الجمعة 14 شباط (فبراير) 2014

“الانشلوس” الأطلسي في الميزان العربي

الجمعة 14 شباط (فبراير) 2014 par رغيد الصلح

عندما يتابع المرء أنباء منطقة التجارة الحرة الأطلسية التي يفترض أن تضم الولايات المتحدة، من جهة، والاتحاد الأوروبي، من جهة أخرى، يجد نفسه مسوقاً للعودة إلى مشروع “الانشلوس” وإلى مقارنته مع المنطقة الأطلسية المقترحة . أن المقارنة قد تنطوي على شيء من العسف اذا اعتمدت على النظرة المألوفة إلى “الانشلوس” . ذلك أن مصطلح “الانشلوس” الألماني المنشأ الذي يعني أساساً مشروع الاتصال أو الاتحاد بين ألمانيا والنمسا اكتسب سمعة سيئة بعد أن دمجه النازيون في برنامجهم خلال الثلاثينات .
وواكب صعود الجماعات المؤيدة للنازية في النمسا تفاقم القمع للجماعات النمساوية المؤيدة للديمقراطية ولمبادئ عصر التنوير . وبلغت هذه الإجراءات ذروتها قبيل الاحتلال النازي للنمسا، عندما نفذت قبضة من ضباط الاستخبارات الألمانية التي تقدمت القوات المحتلة، حملة قمع واعتقالات وتصفيات طالت ما يقارب السبعين ألف نمساوي من الديمقراطيين ومعارضي النازية .
وشملت هذه الاجراءات السوداء شخصيات سياسية بارزة لعبت دوراً مهماً خلال المراحل السابقة للغزو . هذه الإجراءات سهلت على النازيين النمساويين الاستيلاء على الحكم في فيينا والتفرد بالسلطة، ومن ثم إلحاق النمسا بألمانيا وتحقيق مشروع اتحادي بين البلدين يقوم على أساس التكافل والتكافؤ .
منذ تاريخ إلحاق النمسا بألمانيا ترسخت هذه الصورة البائسة في الأذهان لمشروع “الاتصال والاتحاد” بين بلدين تربطهما علاقات تاريخية ومصلحية . وبات من المعتاد أن يطلق معارضو مثل هذه المشاريع في دول ومناطق أخرى مصطلح “الانشلوس” على أي مشروع تعاوني أو اتحادي يناوئونه أو أكثر . كذلك بات من السهل أن تؤدي المقارنة بين “الانشلوس” النازي ومشاريع أخرى إلى إحاطتها بالشكوك والمخاوف . وشملت هذه المقارنات أحياناً مشاريع عربية وحدوية مثل مشروعي سوريا الكبرى والتعاضدية مثل الاتحاد الاقتصادي العراقي- السوري اللذين دعى إلى تنفيذهما بعد الحرب العالمية الأولى . ولكن هل تصح هذه المقارنة؟
قبل أن يستولي النازيون على مشروع الاتحاد بين ألمانيا والنمسا، بل قبل أن يلد الحزب النازي في ألمانيا، كان الحامل الرئيسي لهذا المشروع هو الأحزاب والجماعات الديمقراطية والتقدمية في ألمانيا والنمسا معاً . وتعبيراً عن موقف هذه الجماعات التي تولت الحكم في النمسا مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، فقد أطلقت على بلادها اسم “الجمهورية النمساوية الألمانية” كذلك عملت هذه الجماعات التي سيطرت آنذاك على الجمعية العمومية النمساوية المنتخبة على تضمين الدستور المؤقت للبلاد أن “النمسا الألمانية هي جزء من ألمانيا”، أما في ألمانيا فقد اعتبر الدستور الذي أقرته الهيئات الدستورية المنتخبة بعد الحرب مباشرة أن النمسا هي جزء من ألمانيا .
إن هذا المشروع ما لبث أن دفن بعد أن فرضت الدول المنتصرة في الحرب الأولى، أي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على ألمانيا والنمسا التخلي عن “الانشلوس” . هذا الموقف بات ركناً أساسياً للسياسة التي اتبعها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة وأنهم لم يفككوا الاتحاد الألماني - النمساوي فحسب، وإنما فككوا ألمانيا نفسها .
إن هذه المواقف تثير مسألة المعايير المستخدمة في تحديد المواقف الدولية تجاه مشاريع الاتحاد والتعاضد الكبرى في العالم . لقد أثارت هذه المسألة العديد من علماء القانون والعلاقات الدولية وحقوق الإنسان من بينهم هوغو براوس، وهو واضع دستور جمهورية “وايمار” الألمانية التي استمرت سنوات ما بين الحربين العالميتين والذي اعتبر من أكثر دساتير العالم ليبرالية وتنوراً .
واستناداً إلى آراء براوس في موقف القوى الثلاث الكبرى تجاه “الانشلوس” التي نشرت في صحيفة “نيويورك تايمز” (14-9-1919) يمكن التأكيد على المعايير التالية كأساس لتقييم المشاريع التعاضدية والاتحادية في العالم:
* أولاً، إقرار هذه المشاريع من قبل ممثلين منتخبين من الشعب، أو عبر استفتاءات شعبية حرة ونزيهة .
* ثانياً، الموافقة على هذه المشاريع أكثرية وازنة من الشعب .
* ثالثاً، أن تخدم هذه المشاريع الديمقراطية في البلاد المرشحة للانضمام إلى المشاريع التعاضدية أو الاتحادية وخارجها أي على النطاق الدولي .
* رابعاً، أن تساعد هذه المشاريع على خدمة السلام العالمي .
إن هذه المعايير تساعدنا على التمييز بين “انشلوس” وآخر . ومن البديهي هنا أن يقف المرء ضد “الانشلوس” الهتلري لأنه كان خطوة في اتجاه عام معاد للديمقراطية وللسلام العالمي والإنساني .
ومن المصيب أن يؤيد المرء الدعوة إلى الاتحاد التي طالب بها الألمان والنمساويون في أعقاب الحرب العالمية الأولى . كذلك من المصيب أن يرى المرء الأضرار الكبرى التي لحقت بالعرب وبالمجتمع الدولي نتيجة إحباط مشروع سوريا العربية الكبرى، والاتحاد الاقتصادي السوري-العراقي بعد الحرب العالمية الأولى . ذلك أن هذه المشاريع كانت تصب في مصلحة الديمقراطية والسلام، وكانت تتجاوب مع مطالب المواطنين . هذا ما أكدته مراجع كثيرة مثل المؤرخ و .غولد في بحث نشره في مجلة “تاريخ العالم الحديث” (22-3-1950) هذا على الصعيد الألماني، أما على الصعيد العربي . فما جاء في تقرير “لجنة كينغ كرين” الدولية حول مشروع سوريا الكبرى يدل على انطباق المعايير المشار إليها أعلاه على المشروع الاتحادي العربي . وكان الرئيس الأمريكي ويلسون بعث بهذه اللجنة بعد الحرب العالمية الأولى للوقوف على اتجاهات الرأي العام في المشرق العربي تجاه المشروعين العربي والصهيوني، فوجدت اللجنة أن المشروع العربي يحظى بتأييد الأكثرية الساحقة من سكان المنطقة آنذاك .
بين هذين النموذجين: الهتلري والوايماري (إن صح التعبير)، أين يقف اليوم مشروع منطقة التجارة الحرة الأطلسية؟ لا جدال في أن الدول الأطلسية هي الأكثر تقدماً في المضمار الديمقراطي، ولكن المشروع الأطلسي لا يحظى بالدعم الشعبي المطلوب . هذا ما أكدته صحيفة “وول ستريت جورنال” (10-2-2014) إذ أشارت إلى أن 35% فقط من الألمان يعتقدون أن “الولايات المتحدة هي شريك تجاري مؤتمن”، وإذا افترضنا أن تحقيق المشروع الاطلسي يخدم الديمقراطية داخل دول الاطلسي حيث إنه يسهل لهذه الدول الاستحواذ على الثروات الطبيعية للدول الصغيرة والمتوسطة، فإن مفعوله في هذه الحالة سوف يكون عكسياً، لأنه سوف يجلب السخط على حكومات الجنوب والعالم الثالث إذا اخفقت في حماية الثروة الوطنية . وهذه الحالة لن تكون وصفة صحية للتطور الديمقراطي في دول الجنوب والعالم النامي . فضلاً عن هذا وذاك، فإن المؤشرات تدل على أن في الإدارة الأمريكية من لا يعبأ بالسلام العالمي، بل من يحرض بلاده ودول الأطلسي الأخرى على تجديد الحرب الباردة وعلى طرق باب الخيارات العسكرية في التعامل مع الشعوب والدول الأخرى .
لعل موقف هذه الجماعات من مسألة تخفيض التسلح الأمريكي وتمسكها بالأسطول الحربي رغم تكلفته الباهظة التي يدفع ثمنها دافع الضرائب الأمريكي أبلغ مثال على النفوذ البالغ الذي تمتلكه هذه الجماعات حتى في إدارة باراك أوباما، رغم تأكيده المستمر على حرصه على السلام العالمي وعلى مد يد التعاون مع الدول الأخرى . ان هذه المؤشرات قد لا تضع “الانشلوس” الأطلسي في مصاف المشروع الهتلري، ولكنها، من الناحية الأخرى لا تضعه في مصاف المشاريع “الوايمارية” التي تستحق التأييد والتعاطف، بل الحذر والتحسب . إن مشروع المنطقة الأطلسية لا يحفز قوى التقدم في العالم على الإسهام النشيط في تنمية البشرية، إنه انطلاقاً من الأنانية القومية المتطرفة سوف يكون عقبة أمام انتشال البشر من الفقر ومن الأمراض الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعرقلة للتقدم .



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 18 / 2165543

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

2165543 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 10


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010