الثلاثاء 4 آذار (مارس) 2014

الصراع على أوكرانيا عودة للحرب الباردة

الثلاثاء 4 آذار (مارس) 2014 par د. يوسف مكي

توج انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، باكتشاف القنبلة النووية واستخدامها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، لأول مرة في التاريخ الإنساني، في ضرب مدينتي هوريشيما ونجازاكي اليابانيتين . وكان التحاق الاتحاد السوفييتي السريع بإنتاج هذا النوع من السلاح، منع تفرد أمريكا بإنتاج هذا النوع من السلاح، ومثل انتقالاً رئيسياً في طبيعة المواجهات العسكرية بين القوى الكبرى، حيث لم يعد بالإمكان حدوث مواجهة عسكرية مباشرة، بين من يملكون السلاح النووي، لأن ذلك يعني دماراً محققاً للبشرية .
انتهت الحرب أيضاً، بتتويج الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كأكبر قوتين عسكريتين، فوق كوكبنا الأرضي . وقد تفردت القوتان، بامتلاك السلاح النووي . وكان من أبرز الملامح السياسية، لإفرازات ما بعد الحرب، هو انقسام العالم، إلى معسكرين يختلفان في عقائدهما السياسية ونظمهما الاقتصادية، ومناهجهما الاجتماعية . ويقود كل طرف منهما حلفاً عسكرياً، في مواجهة الآخر . فالأمريكيون شكلوا حلف الناتو، الذي ضم بلدان أوروبا الغربية التي تلتزم الطريق الرأسمالي في إدارة الدولة والمجتمع، وأسس السوفييت حلف وارسو الذي ضم بلدان أوروبا الشرقية، التي مثلت الكتلة الاشتراكية .
ولأن المواجهة العسكرية المباشرة، بين القطبين أصبحت بحكم المستحيل، ساد مفهوم الحرب الباردة، مع بداية الخمسينات من القرن المنصرم . وضمنه ساد صراع بين القطبين، بأوجه مركبة، ضمنت وضع ضوابط غير مكتوبة، تضمن استمرار الصراع بينهما، من دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة، لأن مثل هذه المواجهة، تعني الفناء المحتم للبشرية . وبضمن هذه الضوابط، اعتراف الطرفين بوجود حدائق خلفية، ومناطق حيوية لكل منهما، لا يجوز تجاوزها من قبل القطب الآخر . وكان مؤتمر يالطة، الذي جسد طبيعة القسمة بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، هو من وضع الحجر الأساس، لتلك الضوابط .
الضابط الآخر، للعلاقة بين هاتين القوتين، هو أن الحرب إن شنها أحدهما، ضد مصالح الآخر، فإنها تتم بالوكالة، وليس بالصدام المباشر . وكهذا اشتعلت الحروب أثناء الحرب الباردة، إما باقتصارها على الحلفاء، أو بتدخل أحدهما مقابل حليف للآخر . كما حدث في الحرب الكورية، وفي حروب جنوب شرق الهند الصينية، وفي الصراع العربي الصهيوني .
سقط الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينات ومع سقوطه سقطت الكتلة الاشتراكية، وتربعت الولايات المتحدة على عرش الهيمنة الأممي، وسادت حقبة الأحادية القطبية، لأكثر من عقدين . وتشكلت روسيا الاتحادية، على قاعدة المنهج الغربي في الحكم، القائم على التعددية والفصل بين السلطات وتداول السلطة، وإنهاء حكم الحزب الواحد . لكن دورها في السياسة الدولية، تضاءل ليقترب من مستوى الصفر .
عادت روسيا مجدداً وبقوة، إلى الواجهة، لتمارس دورها القديم في صناعة القرار الدولي، وإن كان ذلك بوتائر مختلفة . ومع هذه العودة، تغيرت العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة، لتنتقل من الاستتباع، إلى الشراكة .
ورغم الخلافات الجوهرية بين البلدين، حول قضايا كثيرة، من ضمنها قضية الدرع الصاروخية، ومحاولة روسيا الدؤوبة استعادة دورها في جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، التي تعتبرها حكومة بوتين بمثابة الحديقة الخلفية، وعمقها الحيوي، فقد بقي الطرفان، الأمريكي والروسي، متمسكين بتوصيف العلاقة بينهما بالشراكة . وتكرر ذلك، حتى أثناء الأزمة السورية، التي وقف فيها الطرفان على طرفي نقيض .
لكن التطورات الأخيرة، في أوكرانيا، وسقوط النظام الحليف لروسيا، وقيام نظام يطمح إلى الالتحاق بالوحدة الأوروبية، غيّر كثيراً من صورة المشهد، وتشير التطورات اللاحقة للانقلاب الأوركراني، إلى أن روسيا لن تسلم بسهولة لمن وصفتهم بالانقلابيين، وأنها سوف تذهب بعيداً في مواجهة النظام الجديد . وقد بدأت فعلياً في استخدام أوراقها في شبه جزيرة القرم .
ربما تشكل الأحداث الأوكرانية الأخيرة، نقلة في علاقة روسيا الاتحادية، بالولايات المتحدة، وحلفائها بالاتحاد الأوروبي، من توصيفها بالشراكة، إلى الحالة الصراعية . فالأوروبيون والأمريكيون، كما تراهم روسيا، تجاوزوا الخطوط الحمر، باستجلاب أوكرانيا لصفهم . بمعنى آخر، أصبحت روسيا مهددة، في خاصرتها، من خلال حديقتها الخلفية .
لدى روسيا أوراق كثيرة، تستخدمها في مواجهة الأمريكيين والأوروبيين، لكنها جميعاً لن ترقى إلى مستوى إسقاط النظام الجديد بالقوة العسكرية . فمثل هذه المواجهة، ستكون مستحيلة، كما تؤكد المصادر الروسية، لكن ذلك لم يمنع الرئيس بوتين، من دعوة القوات الروسية لامتحان جهوزيتها، والاستعداد لتطورات الموقف .
روسيا معنية بشكل مباشر بما جرى في أوكرانيا، لأسباب استراتيجية، ولأن الانقلاب الأخير هو احتجاج على رفض الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش التوقيع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في نهاية نوفمبر من العام المنصرم، مفضلاً الانحياز لروسيا، وقبول ما تعهد به الرئيس بوتين، من تقديم مساعدات تقدر قيمتها 15 مليار دولار .
التاريخ لا يعيد نفسه، وروسيا وأمريكا تتهيآن للدخول في حرب باردة جديدة، لكنها بالتأكيد مختلفة من حيث المضمون والشكل، عن مثيلتها، التي استمرت أكثر من أربعة عقود . فصورة الصراع العقائدي بين القطبين الدوليين لم تعد قائمة، وليس لها مكان في الصراع الجديد . والنظامان السياسيان، متشابهان في كثير من الأوجه . فكلاهما يلتزم بالاقتصاد الحر، ويطرح التعددية وتداول السلطة، وإن كان ذلك بشكل أقل في روسيا الاتحادية .
مرحلة استقطابات دولية، اقتصادية وسياسية وعسكرية قد بدأت، وتشكل منظومة “البريكس” أحد أوجهها . وربما لا يزال الوقت مبكراً، لتحديد معالم هذه الاستقطابات، والقوى التي ستلتحق بأي من الفريقين المتنافسين، لكن المؤكد، أننا على أعتاب مرحلة جديدة، شبيهة في تشكلها، بمناخات الحرب الباردة، وسوف تتضح ملامحها قريباً، وليس علينا سوى الانتظار .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2178436

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع ارشيف المؤلفين  متابعة نشاط الموقع يوسف مكي   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

2178436 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 16


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.traditionrolex.com/40 https://www.traditionrolex.com/40