السبت 22 شباط (فبراير) 2014

الكتابة بوحل النازحين

السبت 22 شباط (فبراير) 2014 par نسيم الخوري

هناك أجيال مخضرمة هائلة في الأرض تعلق بخيوط العنكبوت “w .w .w . لعبة” القرن والقرون المقبلة المعرفية، وأرى العرب من حولي في حال من اندثار يجهدون إلى اللحاق بالأجيال العالمية المتشابهة ولكنّ قسمات وجوههم ورصانتهم المفرطة وكوارثهم المتكرّرة والمتراكمة قد لا تسمح لهم بدخول الملعب العالمي واللعب فيه وتغيير شروط اللعبة أو أنظمتها أو تحديد خسائرها . صحيح أنّها أجيال تلامس النظم المعقّدة الرياضيّة بواسطة المقابس والأزرار الفائقة الذكاء فتلاطفها وتمسّد رؤوسها وتؤانسها فتكتب وتؤسّس مواقع أو تنشر مقاطع وصوراً ومقالات في أكثر من سوق أو فسحة مضيئة، لكنها أجيال باتت مسكونة بخيبات معرفية وثقافية هائلة ولو أنّها لا تعترف بها علناً . قد نسأل جميعاً أنفسنا: ماذا نكتب وعن ماذا نكتب بل لماذا نكتب وهل تقدّم كتاباتنا إلى واقعنا العربي المرير أكثر من التمرّس بلعبة الكتابة؟
أكتب وأمامي كومة من صبية نازحين من سوريا يلعبون بالوحل كي ينقشع الجوع . قد أعطيهم أرغفة معجني ودموعي ولكن كتاباتي كلّها لا تقدّم رغيفاً إلى نازحٍ متسوّل مقلوع من أرضه؟ هم “يعيشون” بالرغم مما يكتب ويقال وينشر في الأمم من برامج ونصوص دولية مبهمة لكنهم أمامي كما النباتات البريّة التي تقلع من حوضٍ زهور وترمى على الطريق وتلال القمامة حتّى تجفّ من الشمس والقهر والجوع . كيف أخرج هؤلاء من حبري؟ في البدء كانت الكلمة . هذه مقولة صحيحة تنام فوق أحلى الوسائد وأوزن العقول والنصوص، لكن ألسنا نقرّ بأنّ منطق الألعاب المسيطر على المعرفة والعقول والحروب والمؤامرات ونصوص مجلس الأمن الدولي وبياناته وقراراته والمورثة للنزاعات والمذابح يظهر وكأنّه فلسفة جديدة في تاريخ البشريّة حطّ في أرض العرب والإسلام؟ تلك حال غريبة بالنسبة للموفورين منّا ترمينا في الزهد والتقاعد الفكري منذ نشوء الفكر، وتفترض أن القليل من المعرفة مع كثير من الخبرة أجدى بكثير من الكثير من المعرفة مع القليل من الخبرة . لكنها حال تجعل كلّ ولد من أولادنا ينتمي إلى قارة أو كوكب مختلف عن الآخر . قد تساعدنا هذه “الفلسفة” اللعبة في تعزيز التطبيق أو الخبرة والتقنيّات مكان النظريات والمعارف الجاهزة المجّانية الموضّبة غبّ الطلب المحشوة في الذاكرات الآلية الجديدة الاصطناعيّة والتي تفوق طاقات الأفراد والدول والجامعات والأفكار والنصوص بما لا يُقاس . إنّها في الواقع، ما زالت فلسفة اختباريّة بسيطة، تتضاعف بساطتها أو سهولة احتوائها كلَّما تعقَّدت أدواتها وصغرت أحجامها، وهنا تكمن الثورة الهائلة التي تنتظرنا كلّ صباح، فترمي أمامنا بالتقنيات الحديثة الأحاجي والمعضلات التي لا يمكننا حلّها أو فهم مراميها ووظائفها، فنجد أنفسنا في انحدارٍ مرغمين على الانفصام والانقلاب جذرياً على مقولات المعرفة والكتابة التي خزّناها منذ ما قبل اليونان وعاشت آلاف السنين رافلةً بقيم الأديان التي بقيت فوق صعبة المنال .
لقد ساعدتنا هذه “الفلسفة” في حلّ مغامرة الصراع بين الأجيال في البحث عن مستقبل ما أو عن أفكار بسيطة سريعة التي بدت أسيرة الشبكة مثل غيرها من لغات العالم، لكنها زرعت في عجزنا تراكمات الدخول إلى عالم تتراجع فيه السلطات لتنضوي في هذه الفلسفة الجديدة التي يمتلكها الأطفال . أيّ نوع من الأطفال هو المستقبل؟
وكان علينا كتّاباً تجديد البحث في عالم الأطفال في ديارنا وأدواته المعرفية أو التهجيرية المعاصرة . وبدا أن الفرد الصغير فينا، من دون أي تمييز في الجنس، صاحب استقلالية مطلقة ومن دون عوائق صاحب سلطة لا تعاريف لها، وفي غياب أو حيرةٍ شبه كاملة لمؤسّسات السلطة، ليس وهمياً، بل يأخذنا إلى انهيار خفيّ يتنامى نحو الصمت، يطوِّع رموز السلطة المنزلية، على الأقل، لشدّة تمرّسه السريع بعالم الألعاب بالوحول أو بالشاشات .
إننا نتعلّم العصر تماماً كما الأطفال، وإن أفضل مَن يعلّمنا في هذه المرحلة هم الأطفال، بالرغم من أن هواجسنا غير المباشرة التي تدور في اللعبة العربية؛ غير أن سهولة مجاورة الصغار كانت تفرز بدورها صعوبات جديدة من أن يرى المرء الهرم نفسه طالباً يرسب أبدياً مغامراً يتجذّر في شيب الشعرة الباقية في رأسه تشدّه إلى النمر الزهري، من يتذكّر النمر الزهري وأولاده وأحفاده في خزائن الألعاب المستوردة؟
لقد وقع هذا النمر - اللعبة في الماضي لدى الأطفال وصار مرفوضاً منهم، وحزيناً وقديماً، على الرغم من متغيّراته وتبرّمه وثبات لونه الزهري وسحر لغته الصامتة وبهجته، وعادت وجوه أطفالنا الأبديّة تتساءل عن تلك اللعبة العربيّة مجدداً إن كانت تتقدّم لأن تصبح مجدداً نمراً زهرياً أو نمراً أبيض ورقياً نمرّغه في الوحل؟
هكذا تتدافش الصعوبات والمضلات التي ما كنّا نشهدها من قبل، في أدوار من الحرارة واليأس تنذر بالموت أو باليباس، طموحاً إلى الظفر بعنق النار أو بحثاً عن البياض الهولاكي الخارج من رماد الشرق أو بالصمت الزهري الذي هو الأقوى، ربّما، على الكتابة والتعبير . ألسنا محقّين بتوصيف سياساتنا الطيّبة بأنّها ليست ضماناً أكيداً للنجاح بينما السياسات السيئة ضمان محقق للفشل الذي قد يساوي النجاح؟ غير أنّ ما نحن فيه يستدرجنا إلى السير بالحكمة الإغريقية البليغة التي تقول بأنّ “الآلهة لا تعاقب البشر حين تغضب عليهم وإنّما هي تسلّط عليهم أنفسهم”، وأضيف إليها أن المرآة التي ترى الأمم نفسها أعني عدوّها الأوّل قد تشظّت في وجه العرب، فصرنا في خانة الصفر . نعم صرنا في الصفر عندما كان العالم يرتجف أمام دائرة الأصفار في العام ألفين التي لم يُحسب لها حساب إذ كان يكتفى بترقيم الأعوام برقمَي الآحاد والعشرات، فيكتب 99 بدلاً من 1999 مثلاً . وقد توصّل الخوف إلى حدّ القول بنهاية العالم، لكنّ المعضلة حُلَّت وفق ما هو سائد في ألعاب الأطفال الالكترونية باعتماد الأصفار أرقاماً ملآنة وليست فارغة أو عدمية .
إنّها السهولة القومية المحشوّة بالخوف من الانهيار الشامل التي جعلتنا نقفز من جيل إلى آخر، فلا نركن إلى ثوابت في القول والفعل والكتابة والسلوك، وسرعان ما وقعنا في زمنٍ تبدو فيه الكتابة، أسطورة متثاقلة لا تحفر في الأرض إلا إذا أوحلت بدم الأبرياء ومارت تحت أقلامنا . لم تعد تنفع حفّة قلم الرصاص فوق الورق الأبيض الصقيل حيث نتخيّل صوت هبوب الريح فوق الأشجار وصرخات سلخ لحائها المجروح تختلط بصرخات الزرقة المندلقة من المحيطات في انتظار الشعر والأدب والكتابة، بينما السيوف العربية مسلولة في الديار . أهو نحن الجيل الأخير؟ وما هو مستقبل حبرنا وقيمته؟ إنّه نصّ للتمزيق . . . بعدما مزّقته بدوري وجمّعت أشلاؤه في العروبة بغية ادّعاء “كتابة” بالوحل فوق كومة أطفال نازحين



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2166069

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

2166069 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 21


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010