الخميس 6 آذار (مارس) 2014

دوامة العنف السياسي والعنف المضاد

الخميس 6 آذار (مارس) 2014 par د. علي محمد فخرو

شيئاً فشيئاً تتكالب قوى الشر والثورات الرجعية المضادًّة لتزيح مطالب الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، والديمقراطية، من الساحة السياسية العربية لتحلًّ محلًّها ظاهرة العنف والعنف المضاد عبر أصقاع الأرض العربية . بعد أن كانت منذ بضع سنوات قضية الديمقراطية في وجه الاستبداد هي قضية المجتمعات العربية الأولى والأهم والأكثر إلحاحاً، وأصبحت اليوم قضية العنف، بكل أشكالها وتلاوينها، امتداداً من العنف اللَّفظي والرمزي ووصولاً إلى العنف الإرهابي العبثي الفاسق، أصبحت كلها قضية السًّاحة السياسية الأولى . هنا صعدت مفاهيم الأمن وخفتت مفاهيم السياسة والاجتماع، وارتفع صخب طبول البطش والاجتثاث ونفي وجود الآخر على صوت كل آلة أخرى في سيمفونية الحياة العربية الحالية .
دعنا من المولولين الكاذبين، ذارفي دموع التماسيح، وممن لا ترى أبصارهم إلا زاوية واحدة وإلا لوناً واحداً، ولنسأل سؤالاً بريئاً واحداً: ما موضوع العنف؟
إذا نظرنا في قاموس العلوم السياسية، فإن تعريف العنف السياسي هو أنه وسيلة تستعملها بعض قوى المجتمعات وبعض قوى السلطة لتحقيق أهداف سياسية وذلك من خلال قمع الآخر . لكنَّ هذا التعريف الغامض الجامد لا يسمن ولا يغني من جوع، إذ يتجنًّب الخوض في الأسباب وفي الأجواء المحيطة به وفي العوامل التي تغذيه وفي ارتباطه الوثيق بأحزان وأوجاع التاريخ .
البعض يحاول أن يدخل في صلب هذا الموضوع المعقًّد من خلال قول أو جملة أو تركيز على جانب واحد، فالرئيس الأمريكي الراحل جون كيندي ينسب إليه قوله إنه “عندما تسدّ الأبواب أمام الثورة السلمية فإن الانتقال للثورة العنيفة يصبح أمراً حتمياً” . وهناك قول ينسب لناشط سياسي ضد التمييز العنصري الأمريكي بشأن المواطنين السود: “إنني تلميذ العنف لأنني تلميذ القلب الإنساني” . الأول يتحدث عن انسداد الآفاق السياسية، والثاني يتحدث عن أهمية القيم الإنسانية والجوانب الأخلاقية . والواقع أن الأقوال كثيرة ومتنافرة .
مايهمنا إيضاحه هو أن العنف السياسي ظاهرة معقدة مرتبطة أشدًّ الارتباط بالممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المجتمع، وأن الجانب الأمني هو فقط أحد وجوهها . إنه في قلب موضوع السلطة في الدولة العربية الحديثة وفي قلب أزماتها وإخفاقاتها، وهو أيضاً في قلب أزمة الثقافة العربية الحديثة التي تراوح مكانها مشلولة بين الثقافة التقليدية الجامدة وثقافة العولمة الكاسحة المملوءة بالسلبيات .
إن ذلك يعني أن ظاهرة العنف السياسي في المجتمعات العربية يجب أن تدرس وتحلل من خلال منهجية العلوم الاجتماعية وإيجاد الحلول لها أيضاً من خلال أفكار ومبادئ تلك العلوم . من هنا اعتراض الكثيرين على المقولة الأمنية التبسيطية التي تختزل الموضوع في ضرورة استعمال العنف الأشدّ والأكثر بطشاً من أجل منع انتقال العنف السياسي إلى ثورة عنيفة تحرق الأخضر واليابس، ليس لأن الإجراءات الأمنية غير مهمة بل لأنها وحدها غير كافية وغير كفؤة وتحتاج إلى سلسلة طويلة من عناصر الإسناد .
وبالطبع فإن الحكومة الرشيدة العاقلة هي التي تستطيع التمييز بين العنف السياسي، الذي له مبرراته أحياناً، وبين الإرهاب السياسي الذي لا يمكن أن يبرَّر لأنه يأتي على حساب الأبرياء الآخرين وعلى حساب السلم الأهلي . وبالمناسبة فإن هناك أكثر من مئة تعريف للإرهاب السياسي ما يجعل الموضوع معقداً للغاية . وكذلك التعاريف المتعددة للعنف السياسي .
ولذلك حرصت بعض الدساتير على أن تضع في ديباجتها توجيهات أساسية عامة من مثل أن وجود الحكومة الرشيدة لا يمكن فصله عن وجود النظام العادل والسًّلام الأهلي في المجتمع أو من مثل أن هناك علاقة حميمة ومتلازمة بين وجود الحرية والعدالة والقوانين العادلة والنظام العام العادل وبين إطاعة القانون من قبل أفراد ومؤسسات المجتمع .
كتوضيح واقعي لتلك المقولات يمكن ذكر تاريخ العديد من الدول الديمقراطية في بداية القرن الماضي . لقد استعملت حكومات تلك الدول العنف السياسي الباطش ضدّ العنف السياسي الذي مارسته حراكات النقابات العمالية، ولكنها فشلت في إيقافة . ولكن كل ذلك العنف السياسي العمالي توقًّف عندما باشرت تلك الحكومات بتقنين الحقوق العمالية على أسس عادلة معقولة . عند ذاك أصبح النضال الحقوقي العمالي نضالاً سلمياً نابذاً للعنف .
لن تحتاج الأنظمة العربية إلى الاستمرار في أو البدء باستعمال العنف السياسي، وأحياناً الإرهاب السياسي مع الأسف، لإيقاف العنف السياسي المجتمعي إذا هي اعتبرت العنف السياسي ظاهرة اجتماعية جديرة بالدرس والتشخيص والعلاج من خلال مبادئ وأسس علوم الاجتماع وهي معروفة ومجربة وناجعة .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2178782

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

2178782 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40