الأربعاء 5 آذار (مارس) 2014

نحو حل تفاوضي للأزمة الأوكرانية

الأربعاء 5 آذار (مارس) 2014 par فيصل جلول

لن تقع الحرب العالمية الثالثة بسبب شبه جزيرة القرم، أو حفاظاً على الرئيس الأوكراني المخلوع، أو من أجل الديمقراطية في كييف . وحتى تقع هذه الحرب لا بد من رهانات كونية اقتصادية وأيديولوجية وجيوستراتيجية لا ترتسم اليوم في النزاع الأوكراني المحدود .
بيد أن مجموعة من العناصر الرمزية تصرّ على الإيحاء بأن النزاع يمكن أن يخرج عن حدوده الأوكرانية، وأن يتدحرج ككرة الثلج نحو الحرب المفتوحة . فقد سيطر الروس على شبه جزيرة القرم وفيها أسطولهم ومصدر قوتهم الأبرز، وبالتالي من غير المتخيل أن يقبلوا بحكومة معادية لهم في أوكرانيا عموماً، وفي القرم بخاصة . وفي هذا المكان تقع أيضاً مدينة يالطا التي شهدت لقاء تاريخياً بين روزفلت وتشرشل وستالين، رسمت خلاله حدود أوروبا والعالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ونحو هذا المكان كانت الحملات الخارجية تأتي لتأديب روسيا أو لإخضاعها، وقد شكل هذا المكان، ويشكل نقطة تماس عالمية بين روسيا الاتحادية والغرب بعد انهيار الحرب الباردة، وهو جزء لا يتجزأ من شريط ما يعرف ب “الديمقراطيات” الشرقية التي رعاها الغربيون منذ تسعينات القرن الماضي، ونظرت إليها موسكو بوتين بوصفها قلاعاً معادية على حدودها لتحجيم وزنها الدولي . ومن هذا المكان يمر الغاز والنفط الذي تحتاجه أوروبا للصناعة والتدفئة، بل لكي تؤدي الحضارة الأوروبية وظائفها اليومية، وفي هذا المكان يرى الأوروبيون أن انتصارهم “الديمقراطي” يمكن أن يتسرب كالنعاس نحو روسيا نفسها، وبالتالي تجريد هذا البلد من نظامه القومي بوسائل ناعمة، وصولاً إلى سيادة الغرب أوروبا وجزءاً كبيراً من العالم بلا منافس أو منازع .
في المقابل ترى روسيا أن نظام الرئيس السابق بوريس يلتسين أتاح هجمة غربية “ديمقراطية” غير مبررة، وصلت إلى موسكو مخترقة كل الدول المحيطة بها والموالية طويلاً لروسيا القيصرية ومن بعد الشيوعية، ولم يتردد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين في القيام بهجوم مضاد متحرراً من السياسة السابقة كلما أتيحت له الفرصة، فقد أخضع الصحافة وأخضع الاقتصاد في بلاده، واعتمد سياسة قومية ناجحة أفضت إلى تحجيم وقمع منافسيه الداخليين، ليسترجع من بعد نفوذ بلاده في البلدان التي خسرتها، ومن بينها جورجيا وأوكرانيا وقيرقيزيا وغيرها من الأماكن التي احتلت في الخيال الغربي قيمة رمزية ووجهت لها المدائح، وأطلقت على بعضها تسميات محببة من نوع “ثورة البرتقال”، خصوصاً أن بعض هذه البلدان سمح بإقامة قواعد عسكرية أمريكية على حدود الجيش الروسي “الأحمر” .
كان بوتين يتدخل بسرعة الصوت كلما لاحت له فرصة مناسبة للتدخل في هذه البلدان، فقد استعاد قرقيزيا بقوة وخلال أسبوع، وأقام نظاماً موالياً فيها، وهاجم في وضح النهار أوسيتيا، وهدد جورجيا، وأخضع رئيسها ساكاشفيللي المتهم بالعمل مع المخابرات المركزية الأمريكية . وهو اليوم يصرّ على ربح معركة أوكرانيا، مستفيداً من ضعف الغربيين وبخاصة الولايات المتحدة التي خرجت منهكة من حربي العراق، وقريباً أفغانستان، وميل الرأي العام الأمريكي والغربي عموماً نحو الاستقرار والتفرغ لعلاج الأزمات الداخلية، فهل يربح الصراع؟
والواضح أن بوتين يكرر في أوكرانيا السيناريو الجورجي، حيث رد على تهور الرئيس سكاشفيللي باحتلال أوسيتيا، استجابة لرغبات أهلها الاستقلالية، مهدداً بضربة سريعة لوحدة الأراضي الجورجية، وبالوصول خلال ساعات إلى القصر الرئاسي في تبليسي، وهو ما نلمسه في تصريحات لاحقة نسبت إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي أنقذ سكاشفيللي بقوله: “إن لم تعلن وقف النار وتكف عن تحدي الروس فإن بوتين سيصل إلى قصرك خلال 24 ساعة ولن يحميك أحد منه”، وقد فهم سكاشفيللي الرسالة، ليس بسبب قوة بوتين وقدرته فحسب، وإنما أيضاً بسبب إيحاء ساركوزي بأن الغرب لن يخوض حرباً مع الروس من أجل الديمقراطية في جورجيا .
ما ينطبق على تبليسي ينطبق على كييف مع فارق مهم في اللغة والمناورة والرهانات، فالرئيس الروسي الذي لم يتردد لحظة في ضم شبه جزيرة القرم عملياً، يستند إلى قسم وافر من شرق أوكرانيا ينظر إلى روسيا بعين العطف والتضامن، وبالتالي يمكن أن يلعب لعبة بوتين مهدداً بقوة وحدة الأراضي الأوكرانية، ويعرف بوتين أن الغرب لن يخوض حرباً عالمية ثالثة من أجل الديمقراطية في أوكرانيا، وأن موسكو ليست مستفزة في هذه القضية، وإنما الغربيين الذين مولوا وشجعوا وساندوا مباشرة الانقلابيين الذين خلعوا رئيساً منتخباً، متجاهلين الاتفاق الروسي - الأمريكي - البريطاني الذي يضمن أمن أوكرانيا بعد الحرب الباردة، والذي يعني واقعياً أن هذه الدول لها كلمة فاصلة في أن يكون حكم هذا البلد غير منحاز لهذا الطرف أو ذاك .
إن نظرة سريعة على ردود فعل الانقلابيين في كييف تظهر أنهم أعلنوا حالة الطوارئ واستدعوا الاحتياط، لكنهم ليسوا مستعجلين لقتال الجيش الروسي القادر على وضع حد لمقاومتهم من دون أن ينجدهم أحد، فقد اجتمع الحلف الأطلسي وتجنب الحديث عن رد عسكري كما فعلت أمريكا، أما في أوروبا فإن أحداً لا يجرؤ على استخدام لغة السلاح في مواجهة روسيا، ولعل هذا يفسر دعوة ميركل إلى التفاوض بلا شروط . . قد لا تمر الأزمة الأوكرانية مرور الكرام، لكنها بالتأكيد لن تتسبب بحرب عالمية ثالثة، وكل تهويل في هذا الخصوص لا يعول عليه



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 14 / 2165497

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2165497 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 15


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010