطينية سوى أن هذه قد أصبحت على رأي البعض (موضة ) قديمة أو كما يصفها الأعاجم (أولد فاشن) ؟ وهل مسألة التشكيك والشكوك تقبع في غير إطارالمماحكات والحرد وندب الحال والمآل خاصة إن كانت خارج إطار الموضوعية والعلمية وجانبها كثير من الحكمة سيما وقد جرت هذه الانتخابات وكل انتخابات فلسطين حتى الآن منذ ابتدأت تحت أكثر أنواع التحوطات والرقابات شدة في العالم ؟!

على أي حال فإن الواقع يقول أن قد انتهى انتخاب رئيس جديد للسلطة الوطنية الفلسطينية التي قامت على أساس من أسلو الموقعة عام 1993 والتي وقعها الرئيس المنتخب الجديد السيد محمود عباس (أبو مازن) نيابة عن منظمة التحرير الفلسطينية، وأن جزء من أصحاب حق الاقتراع قد أولى اهتمامه في اقتراعه البرنامج، وانتخب جزء آخر انتماء سياسيا وانتخب جزء ثالث ممارسة لحق وربما دوراً في خطة انتخابية أو حزبية، ومع اتفاقنا بأن هناك كثيراً من الملاحظات على النواقص إلا أن ذلك لا يبرر بحال ولولة ً ولا إمعاناً في التيئيس، أما الأكثر وضوحاً في هذه الانتخابات فهو أنها ليست دليلا أكيداً على شعبية ولا نسب ولا هي تصلح في مقاطعتها لذات الدور ولا الوظيفة ولا مكان ذلك هنا لعدد من الأسباب لعل أهمها أن فوز مرشح (فتح) كان أصلا مضمونا وعلى لسان من شارك ومن قاطع وربما انتخابات المجلس التشريعي هي المكان الصحيح لشيء من هذا القبيل.

رهانات قادمة بلا شك ولكن ملامح الحقبة الفلسطينية الجديدة وجمهورية الكوفية الثانية ستتقرر فقط بعد أن يتم التعامل السليم والمبدئي مع أهم أركان الحياة السياسية الفلسطينية ليس عبر انتخابات الرئاسة وليس حتى عبر انتخابات التشريعي المقبلة ولا قطعا عبر استكمال واكتمال الانتخابات المحلية، بل عبر اختيار واحد من اتجاهين مختلفين في الانطلاق، أولهما يقتضي فصل السلطة عن المنظمة والثاني يقتضي وصلهما لصالح واحدة منها على حساب الأخرى مع ما يحمله ذلك من أخطار وخيارات، وفي الظن والنظر أن هذه هي في حقيقة الأمر عند حسم الخيار بينها هي التي ستحدد ملامح جمهورية الكوفية الثانية والتي ستجيب عن عدد كبير من الأسئلة المفيدة والتي ستوضّح بلا شك إلى أين نسيروما الدور الفاعل وما الدور السالب وماذا نريد أن نكونه في القرن الجديد.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 64 / 2165540

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع مستشار التحرير   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

4 من الزوار الآن

2165540 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 5


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010