الجمعة 14 شباط (فبراير) 2014

أوباما في الرياض: الإتفاق على الإختلاف

الجمعة 14 شباط (فبراير) 2014 par محمد قواص

أياً تكن النتائج التي ستسفرُ عنها زيارةُ الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى السعودية في الشهر المقبل، فإن الرياض والعالمَ العربي يدركان أن الولايات المتحدة تغيّرت، وأن طبيعةَ العلاقات الراهنة والمقبلة بين واشنطن والمنطقة شابها تبدلٌ بنيويٌ قد لا ينتهي بانتهاء ولاية أوباما في البيت الأبيض.
وما طرأ مؤخراً بين الرياض وواشنطن ليس خلافا بين حليفين أو تباينا في وجهات النظر، بل شرخاً تاريخياً وصدعاً مفصلياً يصعبُ رأبه. فلأول مرة تشعرُ الطبقة السياسية في السعودية أن الأمن الاستراتيجي للملكة ودول الخليج مهددٌ، ليس بسبب الأخطار الكلاسيكية التي جابهتها تاريخياً بالتنسيق والتحالف مع الولايات المتحدة، بل بسبب سياساتِ واشنطن نفسها، والتي تسلكُ تحت إدارة أوباما سلوكاً مرتبكاً متردداً غريباً عن السياق التقليدي المعروف للسياسة الأميركية في المنطقة منذ روزفلت.

وفق الارتباك الصبياني الذي طبعَ مواقفَ واشنطن منذ اندلاع “الربيع العربي”، فَقَدَ باراك أوباما كثيراً من شعبيته لدى الرأي العربي العام (التي توّجها خطابه في القاهرة)، كما فَقَدَ ثقة أصدقاء الولايات المتحدة التاريخيين في المنطقة. بدا أن واشنطن – أوباما لا تحسبُ حساباً لأصدقائها، طالما أنهم أصدقاء، وتهتمُ بمداراة خصومها، طالما أنهم خصوم. وظهرَ أن الاستدارة الأميركية التي بشّر بها الرئيس في أول إطلالته على البيت الأبيض عام 2009، أخذت شكلاً فوضويا يشبه انسحاب المنهزمين. لا طائل من التشكيك في أهلية أوباما كرئيس للولايات المتحدة على ما فعلت صحفٌ أميركية عديدة، ولا نفع في اتهام الرجل بالسذاجة والبساطة في السياسة الخارجية وقصوره عن فهمِ المقاربات الدولية، على ما يفعل بعضُ خصومه في الكونغرس. فما ينطقُ به أوباما يعبّر عن تبدّلٍ في عقليّة الحكم كما في عقليّة العامة.

فرضت التجاربُ العسكرية الأميركية في السنوات التي سبقت وصول أوباما للرئاسة، خلفيةَ إحباطٍ جعلت من الخيار العسكري أمراً مقيتا ترفضه القيادات العسكرية الأميركية قبل السياسية. كما أن نكسات العراق وأفغانستان، وما تلاها من اهتمام بسياقات الانسحاب من البلدين، أحالت خيارات الحرب علقماً مرفوضا شعبياً، لم يعدْ التسويق لها سلاحاً انتخابيا على ما كانت الولايات المتحدة تبرع فيه.

وفيما دار، ويدور، نقاشٌ سياسي وصحافي حول نجاعة قرارات أوباما في الانسحاب من ميادين وعدم التورط في ميادين أخرى، فإن قياداتِ الأركان كما أجهزة المخابرات، لم تمانع ولم تمتعض، بل شجّعت ونهت عن خوض مغامرات أخرى.

نعم تغيرت الولايات المتحدة وخلعت رداءً وأسقطت قناعاً منذ أن انتخبت باراك أوباما، أول رئيس أسود في تاريخها، وأكدت هذا التغيّر بانتخابه لولاية ثانية. وإذا ما كان من حقّ الولايات المتحدة والأميركيين التغيّر، مع ما يسببه ذلك من نكسات للبعض في منطقتنا، فأنه حريٌّ بالمنطقة أن تأخذَ علماً نهائيا بذلك، وتعمل لما فيه مصلحتها في الأمن والسياسة والاقتصاد، بمقاربات خلّاقة جديدة تأخذُ في الاعتبار الخيارات البديلة التي لطالما تمّ إغفالها.

لن تغيّر زيارة أوباما للسعودية الشيء الكثير في خيارات البلدين الاستراتيجية. اعتمدت واشنطن سياساتٍ في مصر وسوريا وإيران (ودول أخرى) تتناقضُ كلياً مع السياسات السعودية. تواكب الخلاف، هذه المرة، بظهورِ سياساتٍ خارجية للبلدين متباعدة ومتناكفة. أظهرت الرياض دعماً معلنا لخارطة المستقبل في مِصر منذ إزاحة محمد مرسي عن الرئاسة، فيما غاصت واشنطن في مواقف سلبية رشحَ منها دعمٌ للإخوان المسلمين، قبل أن يجهد وزير الخارجيّة جون كيري بصعوبة في تدوير الزوايا، دافعا القاهرة نحو التقرّب من موسكو البعيدة عنها منذ استراتيجية السادات المتوائمة مع رياح واشنطن.

أظهرت الرياض تأييدا علنيا للمعارضة السورية ودعما سياسيا ولوجيستيا لإبعاد بشّار الأسد عن أي مستقبل له في سوريا، فيما تراجع الأميركيون عن الدعم العسكري لتلك المعارضة، ورفضوا قيادة جهدٍ دولي عسكري كان منتظراً ضد نظام دمشق.

أظهرت الرياض عزماً على مكافحة النفوذ الإيراني في لبنان من خلال الإعلان عن دعم الجيش اللبناني بثلاثة مليارات دولار من الأسلحة الفرنسية. في خيار الرياض التمويلي كما في اختيارها جهة التسليح نأيٌّ واضحٌ عن واشنطن ومناكفةٌ لسياستها التي تكادُ تكون غائبة في شؤون لبنان.

على أية حال، لاحت قمةُ التناقض وفاض كأسُها بعد الاتفاق المرحلي بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد. ذلك أن الاتفاق يتوّج مفاوضاتٍ سرية جرت بين الإيرانيين والأميركيين استضافتها الجارة مسقط دون أي تنسيق أو استشارة للحليف في الرياض.

تراكمت “الزلّات” الأميركية منذ أن سببت السياسة الأميركية في العراق وقوع البلد في دائرة النفوذ الإيراني على نحو يشي بأن الأمور ليست مجرد “زلّات”. تذهبُ الولايات المتحدة منذ تبدّل أولوياتها باتجاه آسيا، ومنذ أن قلبَ النفطُ الصخري خارطةَ الإنتاج النفطي في العالم، باتجاهاتٍ ستكون بعيدةً عن تلك التي عرفها أهلُ المنطقة منذ خمسينات القرن الماضي. تعلمُ الرياض ذلك، وتعرفُ أن قمّة أوباما والملك عبد الله هدفها قراءة مشتركة لما تبدّلَ في واشنطن وما سيتبدّلُ حكما في مقاربات الرياض.

تحدثت الصحف الغربية عن أن “الزيارة هدفها طمأنة المملكة”. في تلك الخلاصات قناعةُ هذه الصحافة أن القلقَ مستوطنٌ في الرياض. في تقييم تلك الصحافة تبسيطٌ استشراقي. ذلك أن السعودية غاضبة، وعبّرت عن ذلك مباشرة أو عبر تسريبات إعلامية عن تحالفاتٍ دوليّة بديلة قيد الدرس. بيد أن القلقَ ينسحبُ أيضا على الولايات المتحدة نفسها التي يعرفُ رئيسُها الزائر أن سياسته ستبقى عرجاء ركيكة دون دعم الأصدقاء، لا سيما المملكة، التي تملكُ ما تملك في ملفات أساسية في الاقتصاد والسياسة والأمن. وينسحبُ القلق على إيران، التي لا ينفكّ وزير خارجيتها يرددُ بضرورة الوفاق مع السعودية، لاستحالة تمكّن طهران من ولوج عالم ما بعد “جنيف النووي” دون صفقة تاريخية كبرى لن تتم دون شراكة سعودية كاملة.

يزورُ أوباما السعودية التي تتهمها دمشق بأنها وراء جماعات الإرهاب والتكفير. في زيارة الرجل موقفٌ أميركي واضح من اتهامات دمشق (والرياض تُمعن في نفي ذلك من خلال قرارها الأخير بتجريم من يشارك من مواطنيها في أعمال قتالية خارج السعودية). لكن هكذا، بالصدفة العجيبة، وعشية زيارة أوباما للسعودية، تفرضُ واشنطن عقوبات جديدة على طهران لاكتشافها، الآن، دعماً إيرانيا مفترضاً لـ”النصرة”. هكذا أيضا يشنُّ الوليُّ الفقيه علي خامنئي هجوماً عنيفا ضد واشنطن متهما الولايات المتحدة بالعمل الدؤوب على إسقاط نظامه، فيما تعلنُ طهران عن “أسطول إيراني” يتجه صوب الشواطئ الأميركية. في تلك التطورات ما يوحي أن العصر الإيراني الجديد ما زال عصيّا، وأنه ما زال على أوباما الإنصات طويلاً لمقاربات الرياض.



الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 23 / 2165612

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقسام الأرشيف  متابعة نشاط الموقع أرشيف المقالات   ?    |    titre sites syndiques OPML   ?

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

2165612 مشتركو الموقف شكرا

Visiteurs connectés : 14


تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة للموقف وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010